هل انتهى زمن «القصيدة الأعجوبة»؟

بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب
TT

هل انتهى زمن «القصيدة الأعجوبة»؟

بدر شاكر السياب
بدر شاكر السياب

قد يمر العقد والعقدان أو الثلاثة ويندر التعجب من قصيدة بعينها، وربما يمرُّ عصر كامل بطوله وعرضه ولا نبوغ فيه لقصيدة تكون هي أعجوبة زمانها في الشعر. ولكن هذا لا يعني خلو هذه العقود أو العصر من قصائد ذات قيمة فنية وجودة جمالية.
وقد يحار النقاد وهم يبحثون عن قصيدة مختلفة في نفاستها، لتكون هي مثار نقدهم ومحط اشتغالهم؛ فلا ملل فيما يحللونه، ولا كلل فيما يفسرونه، بسبب ما في هذه القصيدة العجب من العطاء الذي لا نضوب معه، حتى أنهم كلما نقدوا هذه القصيدة بأدوات جديدة عادوا ليجدوا أن كثيراً مما لم يقولوه موجود فيها، وكامن بين سطورها.
لا شك في أن القصيدة العجيبة هي تلك الفريدة بين مثيلاتها، والنادرة في سماتها، والعزيزة في أن يكون لها شبيه يشاكلها؛ فهي أوحدية فيما تحمله من معنى غزير، وأحادية فيما تعطيه من زاد وفير وجمال منقطع النظير. فهي ديوان في قصيدة، وهي شعر عاشَر نثراً، ونثر عاقَر شعراً. وهي الواحدة التي فيها الاجتماع، والمجمع الذي تلتم فيه الواحدة.

