آلية جديدة قد تعزز العلاج المناعي لسرطان المثانة

آلية جديدة قد تعزز العلاج المناعي لسرطان المثانة
TT

آلية جديدة قد تعزز العلاج المناعي لسرطان المثانة

آلية جديدة قد تعزز العلاج المناعي لسرطان المثانة

قد توفر إضافة دواء مضاد للالتهابات إلى العلاج المناعي وأدوية العلاج الكيميائي القياسية قمعًا طويل الأمد لنمو ورم المثانة العدواني، وفقًا لدراسة إثبات المفهوم لمشروع «سيدارز سينيا» للسرطان؛ التي تم نشر نتائجها بمجلة «نيتشر كوميونيكيشنز» المتخصصة، وقد تم إجراء الدراسة على فئران المختبر.
فقد توصل الباحثون بـ«سيدارز سينيا» بقيادة الدكتور كايث سايسون تشان مؤلف الدراسة الى أن الاستخدام المشترك لعقاقير العلاج الكيميائي «gemcitabine» و«cisplatin» غير قادر على تنشيط الاستجابة المناعية للمريض تجاه السرطان. ووجدوا أيضًا أن العلاج الكيميائي يحفز إطلاقًا ساحقًا لإشارة مثبطة أو «توقف» تثبط الاستجابة المناعية عن طريق إبطال إشارات «الانطلاق». وعندما أضاف المحققون عقار «سيليكوكسيب» المضاد للالتهابات إلى «جيمسيتابين» لإزالة التوقف، تمكنوا من تحويل التوازن نحو إشارات «الانطلاق» وتحسين الاستجابة المناعية في فئران التجارب، وذلك حسبما نشر موقع «ميديكال إكسبريس» البريطاني الطبي المتخصص.
وبناءً على هذه النتائج، اكتشف الباحثون آلية قد تؤدي إلى التأثير المثبط للمناعة للعلاج الكيميائي وتحديد كيفية مواجهته، وبالتالي تنشيط استجابة مناعية طويلة الأمد.
وفي هذا الاطار، قال الدكتور فوتيس نيكولو العالم بمشروع «Cedars-Sinai Cancer» المؤلف الأول المشارك للدراسة «نأمل أيضًا أن تكون نتائجنا ذات صلة بأنواع السرطانات الأخرى».
ووفقًا لمؤسسة رعاية المسالك البولية، يعتبر سرطان المثانة الغازي للعضلات عدوانيًا ومن المرجح أن ينتشر إلى أجزاء أخرى من الجسم.
وكل عام يتم تشخيص أكثر من 83000 حالة إصابة جديدة بسرطان المثانة لدى الرجال والنساء؛ ما يقرب من ربع هؤلاء الذين تم تشخيصهم حديثًا لديهم النوع الغازي للعضلات.

العلاجات السابقة والحالية
منذ الأربعينيات من القرن الماضي، كان العلاج الرئيسي لقتل الخلايا السرطانية يتمثل في عقاقير العلاج الكيميائي؛ التي تقتل الخلايا مباشرة. لكن العديد من الأدوية الحالية تفشل في إحداث الشكل الأكثر فاعلية لموت الخلايا والمعروف باسم موت الخلايا المناعي، والذي ينشط إطلاق البروتين الذي يوجه الخلايا المناعية للمرضى لقتل الخلايا السرطانية الغازية. حيث تحفز إشارة «الانطلاق» هذه الخلايا المناعية - التي تسمى الخلايا التغصنية - لتنشيط الخلايا التائية للقضاء على الأورام. وبدلاً من ذلك، فإن معظم العلاجات الكيميائية الحالية لسرطان البنكرياس والمثانة والثدي والمبيض ليست فقط غير مناعية، بل إنها تثبط جهاز المناعة.
وفي السنوات الأخيرة، تمت إضافة أدوية العلاج المناعي إلى أنظمة علاج السرطان لمساعدة الخلايا المناعية للمريض على مهاجمة السرطان، لكن معدل الاستجابة منخفض.
يقول نيكولو «في الوقت الحالي حوالى 70% إلى 80% من المرضى الذين يتناولون أدوية العلاج المناعي يفشلون في الاستجابة لها».

فك اللغز
ربما اكتشف الباحثون سبب فشل الجمع بين العلاج الكيميائي والعلاج المناعي في كثير من الأحيان. لكن في دراستهم الحالية، وجد الباحثون أن العلاج الكيميائي تسبب في إطلاق رائع للبروستاغلاندين E2 ؛ وهي دهون نشطة بيولوجيًا مرتبطة بالالتهاب والسرطان.
وفي هذا يوضح الدكتور كازوكوني هاياشي المؤلف المشارك في الدراسة، أن البروستاغلاندين E2 الذي يُسمى النمط الجزيئي المرتبط بالتلف المثبط أو iDAMP ، يمنع الخلايا المتغصنة من النضج ومكافحة السرطان.
ولمواجهة هذا التأثير، أضاف الباحثون إلى العلاج المناعي الكيميائي عقار «سيليكوكسيب».
وبين هاياشي أن الدواء المضاد للالتهابات يستهدف بروتين COX-2، الذي يعزز إفراز البروستاغلاندين E2. تسمح هذه التركيبة الدوائية للخلايا التائية القاتلة بالتسلل إلى لب الورم وقتل الخلايا السرطانية.
واضاف هاياشي «أن إضافة السيليكوكسيب لا يعمل بشكل جيد مع العلاج الكيميائي فحسب، بل إنه أيضًا يحسس أورام المثانة تجاه العلاج المناعي الكيميائي، مما يوفر استجابة طويلة الأمد».
ويخطط الباحثون لاختبار فعالية العلاج الجديد في تجارب بشرية عشوائية خاضعة للتحكم الوهمي بالتعاون مع زملائهم في «سيدارز سينيا كانسر» مع زملاء لهم إكلينيكيين في «ماونت سينيا»، بما في ذلك أولئك الذين يبحثون عن علاجات جديدة لسرطان القولون والبنكرياس.
من جانبه، قال الدكتور دان ثيودوريسكو مدير «سيدارز سينيا كانسر» أحد مؤلفي الدراسة «لقد أصبح تسخير الجهاز المناعي للمرضى لمهاجمة الخلايا السرطانية أداة مهمة للأطباء الذين يعالجون السرطان... بهذه النتائج المرضى الذين لا يستجيبون للعلاج الكيميائي والعلاج المناعي لديهم القدرة على تحقيق نتائج أفضل في المستقبل».



