يعيش سمك «كيليفيش» الفيروزي اللون turquoise killifish في عالم سريع التحولات، إذ تتمثل بيئته الأساسية في البرك التي تظهر فقط خلال موسم الأمطار في شرق أفريقيا.
ومع تكون بركة جديدة، يضع سمك «كيليفيش» بيضه في النبع المائي الموحل. بعد ذلك، يفقس البيض وفي غضون 40 يومًا فقط ينمو السمك لحجمه الكامل، الذي يبلغ قرابة 2.5 بوصة (10 سم). وتعيش الأسماك وتتناول الطعام وتتزاوج وتضع البيض، وبحلول وقت جفاف مياه البركة، تموت جميعها.
وحتى عندما يقدم البعض على نقل الأسماك إلى حوض سمك، لا يتمكن سمك «كيليفيش» الفيروزي من البقاء لأكثر من بضعة أشهر، ما يجعله من بين أقصر الفقاريات عمرًا على سطح الأرض. لذا، فإن هذه الأسماك ربما لا تبدو الكائنات الأمثل لمحاولة سبر أغوار أسرار الحصول على حياة طويلة.
* حياة مضغوطة
إلا أن الباحثين توصلوا إلى أن هذه الأسماك تتقدم في العمر وتشيخ مثلنا تمامًا، لكن بسرعة أعلى بكثير. عن ذلك، أوضح إتامار هاريل، الباحث لدى جامعة ستانفورد، أن هذه الأسماك تمر بـ«حياة مضغوطة». كان هاريل وزملاؤه قد تمكنوا أخيرا من تطوير مجموعة من الأدوات لدراسة الجانب البيولوجي لأسماك «كيليفيش» الفيروزية.
ورغم أن الأشخاص المتقدمين في العمر قد يشكلون محور اهتمام أكثر منطقية للعلماء المتطلعين نحو اكتشاف آليات التقدم في العمر، لكن خطوات التقدم نحو الأمام على هذا الصعيد ستكون بطيئة للغاية.
في هذا السياق، تساءلت سارة جيه. ميتشيل، الباحثة لدى المعهد الوطني للتقدم في العمر: «من منّا يملك 70 عامًا للقيام بدراسة عملية التقدم في العمر التي يمر بها شخص آخر؟».
بدلاً من ذلك، سعى العلماء نحو كشف أسرار التقدم في العمر عبر سلسلة من النماذج الحيوانية، إلا أن أحدًا منها لم يتمكن من أن يعكس بصورة مثالية ما يجري للبشر.
ركزت ميتشيل في دراستها على الفئران التي تعيش لمدة تتراوح بين ثلاث وأربع سنوات. وعبر دراستها، توصلت لكيفية تحول الجينات لمستويات أعلى أو أقل من النشاط خلال المراحل المتقدمة من العمر، بجانب نجاحها في اختبار عقاقير جعلت الفئران تعيش لفترات أطول. وفي العام الماضي، كشفت ميتشيل وزملاؤها كيف أن مركبا يحمل اسم «إس آر تي 1720» SRT1720 كان قادرا على إطالة عمر الفئران بنسبة 8.8 في المائة في المتوسط مع تحسين حالتها الصحية.
ومع ذلك، فإنه حتى الفئران قصيرة العمر بإمكانها إحداث تباطؤ في وتيرة الأبحاث المعنية بالتقدم في العمر. وعليه، حول بعض الباحثين أنظارهم نحو دودة خيطية تدعى «الربداء الرشيقة» Caenorhabditis elegans، والتي تصل إلى مرحلة عمرية متقدمة في غضون بضعة أسابيع فقط. واكتشف العلماء أن بعض الجينات التي تؤثر على تقدم هذه الدودة في العمر، تعمل أيضا داخل الإنسان.
من ناحية أخرى، عندما التحقت آن برونيت بجامعة ستانفورد عام 2004 للعمل كأستاذة مساعدة في الجينات، بدأت في دراسة كل من الفئران والديدان، لكنها شعرت بغياب عنصر ما. ورغم أن الديدان تنمو بسرعة، فإنها عجزت عن طرح إجابات لبعض أكثر الأسئلة إلحاحًا بخصوص التقدم في العمر. مثلاً، نظرًا لأن هذه الديدان تفتقر إلى وجود هيكل عظمي، فإنه لا يمكن الاعتماد عليها في التعرف على أسباب هشاشة العظام.