عبد الرحمن طهمازي

وأحدث مثال لقصيدة عربية تعجبنا، وما زلنا نتعجب منها: «أنشودة المطر»، وأنصع مثال لقصيدة غربية ما زال نقاد الغرب يحرثون في أرضها ولم يقفوا على أعاجيبها بعد: «الأرض اليباب». وكم أثارت قصيدة «القطط» الاهتمام، حتى شُيدت عليها مدرسة شعرية جديدة ومغايرة في تاريخ الشعر الفرنسي. وكم كان لقصيدة «أوراق العشب» من الأهمية وهي تفتح نهجاً جديداً في تاريخ الشعر الأميركي.
ولكل زمان عجائبه وخرائده، وقد تتغير الأشياء في مدى قدرتها على إثارة العجب بحسب تغير الزمان وتبدل المكان وتنوع الحال والمآل؛ باستثناء أعاجيب الشعر، فإنها تظل مقاومة الدهر إبداعياً، فلا يغير مرور الزمان ولا انقضاء الآماد من جمالها؛ بل يزيدها خلوداً.
خذ مثلاً «ملحمة جلجامش» التي تظل حالة التعجب منها واحدة على اختلاف الأزمان. وكم مضى على قصيدة «قفا نبكِ» من زمان، وكم تغيرت الأحوال وتقلبت الظروف؛ لكن هذه القصيدة ما زالت تبهرنا، وكلما قرأناها أثارت فينا كوامن الجمال.
وقد تُولَد القصيدة العجيبة حديثاً؛ لكنها تستوقف الناظر إليها وتحضه على إطالة التأمل في جمالياتها، وما في ثناياها من إلماحات غائرة ومداليل ظاهرة أو مستترة، قلما نصادفها في قريناتها من القصائد المولودة حديثاً، أو التي وُلدت وغدت اليوم فتيَّة يافعة، أو تلك التي نضجت وصارت نماذج شاخصة.
فالقصيدة العجيبة لُقية في نفاستها وفرادة ما هو مخبوء في طياتها، وهي الأُعطية التي قيمتها في ندرة ما تدرُّه على قارئها من جمال وبذخ، مغطيين بغلال شفيفية التي ما إن يزيل القارئ بعضاً منها، ويعمل على كشفه، حتى يتحصل على ما تنطوي عليه سطورها من مكنونات، محتكماً مراراً وتكراراً إلى قراءتها والغوص إلى قراراتها. وكلما أعاد قراءة القصيدة، ازدادت هي في تمنعها بُعداً، وازداد هو في لهفته قُرباً، جرياً وراء أسرارها، لعله يظفر ببعض ما يجود به عجيبها، أو ما يسعفه وعيه وخبرته الجمالية من الطواف في حضرتها. وقد يُشْكِل عليه طول المطاف، فيكون الطواف حاكماً عليه بالدوران في متاهات جمالها، إلى أن يُسلم القياد في النهاية، مقراً بأن لهذه القصيدة العجب من المرونة والنفاذ ما يجعلها تتزأبق من يديه زبداً. وقد تخاتله غزالاً غراً، وتشاغله بين الفينة والفينة ظلاً لعوباً وصنيعة لغوباً؛ فيغدو حرياً بهذا القارئ وهو في حضرة هذه القصيدة العجيبة أن يتلو قول الجاحظ، وهو يختتم أحد كتبه: «ولو حكينا كل ما في هذا الجنس من الأقوال، وما يدخله من المقايسات والأشكال، لطال الكتاب ولملَّه الناظر المعجاب. وعلمنا أن الناظر فيه إن كان فطناً أقنعه القليل فقضى، وإن كان بليداً جهولاً لم يزده الإكثار إلا عيّاً، ومن العلم بما له قصدنا إلا بعداً، وبالله الكفاية والتوفيق».
ولعل عجيب القصيدة منزوٍ في بعضها، ولكنه طاغ على كلها. ولعله لا يظهر علانية ولا يرصد عياناً؛ لأنه فكر شعري في شعر فكري، أو لأنه عبور أجناسي في غزارة المباني والأشكال وعمق المحتويات والأفكار.
وكأن القصيدة تقصدت نفسها بنفسها، فتلاءمت مع التأمل تلقياً، وتناسبت مع التحليل نقداً، فما أشبهها بعيون شعرنا العربي قديمه وحديثه، وقد حفرت لها مكاناً وسطهن، وضمنت لها منزلة كمنزلتهن في تاريخ الأدب العربي.
إذن، هو الشعر نهر دائم الجريان، وأعلى مناسيبه القصائد العجاب؛ لكن ما بال زماننا! ألا توجد فيه قصائد عجب أو أعجوبات شعرية؟ وهل فُقد في زماننا أي عجيب على غرار زمن المعجزات الذي ذهب من دون رجعة؟ وماذا لو بحثنا في المنجز الشعري الراهن عن قصيدة بالوصف الذي قدمناه، فهل نجدها بين هذا الكم الكبير من الدواوين والمجموعات الشعرية التي تنتج يومياً ولا طائل نوعياً فيها؟
نقول إن القصيدة الأعجوبة على ندرتها هي حاضرة بيننا، بدليل أن عدم تعجبنا من وجودها هو مثار التعجب في بحثنا عن نموذجها العجيب. وليس السبب في عدم إظهار التعجب من قصيدة، هي أعجوبة شعر زمانها، بمنوط بالنقاد ولا القراء، وإنما هي الحياة نفسها في سرعة إيقاعها، فلا تترك للذائقة مجالاً كي تستقر، فتتذوق هاضمة ومستطعمة على مهلها، فتعرف الحلو من المر، وتميز الغث من السمين، والجيد من الرديء.
ومن ثم، تكون القصيدة العجيبة موجودة بين ظهرانينا؛ لكننا لا نراها إلا بالتأمل والتذوق والتمرس وإعمال الذهن وإشغال البال، انصرافاً عن الوجود، ورغبة في النظر إلى الموجود، استزادة من مرئيِّه، واستكناهاً للامرئي منه، واستمكاناً من الغيبي، واستطماعاً في الفيزيقي.
من هنا تكون ندرة القصيدة العجب هي نفسها ندرة القارئ؛ لكون أمر هذه القصيدة محكوماً به ومرهوناً بحنكته وهو يجول في تضاريس متنها، ويصبر على معرفة محورها وما يدور حوله منها، يمتحن ذائقته ويستكمل وعيه غير مستبطئ المحصلة ولا واقع في زلة، يقتنع بما لديه من قدرات تمكنه من تحصيل الدلالات، غير متعجل ولا مشتكٍ أو متأوه من ميزات العجب الشعري.
ومن دون ما تقدم، يفقد القارئ -حتى لو كان شاعراً- أي طاقة إيجابية تجاه الشعر والشعراء، فلا يملك غير اللوم والتقريع والتباكي على زمن الشعر الذي ولَّى، متهماً هذا ومهيناً ذاك غير عارف أن القصيدة العجيبة كامنة بين ظهراني زمانه.
ولن نمثل على هذا القارئ لكثرة أمثاله، ولكننا نمثل على القصيدة العجيبة لندرة مثالها. وهذا المثال هو قصيدة «تمرين على اليقين» للشاعر العراقي عبد الرحمن طهمازي، التي نشرت قبل قصيرة، كملحمة شعرية مدافة بحنكة تأويلية، ومصبوبة في قالب قصيدة النثر العابرة، وافية وكافية غير مستثقلة ولا نافرة، منسجمة انسجاماً بوحدة الجمل الشعرية، وهي ليست منبرية؛ بل هي تمقت المنابر صغيرها وكبيرها، بسيطها وعاليها؛ لا لشيء سوى ما فيها من تأمل استحوذ عليها، لتكون القراءة المتأمِّلة والمتدبِّرة أحق بها وأوجب.