حافظ الأسد للجميل: جيشنا باقٍ في لبنان ما استمرت المكاسب الإسرائيلية

بيروت تحترق بالقصف الإسرائيلي خلال اجتياح عام 1982 (غيتي)
بيروت تحترق بالقصف الإسرائيلي خلال اجتياح عام 1982 (غيتي)
TT

حافظ الأسد للجميل: جيشنا باقٍ في لبنان ما استمرت المكاسب الإسرائيلية

بيروت تحترق بالقصف الإسرائيلي خلال اجتياح عام 1982 (غيتي)
بيروت تحترق بالقصف الإسرائيلي خلال اجتياح عام 1982 (غيتي)

تنشر «الشرق الأوسط» فصلاً جديداً من كتاب سيصدر قريباً لوزير الخارجية اللبناني السابق إيلي سالم بعنوان «الفرص الضائعة - من اتّفاق جلاء القوات الإسرائيلية إلى اتّفاق الطائف»، الذي يروي فيه تفاصيل ما عُرف بـ«اتفاق 17 أيار» الذي تم التوصل إليه عام 1983 بين الحكومة اللبنانية وإسرائيل عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام السابق. كان سالم وقتها نائباً لرئيس الحكومة وزيراً للخارجية في حكومة شفيق الوزان خلال حكم الرئيس أمين الجميّل. يصدر الكتاب عن دار «سائر المشرق» بالاشتراك مع الناشر والإعلامي أنطوان سعد.

**************

فيليب حبيب يلجأ إلى عصا رونالد ريغان

بعد عودتي من جولتي الطويلة التي شملت أيضاً زيارة خاطفة إلى باريس، حيث التقيتُ نظيري الفرنسي كلود سيشون، اجتمعتُ بفيليب حبيب الذي طلب أن نلتقي بعد عودته من إسرائيل. كنتُ آمل أن تكون محادثاتي في واشنطن قد ليّنت الموقف الإسرائيلي، غير أن الواقع أظهر زيادة في تصلّب موقف تل أبيب في قضية الرائد سعد حدّاد وقواته، وتشكيل القوة العسكرية اللبنانية، المفترض أن تتولّى أمن المنطقة الحدودية، فقد أصرّ الإسرائيليون على أن يتم اختيار كبار ضباطها بالتشاور مع لجنة عسكرية تضم ضباطاً لبنانيين وإسرائيليين. فاكتفيتُ بالقول لحبيب:

- إنك تعرف موقفنا من هذه المطالب، فلماذا تنقلها إلينا؟

- أنا وسيط وعليّ أن أنقل المقترحات الإسرائيلية والردود اللبنانية عليها. أما آرائي فسأقدّمها في الوقت المناسب.

- هذا هو الوقت المناسب. لا بد أن نتحرّك فأجواء المحادثات غير جيّدة.

الفرص الضائعة

وصل بي الأمر بعد أيام إلى حد إبلاغ موريس درايبر: «إن لم يغيّر الإسرائيليون نوعية الكلام معنا، فسنقطع المفاوضات. يظهر أن الشهية الإسرائيلية تزداد، ودوركم كشريك يبدو فاتراً وغير فعّال. إن الجنوب اللبناني يواجه المصير نفسه الذي واجهته الضفة الغربية وغزة. ينبغي أن نتحرّك قبل أن تنشأ وقائع جديدة على الأرض». بقي الأمر على هذا المنوال إلى أن شعرنا بتحسّن طفيف في الموقف الإسرائيلي في أوائل أبريل (نيسان)، وعزوناه إلى تصريح ريغان الذي أعلن فيه وقف تسليم طائرات «إف 16» إلى إسرائيل إلى أن تنسحب كلّياً من لبنان. فتذكّرت ما قاله لي حبيب قبل أيام: «سئمتُ من تقديم الجزر لإسرائيل طوال الوقت، أحتاج الآن إلى العصا، والعصا بيد ريغان».