بعد ذلك، أخبرها أحد الطلاب بشأن سمك «سكيليفيش» الفيروزي. ويذكر أنه بعد اكتشاف هذه الكائنات عام 1968، توصل العلماء لوجود تشابهات كثير بين التقدم في العمر لديها ولدى البشر.
* الأسماك والإنسان
من بين التشابهات أن عظام «سكيليفيش» الفيروزية تفقد بعضًا من حجمها، مثلما يحدث للإنسان. كما تتوقف الإناث عن إنتاج بيض مخصب، وتتداعى أجهزة المناعة لدى هذه الأسماك، بل وتتردى قدرتها على تعلم الأشياء الجديدة خلال الفترات المتأخرة من عمرها.
عام 2006، شرعت برونيت في تكوين فريق من الباحثين والطلاب لدراسة هذه الأسماك بمستوى جديد من التفصيل، إلا أن سلسلة من الانتكاسات تسببت في إبطاء وتيرة عملهم لسنوات.
على سبيل المثال، تسببت إصابة بعدوى طفيلية قضت على كل الأسماك التي كانت بحوزة الفريق. وبعد تطهير المختبر بأكمله، اضطر الفريق إلى إعادة العمل من الصفر.
وبمجرد توصل العلماء لكيفية الحفاظ على الحيوانات، عاود فريق العمل المعاون لبرونيت توجيه اهتمامه للمجهود العلمي. ونجح العلماء في تحديد تسلسل كامل الجينوم الخاص بـ«كيليفيش»، وحددوا الجينات المعروف عنها تأثيرها في عملية التقدم في العمر في كائنات أخرى، منها الفئران والبشر. بعد ذلك، بنى هاريل أدوات جزيئية تمكن فريق العمل المعاون له في استخدامها في دراسة جينات «كيليفيش». وبالاعتماد على تقنية جديدة يدعى «كريسبر» Crispr، نجح هاريل في اختراع مقص جزيئي يمكنه اقتطاع أي جزء من الحامض النووي لـ«كيليفيش» واستبدال آخر به.
ولاختبار أدواته، تفحص هاريل وزملاؤه جينا يسمى «تي إي آر تي»، والذي يحمي الحامض النووي من الاهتراء والتمزق. ويشفر هذا الجين بروتين يساعد في بناء رؤوس عند نهايات جزيئات الحامض النووي تسمى التيلومير.
يشبه التيلومير القطع البلاستيكية الصغيرة الموجودة عند أطراف أربطة الأحذية، وهي تحمي الحامض النووي من الاهتراء. ومع انقسام الخلايا، يصبح التيلومير الخاص بها أقصر، ومن المحتمل أن يكون لهذا التغيير دور في التقدم في العمر، لكن كيفية حدوث ذلك لا تزال سرًا يكتنفه الغموض.
* تغيير الجينات
وقد نجح هاريل وزملاؤه في تغيير جين «تي إي آر تي»، بحيث لم يعد بمقدور الأسماك إنتاج بروتين. وتمكنت الأسماك المعدلة من التطور بصورة طبيعية من الشكل الجنيني، لكن لدى وصولها مرحلة البلوغ عانت عددًا من العيوب.
مثلاً، فقدت جميع الذكور تقريبًا الخصوبة، بينما طرحت الإناث أعدادًا أقل من البيض. وقد ضمرت بطانة الأمعاء بهذه الأسماك، وانخفض مستوى إنتاج أجسامها لخلايا الدم. وأثارت هذه النتائج حيرة الباحثين، فمن ناحية، جاءت التغييرات التي لاحظوا حدوثها في الأسماك شديدة الشبه بما يحدث في البشر لدى التقدم في العمر. ومع ذلك، لم تمت الأسماك في وقت مبكر عن الأخرى التي كانت بداخلها جينات «تي إي آر تي» عاملة.
وشعرت برونيت بالإثارة حيال حصولها بسرعة على هذه النتائج من الأسماك. وعن ذلك، قالت: «إنها واحدة من تلك اللحظات في حياة العلم التي تحيا من أجلها». ونشرت وفريق العمل المعاون لها نتائجهم في دورية «سيل».
وتنوي برونيت التجريب مع جينات أخرى تخص أسماك «كيليفيش» المرتبطة بالتقدم في العمر والتي قد تم إغفالها في الحيوانات الأطول عمرًا. كما يأمل الباحثون في تجريب علاجات مقاومة للتقدم في العمر على الأسماك. يذكر أن عقارًا بمقدوره إطالة العمر لأسبوعين فقط قد ينير الطريق لإطالة عمر الإنسان لسنوات.
* خدمة «نيويورك تايمز».