«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ
TT

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

«معتقلون ومغيّبون»... التوثيق بالفنّ

ردَّ جان بول سارتر على سؤال «لماذا نكتب؟»، بالقول: «لأننا حين نفعل، نَكشِف، بحيث لا يمكن لأحد، بعد ذلك، أن يدّعي البراءة أو يتجاهل ما حدث». رفضاً للتجاهُل وتغليب السكوت، تُصدر دار «رياض الريس للكتب والنشر»، من بيروت، كتاب «معتقلون ومغيّبون» في القضية السورية، بيقين أنّ «الفنّ يوثّق والأرشيف يتحدّث»، كما أعلن غلافه الأحمر بتسجيله هذا الموقف.

انطلق الكتاب من واقع اعتمال مسألة الاعتقال والتغييب في وجدان عموم السوريين، وتحوّلها لتكون «من المشتركات الوحيدة تقريباً بينهم اليوم». تؤكد إنسانية الملف، وبُعداه السياسي والحقوقي، أهمية الكتاب، ليُكمل ما أرسته الملاحقات والدعاوى والأحكام القضائية في بلدان اللجوء، وتحديداً أوروبا، ضدّ مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

يعود الكتاب إلى ما وثّقته «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» التي تؤكد «بلوغ حصيلة الاعتقال التعسفي في سوريا منذ مارس (آذار) 2011 حتى مارس 2024 ما لا يقلّ على 156757 شخصاً، فيما بلغت حصيلة الضحايا بسبب التعذيب خلال المدّة عينها ما لا يقلّ على 15393 شخصاً. أما حصيلة الاختفاء القسري حتى 30 أغسطس (آب) 2023، فبلغت ما لا يقلّ على 112713 شخصاً؛ بشكل أساسي على يد النظام، تليه جميع قوى الأمر الواقع المسيطِرة».

هو لا يدّعي النقد الفنّي ولا البحث التحليلي، وفق مقدّمته. «إنما الكتابة التوثيقية والراصدة، تُسهم في بناء المعرفة عن واقعنا السوري، وتبحث وتُنقّب وتجمع وتؤرشف، وتربط الأحداث والأفعال». فترصد الصفحات الـ474 ثيمة الاعتقال والتغييب منذ عام 2011 حتى نهاية 2020، استناداً إلى ما شهده مجالا الفنّ والثقافة؛ وذلك على مستويين: الأول يرصد بشكل مباشر مبدعين اعتُقلوا أو خُطفوا أو قُتلوا ضريبةَ موقفهم المُعارِض من النظام، المُعبَّر عنه في أعمالهم الفنّية أو أنشطتهم الفعلية خارج الفنّ؛ وهو ما دَرَج بكثافة في سنوات الثورة السورية الأولى، ليرصد المستوى الثاني - عبر الأعمال الإبداعية المختلفة - مَن اعتُقل أو غُيِّب من المواطنين والمواطنات بُعيد الانخراط في الشأن العام والعمل المُعارِض.

طوال السنوات العشر الماضية، تتبَّع فريق «ذاكرة إبداعية» هذه الثيمة، مُحدِّداً الاعتقال الأول بأطفال درعا الذي شكَّل شرارة انطلاق الثورة السورية، مروراً بالتطوّرات والتحوّلات في مسألة الاعتقال والتغييب، سارداً تفاصيل الأحداث اللاحقة والمتوالدة من إضرابات وعصيان في السجون، وحملات وتحرّكات ومبادرات في الداخل السوري ودول اللجوء، وصولاً إلى جهود تدويل هذه القضية سعياً نحو العدالة، والتجاذبات السياسية حولها، والمحاكمات الدولية. ذلك وسط تأكيد الموثّقين على «الموضوعية والحيادية، بغرض تثبيت الأحداث وحفظها من الضياع».