بالفعل، تحرّكت الأمور. قدّم لنا موريس درابير، في 3 أبريل، مسودة الاتّفاق قائلاً إنها مقبولة من الفريق الإسرائيلي المفاوض، لكن ثمة اعتراضات عليها من الساسة الإسرائيليين، خصوصاً من (مناحيم) بيغن و(آرييل) شارون. اجتمعتُ وغسان (تويني) مع الرئيس (شفيق) الوزّان، وراجعناها ودققنا في نصّها مادة، وأدخلنا تعديلاتنا عليها. كانت المسودة لا تزال تنطوي على ألغام كثيرة، كمصير سعد حدّاد، وجبل الباروك، واليونيفيل وغيرها. لم يكن التحرّك كافياً، والألغام في المسودة تعني أن الاتّفاق لا يزال بعيداً، وصدقية الولايات المتّحدة آخذة بالتدهور، وحكومتنا تواجِه تململاً من تأخّر انسحابات كانت موعودة في نهاية العام الماضي 1982. وها نحن أنهينا الربع الأول من عام 1983، وليس من مؤشّر جدّي على اقتراب خروج القوات الأجنبية من لبنان. وعلى المستوى الشخصي، بدأ يظهر نوع من الانتقاد المتزايد في الوسط المسيحي بسبب موقفي من العرب، وصل إلى حد إرسال تهديدات لي عبر قنوات مختلفة. فوعدني الرئيس (أمين الجميل) بالتدخّل مع أصدقائه المسيحيين، مقترحاً أن أزيد عدد حرّاسي ومرافقيَّ لتدارك كلّ الاحتمالات.

اللقاء مع خدّام لم يكن بالهدوء نفسه... أخذ على عاتقه التعبير عن موقف الأسد بأكثر العبارات عُنفاً وحذّرني وهدّدني وذكّرني بالحجّاج بن يوسف

إيلي سالم، وزير الخارجية اللبناني

هذه الأجواء المتوترة أوصلت الرئيس الجميّل، رغم معرفته باستياء فيليب حبيب الشديد من شارون وموشي أرينز، إلى حد صبّ جام غضبه، في 14 أبريل، على حبيب من دون تحفّظ. أخذ يصرخ به وينظر إليّ ليتأكّد من أنه لم يتجاوز الأصول والحدود المقبولة، ويخرق الأعراف. كنتُ مسروراً في الواقع من موقف الرئيس، رغم ثقتي بأن حبيب لم يكن يحتاج إلى هذا التقريع، ويعرف المسائل على حقيقتها. غير أننا كنا مهتمّين بأن ينقل إلى إدارته مقدار غضبنا من حال المراوحة والمماحكة، واستياءنا الكبير، وأن يشعرها بأننا بلغنا أقصى حدٍّ من التوتّر والرغبة في استعجال ريغان و(جورج) شولتز وحضّهما على الضغط على بيغن وأرينز وشارون.

مما قال الجميّل يومذاك لفيليب حبيب: «ينبغي أن أكون صريحاً معك. إن الدور الأميركي في المفاوضات لم يكن كما توقّعناه. الرئيس ريغان أكّد لنا أن ثوابتنا الأساسية الثلاث لن تُمسّ: سيادة بلدنا، والإجماع الوطني، وعلاقاتنا مع الدول العربية. غير أن الضغط الأميركي في المفاوضات انصب علينا بشكل متواصل لتلبية مطالب الإسرائيليين، مما يوشك أن يمسّ بثوابتنا الثلاث. لقد ضغطت علينا واشنطن أكثر مما ضغطت على إسرائيل. وتنازلنا إلى أبعد مما كنا نتصوّر، ولا يمكن أن نتنازل بعد. فإما أن يكون الاتّفاق بحسب النص اللبناني، أو لا يكون. لا أريد أن أكون الرئيس الذي يوقّع اتّفاقاً يخرق سيادة لبنان ويمسّ كرامته. أنا مستعد لأن أغامر وأقود حملة من نوع آخر لتحرير بلدي، إذا لزم الأمر. إنكم تثيرون قضية سعد حدّاد للمرة العاشرة، لقد سئمت ذلك. (الرائد سعد) حدّاد مشكلتنا، إنها المرة الأخيرة التي أسمح لكم أو لأي شخص بأن يثيرها معي». فوعد حبيب بألا يثير مثل هذه القضايا مرة أخرى.

(...)

الرئيسان أمين الجميل وحافظ الأسد خلال قمة عدم الانحياز في نيودلهي عام 1983 (غيتي)

رسالة الأسد غير المؤرّخة وغير الموقّعة

تلقى الرئيس الجميّل من الرئيس الأسد في 28 أبريل، بواسطة مبعوث خاص، رسالة بخط اليد، غير موقّعة وغير مؤرّخة جاء فيها:

لقد أبلغنا الجانب الأميركي ما يلي: «لا نريد أن يكون هناك أي لبس بالنسبة إلى موقفنا، ونريد أن نتحدّث معكم دائماً بصراحة. ورغم أننا أكدنا موقفنا سابقاً من الوضع في لبنان، وحرصاً منا على ألاّ يساء فهم موقفنا، كما يبدو أحياناً من بعض التصريحات، فنحن نوضحه مرة أخرى: إننا نعتبر أية مكاسب يحققها الغزو الإسرائيلي للبنان تشكّل خطراً على أمننا الوطني والعربي، مما سيفرض علينا بقاء جيشنا في لبنان مستمراً ما استمرت هذه المكاسب. ومن الطبيعي أن نتمسّك بمقتضيات الأمن، خاصة وأن إسرائيل تبحث وتخطط لأعمال توسّعية متتالية بين وقت وآخر».