يتناول كل فصل من الفصول العشرة التي تؤلّف الكتاب، سردية عام كامل؛ فيبدأ بمقدمة تُلخّص المعطيات والأحداث المفصلية خلال السنة، يليها عرض مفصَّل لِما توصّل إليه الباحثون من «انتهاكات النظام وكل قوى الأمر الواقع، والأحداث التابعة لها والناتجة عنها، وفق المكان والزمان، استناداً إلى مئات المصادر في كل فصل، وما تبع ذلك من تحرّكات داخلية وخارجية، شعبية أو فردية أو جماعية، وحملات في وسائل التواصل».

وبفعل البحث، اكتُشفت مئات الأعمال الفنية والثقافية، المرتبطة بالثيمة المُعالَجة بمختلف أنواعها، وجُمعت، ثم وُثِّقت تباعاً؛ لترصد خاتمة الكتاب امتداد الأحداث الرئيسية المتتابعة المتعلّقة بالاعتقال والتغييب، التي حصلت بعد عام 2020 حتى تاريخ الانتهاء من إعداده.

يضيف عرض الأعمال الفنية والإبداعية والثقافية، إلى جنس الكتاب التوثيقي، بُعداً بصرياً. فاللافتات، والغرافيتي، ولوحات الفنّ التشكيلي... المُحاكية للإشكالية، يَسْهُل تصفّحها بواسطة وسوم وفلاتر متنوّعة، مثل: أصناف، أصحاب أعمال، مناطق جغرافية، تواريخ، وسوم عامة ووسوم خاصة؛ إذ وُضعت لهذه الأعمال، بأغلبيتها، السياقات المرتبطة بها. أما دليل مشروع «معتقلون ومغيّبون»، فيحسبه الكتاب «الأول من نوعه الذي يجمع في مكان واحد جميع أنواع المبادرات المتخصِّصة أو التي تُولي موضوع الاعتقال والتغييب اهتماماً فريداً». ويتابع أنه «يحوي توثيقاً كبيراً للمبادرات، بلغت 155 مبادرة موزَّعة في تصنيفات متعدّدة، مثل: مراصد حقوقية دولية، ومراصد محلية وإقليمية، ومنظمات وجهات، ومجموعات، وحمَلات مُناصرَة ومبادرات فردية، ووسائل تواصل اجتماعي»، مع التأكيد على دور هذا الدليل في فهم طبيعة عمل المبادرات والأنشطة والفئات المُستهدَفة.

من الصعوبات والتحدّيات، وُلد الإصدار. فالكتاب يشير إلى شقاء تلك الولادة، لتضارُب تواريخ الاعتقال أحياناً، وتواريخ تخلية سبيل المعتقلين، وتواريخ تنظيم الحملات والمبادرات. ثم يتوقّف عند «تباين المصادر الحقوقية لدى تناول حدث بعينه واختلافها، بشأن أعداد المعتقلين والمختفين قسراً والشهداء تحت التعذيب». ويُكمل عدَّ صعوبات المسار: «صعوبات مُرهقة تتعلّق بروابط بعض المصادر، لاختفاء بعضها في أثناء العمل أو بعده لأسباب خارجة على إرادتنا؛ ما فرض البحث عن مصادر بديلة، وإضافة أخرى جديدة لدى مراجعة الدراسة وتدقيقها»، من دون استثناء تحدّي شحّ المعلومات والمصادر عن حدث، والتحدّي المعاكس ممثَّلاً بغزارة المصادر والمراجع والمقالات المتعلّقة بأحداث أخرى.

كثيراً ما تساقط دمعٌ خلال البحث والكتابة، وغدر النوم بالباحثين أمام هول الاعتقال والتغييب. ولأنّ كثيرين فقدوا قريباً، أو صديقاً، أو جاراً، أو حبيباً، شاؤوا الاعتراض على «وحشية الظلم»، مدركين أنّ «طريق العدالة الطويلة بدأت، ولو خطوة خطوة».