كان من الطبيعي أن نعقد اجتماعاً طارئاً مع الرئيس لتحليل أبعاد هذه الرسالة في هذا التوقيت من المحادثات، فحضرنا أنا والوزّان وتويني و(وديع) حدّاد. فكّرنا طويلاً في مضمونها، واستنتجنا أنها إشارة قوية بألاّ نتابع السعي إلى اتّفاق مع إسرائيل، مع أننا أنجزنا المسودة، ولم تبقَ سوى نقاط ثانوية تحتاج إلى حلول. واتّفقنا أن الأمل الوحيد المتاح أمامنا هو أن يغيّر الأسد رأيه حين نعرض عليه وثيقة الاتّفاق، ويسمع وجهة نظرنا واعتباراتنا، وحين يدخل على الخط وزير الخارجية الأميركية جورج شولتز الذي كنا ننتظر بفارغ الصبر أن يتداول مع الأسد في ما بجعبته من مسائل قال إنها تهم الأخير. وكنا متفائلين أن محادثات عالية المستوى بين شولتز والأسد ضرورية، إذا كان لا بد من تحقيق تقدّم حقيقي. أما أنا فكنتُ أفكّر بما قصده الرئيس السوري بكلمة «مكاسب»، فهي تحتمل مجلّدات من التفسير والتأويل والتنظير، وقد تنطوي على «لا» لاغية لكلّ كلمة أو قول أو نظرة.

وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز متوسطاً رئيس الحكومة اللبنانية شفيق الوزان والوزير إيلي سالم في القصر الرئاسي ببعبدا عام 1983 (غيتي)

بعد ساعات قليلة، ذهبنا أنا وفيليب حبيب إلى المطار لاستقبال شولتز. وفي طريق العودة، انطلق شولتز في الموكب الرسمي، فيما عدتُ وحبيب لإنجاز بعض التحضيرات قبل اجتماعنا بنظيري الأميركي في المساء. راح سائقي يتجوّل على مهل في شوارع الضاحية الجنوبية، الخطرة على الأميركيين. وفيما حانت من حبيب التفاتة إلى الوراء ولاحظ ألاّ سيارة أمن وراءنا، صاح: «يا سيد إيلي، يا معالي وزير خارجية لبنان، يا صديقي، هل تريد أن تقول لي إنك تتجول في هذه المدينة العنيفة والخطرة، من دون قوة أمنية خلفك؟ هل تعرف من يجلس إلى جانبك في هذه السيارة؟ هل تعرف كم من الناس يريدون رأسي؟ أدعو ربي ألاّ تكون واحدًا منهم؟»، فقلتُ للسائق الشاب أن يسرع، «فطار» بها، وعاد حبيب للشكوى متسائلاً: «أيّ الشرّين أهون؟ رصاصة في الرأس أم الاصطدام بحائط بسرعة 120 كلم بالساعة؟»، وغرق بعدها في صمت ووجوم، على غير عادته. إذّاك علمت أنه عندما يخاف ينقطع نفسُه كلّياً.

مساءً اجتمعنا بشولتز، وقلنا له إننا نريد اتّفاقاً يؤدي إلى انسحاب القوات الإسرائيلية ويكون مقبولاً من سوريا، فأجابنا بأنه يعتقد أن ما توصّلنا إليه يفي بالغرض. وأخبرنا أن بيغن أكّد له نيّته في المضي بالاتّفاق حتى النهاية وبالخروج من لبنان، لكنه حذّره من أن السوفيات غير مرتاحين للدور الأميركي، ولا يريدون له أن ينجح في تحقيق أي تسوية بمعزل عنهم، وهذا ما كنت لمستُه من اجتماعي بالسفير السوفياتي في نهاية مارس (آذار) الذي أشرتُ إليه في الصفحات السابقة. وأضاف وزير الخارجية الأميركي: «السوفيات يعرقلون. هم قادرون على خربطة الأمور، لكنهم غير قادرين على إنجاز اتّفاقات بين إسرائيل والدول العربية. أما أميركا فبمقدورها ذلك. لذا سيحاولون إفشال مهمتنا، لكننا لن نسمح لهم بذلك». وعن نفوذ السوفيات في دمشق، قال: «الأسد رجل مستقلّ، ويتّخذ القرار الذي يجده مناسباً، دون أن يتأثّر بالموقف السوفياتي. وبالإمكان إقناعه بأن الاتّفاق جيِّد». لقد كان شولتز واثقاً من أن الرئيس السوري سيقبل به، غير أننا لم نكن واثقين البتة.

الرئيس رونالد ريغان مع الرئيس اللبناني أمين الجميل في البيت الأبيض (غيتي)

استعرضتُ، باسم الجانب اللبناني، مسوّدة الاتّفاق، مادة، مادة، محدّداً ما يمكن أن نقبل به وما لا يمكن القبول به. لا يسعنا القبول بأن يوقّع الاتّفاق وزراء الخارجية، فلسنا بصدد معاهدة سلام، بل وضع ترتيبات أمنية يجب أن يوقّعها رئيسا الوفدين. كما أننا نعارض الاعتراف بإسرائيل، فاستعمال هذه العبارة يعني أننا عقدنا معاهدة سلام.

في اليوم التالي، في 30 أبريل، عقدنا اجتماعاً مطوّلاً مع شولتز لمتابعة البحث في المسوّدة، وفي ظل المعلومات المتوافرة عن تفكير الإسرائيليين ببدائل عن الانسحاب الكامل، أكدتُ لشولتز أنه إذا لم يخرجوا من الأراضي اللبنانية كافة، فلن يكون هناك اتّفاق. وافقني الوزير الأميركي الرأي، وطلب أن نحدّد خطياً ما نريده من الأميركيين. وأردف الرئيس الوزّان: «نعمل على صفقة كاملة، والمسار أمامنا ضيّق. كثيرون سيهاجموننا، رغم أننا نقوم بما في وسعنا لتحرير لبنان من الاحتلال». وحثَّ الوزيرَ الأميركي على أن يأخذ بالاعتبار وضعنا الصعب، وألاّ يحمّلنا أكثر من قدرتنا.

بعد الاجتماع، طلب الجميِّل من شولتز وحبيب ومني أن نوافيه تحت شجرة صنوبر في حديقة القصر، لاحتساء القهوة. بدا الوزير الأميركي متفائلاً حيال الموقف السوري بعد تلقيه دعوة لزيارة دمشق، قائلاً إن هناك أشياء كثيرة يرغب الأسد في مناقشتها معه، والولايات المتّحدة مستعدة للدخول في حوار معه بشأن قضايا إقليمية تهمّه. وهنا طرح الرئيس ستة أسئلة كنتُ أعددتُها وقدّمتها إليه، وراح حبيب يسجّلها:

1- إذا عجزنا عن التوصّل إلى اتّفاق مع إسرائيل بشأن الانسحاب الكامل، فأي مسار آخر يمكن للولايات المتّحدة أن تساعد فيه لبنان؟

2- إذا توصّلنا إلى اتّفاق، ورفضت سوريا الانسحاب من لبنان، باعتبار أن الاتّفاق يعطي إسرائيل مكتسبات في لبنان، فما مصير الاتّفاق؟

3- إذا أدّى عقد الاتّفاق إلى مقاطعة عربية لبضائعنا، فكيف يمكن لواشنطن أن تساعد؟

4- إذا تجاهلت إسرائيل الاتّفاق وانسحبت جزئياً، وعزّزت موقعها في منطقة أمنية لبنانية، فكيف يمكن أن تساعدونا على إخراج إسرائيل منها؟

5- إزاء النفوذ السوفياتي في المنطقة، والمعارضة السوفياتية لمبادرتكم في الشرق الأوسط، هل أنتم واثقون بأن هذا النفوذ لن يُفشل جهودكم في التوصّل إلى اتّفاق؟

6- في حال حدوث ما هو غير متوقّع، ووقعت حرب بين سوريا وإسرائيل، كيف يمكن إذّاك حماية لبنان واللبنانيين منها، لا سيما أن رحاها ستدور على أرضنا كما هو معروف؟

ثم قلت للوزير الأميركي إن الإجابات عن هذه الأسئلة هي بأهمية الاتّفاق ذاته، إن لم يكن أكثر، فوافقني على رأيي، واعتبرها مهمة وصعبة، وأشار إلى أنه سيتشاور بشأنها مع الرئيس رايغن. وأضاف أن الرئيس الأميركي وعد بأن بلاده ستساعد لبنان على الخروج من الأزمة، وهي ستقوم بذلك، لكنها لا تملك عصا سحرية. وأقرّ بأن سوريا لن تكون سهلة، ولكن اتّفاقاً جيّداً يخرج إسرائيل من لبنان، سيستقطب الدعم العربي العام ومن ضمنه سوريا. وقال إنه يتوقّع عملية دبلوماسية طويلة، إلاّ أنه واثق بالنتيجة، لأن البديل هو احتلال إسرائيل لعاصمة لبنان نفسها، بكل المخاطر التي تنطوي عليه.

الدبابات الإسرائيلية تحاصر بيروت في 21 يوليو 1982 (أ.ف.ب)

في اليوم التالي، يوم الأحد في 1 مايو (أيار)، التقت المجموعة نفسها تحت الصنوبرة عينها، وقال لنا الوزير الأميركي إنه فكّر في الأسئلة، واستشار رئيسه بمضمونها، وسيقدّم إجابات عنها. في ما خصّ الاتّفاق، شدّد على أنه يجوز وضع احتمال الفشل في التوصّل إليه، لأن تداعيات الفشل وخيمة على لبنان وإسرائيل والولايات المتّحدة، وتتراوح بين استمرار الاحتلال ووقوع المزيد من الحروب في المنطقة.

في موضوع سوريا، شدّد على وجوب الاستحصال على قبولها بالاتّفاق، «سنفاوضها، ولدينا بعض النفوذ في العاصمة السورية، أكثر مما هو ظاهر. وإذا كان للسوفيات نفوذ فيها، فهو لا يُذكر قياساً مع حرية الرئيس الأسد في أخذ القرارات. الأسد يتصرّف باستقلالية كاملة. ولا يتأثّر سوى بالمناخ العربي العام. سنعمل من هذه الزاوية. سأجتمع به قريباً. وأعتقد أنني أستطيع التعامل معه. أعرف هواجسه. هو قومي، وأظن أن الاتّفاق يخدم الغاية القومية على أفضل وجه. بالنسبة إلى المقاطعة، لكم الحق في أن تقلقوا».

أشار الوزير الأميركي أيضاً إلى خشيتنا اندلاع حرب بين سوريا وإسرائيل في لبنان، وشاطرنا القلق من هذا الاحتمال، بنتيجة وجود السوفيات في دمشق، وتقديمهم بعض الأسلحة المتطورة إلى الجيش السوري. وفي حالة الحرب بين إسرائيل وسوريا، من المحتمل أن ينجرّ إليها السوفيات، و«هذا أمر خطير لا يمكننا أن نتفرّج عليه مكتوفي الأيدي». وأضاف: «سنحاول إقناع السوريين بأهمية الاتّفاق. الأسد رجل واقعي، وغير مأخوذ بالآيديولوجية التي يستغلها بذكاء كبير. لا شك أنه سيغيِّر موقفه بعد أربعة أسابيع على حد أقصى». أصغيتُ إلى إجابات شولتز باهتمام، غير أنني لم أقتنع.

نيوب الليث: بين فكّي الأميركيين والسوريين

كانت لا تزال الدبّابات الإسرائيلية تَجوب شوارع بعبدا الضيّقة، عندما قصدتُ دمشق في الثاني من مايو 1983 لتقديم عرض كامل للرئيس السوري حافظ الأسد عن مشروع الاتّفاق. لا حاجة للاستفاضة في الأهمية التي كنا نعلّقها على هذا الاجتماع، يكفي القول إن جميع المعنيين بالمسألة اللبنانية كانوا على يقين بأن فرص نجاح تنفيذ الاتّفاق ستتضاعف، إذا وافق عليه الأسد. أما في حال لم أنجح في إقناعه به، كما كانت تؤشّر كلّ المعطيات الآتية من دمشق، فهذا كان يعني أن مشروع الاتّفاق سيدخل في نفق طويل، تتساوى فيه على الأقل فرص النجاح والفشل، وإن كنا نعوّل على وعود الدولة العظمى التي قال وزير خارجيتها الأكاديمي الذي يُفترض أن يبني معطياته على وقائع ثابتة وواقعية، إن لديه منها ما يجعله يعتقد أن بإمكانه أن يُقنع الأسد، حليف الاتّحاد السوفياتي، لكن المستقل القادر على اتّخاذ قراره بمعزل عن نيات موسكو.

ركبتُ الطوافة العسكرية التي كان يقودها ابن عمي العقيد عبد الله سالم من مقر وزارة الدفاع في اليرزة، وبرفقتي المستشار الرئاسي جان عبيد والعميد الركن عباس حمدان. فقد كنتُ أستحسن أن أصطحب جان معي للاجتماع بالرئيس الأسد لعمق الصداقة الشخصية بينهما. وكثيراً ما كان جان يعلّق على أسلوبي بالعمل أو بالتعاطي مع الناس أمام الأسد، بكلمات ظريفة ذكية على عادته، ودائماً بهدف تحسين العلاقة بين لبنان وسوريا من زاوية إدخال العامل الشخصي فيها (...)

إيلي سالم في صورة تعود إلى عام 1983 (غيتي)

طرنا باتّجاه عاصمة الأمويين مستعيداً في ذاكرتي الأكاديمية معاوية بن أبي سفيان، في رحلة استغرقت نحو ثلاثين دقيقة، حطّت بعدها الطوافة في مطار المزّة حيث استقبلنا الوزير خدّام وعدد من كبار المسؤولين السوريين. وأقلّني خدّام بسيارته الخاصة، وهي من نوع مرسيدس مصفّحة ضد الرصاص، إلى مقر الرئاسة السورية. استقبلني الرئيس الأسد، الذي حرص منذ اللحظة الأولى على إشعاري بالود إلى أقصى حدّ، على الصعيد الشخصي، وبالتشدّد إلى أقصى حد، على الصعيد السياسي. قدّمتُ له عرضاً مفصّلاً لمختلف القضايا التي نشأت أثناء المفاوضات، متطرّقاً إلى الخلفية التي خضنا المحادثات على أساسها، والأهداف التي رسمناها، منذ البداية. وأوجزتُ المطالب الإسرائيلية التي رفضناها بإصرار، منذ ورود ورقة شارون التي ما فتئت تظهر بين الحين والحين، إلى أن أسقطناها نهائياً. كذلك وضعتُه بالتفصيل على مداولات اجتماعاتنا المطوّلة بالوزير الأميركي جورج شولتز. وقلتُ له إن النصوص التي سأعرضها عليه لا تزال أولية وقيد التمحيص والدرس من جانبنا ومن الجانب الإسرائيلي، وإننا نتوقّع التوصّل إلى نص موحّد خلال أسبوع أو أسبوعين.

قرأتُ وشرحتُ له مقدّمة الاتّفاق المقترحة التي نعتبر فيها أن حالة الحرب انتهت بين لبنان وإسرائيل، فسألني: «هل لبنان ملزم، بنتيجة ذلك، بالانسحاب من معاهدة الدفاع العربي المشترك؟»، فأجبتُه بالنفي. ثم قارنتُ الترتيبات الأمنية الواردة فيها، بترتيبات اتّفاق الهدنة المعقود سنة 1949، وكذلك الأمر بالنسبة إلى وصف مهمة لجنة الاتّصال المشتركة وأعداد القوات العسكرية التي لها الحق بالانتشار في المنطقة الحدودية وأنواع الأسلحة المسموحة فيها، والمسائل المحيطة بهذه المسألة. كان الأسد يصغي إلى عرضي بانتباه لافت، واستوقفني مرات عدة، لا سيما لدى ذكر تفاصيل متعلّقة بالقضايا العسكرية والأمنية. وبما أن الأسد كان طياراً مقاتلاً، فقد أبدى اهتماماً خاصاً بنواحي الاتّفاق المتعلّقة بالمجال الجوي، وتوقّف عند الترتيبات الأمنية القريبة من الحدود السورية. وأعرب عن استغرابه لرفض إسرائيل السماح لقوّات «اليونيفيل» بأن تنتشر في المنطقة الأمنية. كما سأل: «هل سيعطي الاتّفاق الطيران الإسرائيلي حق التحليق فوق الأراضي اللبنانية؟»، فأكّدتُ له أن الالتزام الدقيق بالاتّفاق يمنع القوّات الإسرائيلية من اختراق أراضينا، براً وبحراً وجواً.ظهر عليه ارتياح سرعان ما بدا أنه عابر، عندما بدأ الأسد يستعرض موقف سوريا بشأن مسودة الاتّفاق. استهلّ حديثه بالقول إنه يتعاطف مع موقفنا ويقدّر ظروفنا الصعبة، غير أن وجهة نظره تختلف عن وجهة نظرنا. واستعاد قول الرئيس الجميّل له في نيودلهي «إن سوريا تستطيع أن تعيش من دون مرتفعات الجولان، ومصر بلا سيناء، أما لبنان فلا يستطيع البقاء من دون العاصمة والمنطقة الواقعة جنوبها». وأضاف: «هذا غير صحيح. فلكلّ بلد مشاكله وتحدّياته وأثناء الحرب يتكتّل الناس ويتّحدون». وانتقل في حديثه إلى التمهيد لفكرة رفض التفاوض والاتّفاق مع إسرائيل والانخراط في مقاومتها عسكرياً، قائلاً إنه لا يصدّق أن إسرائيل تستطيع أن تقسّم لبنان وتنشئ دويلات طائفية صغيرة، لأن مجرّد التفكير بتقسيم لبنان سيؤدّي إلى حربٍ إقليمية لها تداعيات دولية خطرة. ليخلص إلى القول: «اللبنانيون، إذا اتّحدوا، يستطيعون أن يخرجوا إسرائيل. النضال فقط هو ما يحرّر الأمم. نحن حرّرنا سوريا من العثمانيين، ثم من الفرنسيين، ولم يكن عندنا جيش كبير. الآن لدينا جيش قوي وبوسعنا أن نفعل أكثر. التحرير عمل الشعب؛ وإنما يستغرق وقتاً أطول ويتطلّب تضحيات أكثر». ولباقةً مني لم أذكّره بالتاريخ، فهو لم يحرّر سوريا من العثمانيين، بل الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. والرجوع إلى التاريخ خطير مع الرئيس الأسد إذ إن اجتهاده في هذا المجال لا يلتزم تماماً بواقع الأمور، والبحث في التاريخ معه يجُرُّك إلى مجالات تتجاوز اتّفاقنا الأمني مع إسرائيل.

السوفيات يعرقلون. هم قادرون على خربطة الأمور، لكنهم غير قادرين على إنجاز اتّفاقات بين إسرائيل والدول العربية. أما أميركا فبمقدورها ذلك. لذا سيحاولون إفشال مهمتنا، لكننا لن نسمح لهم بذلك

جورج شولتز، وزير الخارجية الأميركي

أسوأ من «كامب ديفيد»

حافظ الأسد وإلى يساره عبد الحليم خدام عام 1999 (غيتي)

بعد ذلك شدّد على أن إسرائيل غير قادرة على البقاء في لبنان إلى ما لا نهاية، لأن انتشار قواتها فيه مُكْلف، واقتصادها على حافة الإفلاس، والمسألة مسألة: «عض على الأصابع»، إسرائيل تؤلمكم وأنتم تؤلمونها. عليكم أن تتحمّلوا الألم. العرب كلّهم معكم. عليكم ألاّ تتعاملوا مع إسرائيل. حسني مبارك نفسه لم يقبل بزيارة إسرائيل. هو إنسان طيب، أعرفه جيداً. وهو ليس مسؤولاً عن كامب ديفيد. «ثم تساءل قائلاً: ما حاجة لبنان إلى اتّفاق مع إسرائيل؟ موقفه قوي، وحكومته تتمتّع بدعم وطني واسع، وهي محترمة في العالم العربي، وضع لبنان أقوى من سوريا وإسرائيل. إسرائيل لم تأتِ لمحاربة لبنان، فلماذا عليه أن يدفع الثمن؟»، كان طلبُ الأسد واضحاً: عليّنا ألا نتفاوض مع إسرائيل بشأن احتلالها لأراضٍ لبنانية، لأن هذا الاحتلال مخالف لمسار التاريخ. كان الأسد يحبّ دائماً العودة إلى التاريخ. علينا برأيه أن نقاتل ونقاوم مهما كان الثمن غالياً على مختلف الصعد.

أجبتُه من زاوية القلق على تداعيات وجود الإسرائيليين على التركيبة اللبنانية والدور التخريبي الذي يلعبونه مع الفئات اللبنانية لناحية تأليب بعضها على البعض الآخر، في بيروت والجبل والجنوب والضاحية الجنوبية من بيروت. وأضفتُ: «أنا خائف من سياستهم، إنهم يحتلّون الأرض، ويتدخّلون بين اللبنانيين. إن هوية لبنان الوطنية لا تزال ضعيفة، لذلك سوف يستغلّون هذا الأمر، وكلّما بقوا عندنا أكثر، كلّما تغلغلوا في نسيجنا الطائفي أكثر. هذا فضلاً عن علاقاتهم مع القوى السياسية وكبار السياسيين اللبنانيين، وبعضهم من أتباعكم، يجتمعون سرّاً وعلناً مع شارون، ويدعونه إلى تناول العشاء في بيوتهم أو حتى في مطاعم بيروت الفاخرة. لذا يجب أن نحاول إخراجهم قريباً، قبل أن يتعمّقوا أكثر. انظر ماذا يفعلون في الجولان، لا يمكننا أن ننتظر التاريخ. لقد اكتشفنا الإسرائيليون كوجهة سياحية، وهذا لا يُحتمل. إنّهم في بيروت، وليس في الجولان. بيروت هي القلب، والجولان هو الذراع. لذلك يجب أن نتفاوض، إذا قاتلنا سنخسر ولن يرحمنا التاريخ».

أصغى الأسد بانتباه، لكنّه لم يغيّر موقفه. جلستُ وتحدّثتُ معه لمدّة ساعتَين أو ثلاث أو أربع ساعات، ذهبتُ إلى المرحاض خلالها ثلاث مرّات، لأعود في كل مرّة وأجده في مكانه الذي كان فيه. لم يتحرّك مطلقاً، محافظاً على طريقة جلوسه الشهيرة. في المرة الثالثة، سألتُه:

- كيف يعقل أنّك، خلال ذهابي ثلاث مرّات، لم تتحرّك؟

- يا دَكتور! لا تنسَ أنّني طيّار مقاتل.

- ماذا؟ لديك عبوة مخفية؟

آليات إسرائيلية خلال تقدمها في اتجاه بيروت عام 1982 (غيتي)

- ضحك وضحك من كلّ قلبه، ثم أردف: أنت تعرف، أنه منذ زمن بعيد هناك بلاد الشام، وتشمل هذه البلاد لبنان وفلسطين وسوريا والأردن وأجزاء من أراضي ما بين النهرَين، دجلة والفرات (العراق حالياً)، واعتُبِرَت دمشق العاصمة الوطنية والطبيعية لهذه البلاد. كان الأمر كذلك، وأكثر في أيام الأمويين. لا نحب الادّعاء كثيراً، إنّما في هذه البلاد، يجب أن تُتّخذ القرارات الأكثر أهمية في دمشق، أو يجب على الأقل أن تحظى بموافقتنا دائماً.

(...) انتقل الأسد بعدها إلى انتقاد الولايات المتّحدة لدورها في الدفع باتّجاه التوصّل إلى اتّفاق مع إسرائيل مقابل انسحاب قوات الأخيرة من لبنان، معتبراً أن الانسحاب يجب أن يكون فقط في إطار قرار مجلس الأمن رقم 425. وأضاف: «إذا حقّقت إسرائيل مكاسب في لبنان، فإن الجيش السوري لن ينسحب منه. والقول إن خروج القوات الإسرائيلية يخفّف الضغط على سوريا في لبنان، لا معنى له. إن الجيش الإسرائيلي في لبنان لا يخيفني. لذلك ينبغي عدم استعمال انسحابه كوسيلة لإقناعي بالموافقة على اتّفاق لا أؤيده».

استمر الرئيس السوري بالتصعيد في مضمون كلامه، محافظاً في الوقت نفسه على نبرته الهادئة. ولعل عبقرية حافظ الأسد تتمثّل بقدرته على إعلان أسوأ المواقف بألطف الوسائل، وقلت له إن أسلوبه يذكّرني في ذلك اليوم بالقول الشهير لأبي الطيِّب المتنبي:

«إذا رأيتَ نيوب الليث بارزة فلا تظننّ أن الليث يبتسم»

عندما سمع هذا البيت، «كَيَّف»، وضحك كثيراً، لكن كلّما ازداد ضحكه ازداد تصلّبه. هنا قال الرئيس السوري بنبرته الهادئة إيّاها ما يقطع كلّ أمل في أن أتمكّن من إقناعه بمهادنة الاتّفاق على الأقل: «إن ما يقوم به لبنان في هذا الاتّفاق أسوأ من كامب ديفيد. إنهاء حالة الحرب يعني السلام. نحن قطعنا علاقاتنا مع مصر، لأنها عقدت معاهدة سلام مع إسرائيل. لذلك لا يمكن أن نختلف مع مصر، وألّا نختلف معكم».

أعدت محاولة شرح نقاط أساسية صرف النظر عنها، لكنها على درجة كبيرة من الأهمية بالنسبة إلينا، وقد اقتضت منا أشهراً من المفاوضات الشاقة مع إسرائيل. كانت مهمّة بالنسبة إلينا، لكنها لم تكن كذلك بالنسبة إليه، لكن عبثاً أحاول، فمفهومه مختلف، ووضعه مختلف، وأولوياته مختلفة. وهو بالتأكيد لن يتساهل معنا.

أما اللقاء مع خدّام، فلم يكن بالهدوء نفسه. لقد أخذ على عاتقه التعبير عن موقف الأسد بأكثر العبارات عُنفاً، وحذّرني وهدّدني وذكّرني بالحجّاج بن يوسف ذي «المآثر» في العراق. بعدما تعرّفتُ إلى خدّام وإلى طرقه وخلفياته وأسلوبه، تحضّرتُ جيداً للّقاء معه، كما ينبغي لاجتماعٍ على مستوى عالٍ من الدقة والحساسية بين وزيرَين للخارجية لدولتَين متجاورتَين تتداولان في أمور مصيرية. أعدتُ عليه بعض الاعتبارات التي سبق أن عرضتها معه في اجتماعنا السابق في لندن، وبعض الأفكار التي قدّمتها للرئيس الأسد، رغم اقتناعي بعدم جدوى المحاولة بعد الموقف الواضح الذي تبلّغتُه من الرئيس السوري.

اللبنانيون، إذا اتّحدوا، يستطيعون أن يخرجوا إسرائيل. النضال فقط هو ما يحرّر الأمم. نحن حرّرنا سوريا من العثمانيين، ثم من الفرنسيين، ولم يكن عندنا جيش كبير. الآن لدينا جيش قوي وبوسعنا أن نفعل أكثر

حافظ الأسد، الرئيس السوري