للوهلة الأولى قد تتوقع أنك ستقرأ في هذا الكتاب «شوبان على ضفاف النيل» الصادر حديثا عن الهيئة المصرية للكتاب، عن زيارة قام بها هذا الموسيقي البولندي العبقري الملقب بشاعر البيانو لمصر، لكن مؤلفه الدكتور فوزي الشامي، الباحث الموسيقي، الأستاذ بأكاديمية الفنون، يصطحبنا في رحلة من نوع خاص عنوانها العريض: إرث شوبان في القاهرة.
ومن المعروف، أن شوبان كرّس فنه لقضية وطنه وكفاحه ضد الاحتلال الروسي لبلده بولندا، ولهذا عجز الكثيرون بعد رحيله عن أن يجدوا فيه مؤلفا صنعته فرنسا التي رحل إليها ومات ودفن فيها، فقد حافظ على هويته البولندية وظلت روحه معلقة بها.
وكانت بولندا حين رحل عنها عام 1830 بركانا يغلي بالثورة والمقاومة المسلحة سعيا لتحرير الوطن من الاحتلال الروسي ولم تعد مكانا ملائما لفنان يريد أن يبدع في سلام، فلم يكن أمامه إلا أن يحمل السلاح أو يرحل ليواصل إبداعاته بعيدا في هدوء، فبموسيقاه يستطيع أن يتغنى بالوطن وأن يمجد ثورة بلاده ويوصل للعالم عدالة قضيته، لذا رجاه أصدقاؤه من الثوار أن يرحل إلى أي بلد آخر لأنه لن يتمكن من حمل السلاح والدفاع عن وطنه خاصة أن جسده كان هزيلا وعليلا.
وداع حزين
في مشهد وداع حزين ومؤثر أهدى إليه أحد أصدقائه لفافة بها حفنة من تراب الوطن آملين أن يرفع اسم وطنه بولندا وقضيتها بموسيقاه في أنحاء العالم بينما هم يحملون السلاح لتحريرها. فرحل إلى فيينا، لكنه عانى مرارة الغربة والمرض، ثم رحل إلى باريس متوسما فيها أملا أخيرا في الحياة قبل العودة إلى بلاده ولكن أمله في العودة لم يتحقق ولم تدم حياته طويلا وغادر هذا العالم وهو في التاسعة والثلاثين من عمره في باريس التي دفن جسده فيها ودفن قلبه في مسقط رأسه وارسو، حيث أوصى بذلك تاركا وراءه لوطنه وللبشرية إرثا من الإبداعات الموسيقية الخالدة.
نشأ فريدريك شوبان في عائلة محبة للموسيقى، لأم بولندية هي «يوستينا شريزانوفسكا» وأب فرنسي هو «نيكولاس شوبان». كانت الأم من النبيلات إلا أن ثروتها تبددت لسبب ما، فعاشت في ظل هذه الطبقة، وكانت عازفة للبيانو ومغنية سوبرانو، أما الأب فقد ولد في قرية «مارنفيل» بجنوب فرنسا ثم هاجر إلى بولندا حينما كان في السادسة عشرة من عمره واستقر في وارسو وهناك خالط الطبقة الأرستقراطية وعلية القوم وعمل مدرسا للغة الفرنسية لأبنائهم وأبناء عائلات النبلاء. كما كان عازفا على آلة الفلوت. كان فريدريك شوبان في مرحلة طفولته وصباه محبوبا من جميع من حوله، إلا أنه كان أينما ذهب يلمح الأسى والحزن في العيون على مستقبله المظلم بسبب مرضه، وكان يضيق صدره من كثرة الأوامر الصارمة التي تصدر له دائما بتوخي الحذر وألا يعرض نفسه لبرودة الجو حتى لا تسوء حالته الصحية.
أرملة شوبان
كان فريدريك هو الابن الوحيد لوالديه مع ثلاث أخوات أكبرهن «لودفيجا» التي تكبره بثلاث سنوات. بعد رحيله إلى فيينا، كانت تتبادل معه الرسائل دائما ثم زارته في إحدى المناسبات عام 1844 وعندما بدأت حالة فريدريك الصحية في التدهور طلب منها الحضور لتبقى معه فسافرت إلى باريس في أغسطس (آب) 1949 مع ابنتيها وزوجها الذي تركها وعاد إلى بولندا وبقيت لوديفجا مع فريدريك حتى فارق الحياة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 1849. وبعد وفاته قامت هي بتصفية كل أموره ومتعلقاته وجميع المخطوطات التي كتبها وشاركت في المزاد العلني الذي أقيم لبيع بعض أغراضه ووزعت جزءا من مخطوطاته على أصدقائه، ثم قامت مع باقي أفراد الأسرة بمراسلة الاسكوتلندية «جاين فيلهيلمينا ستيرلينغ»، عازفة البيانو الهاوية التي كانت تلميذة عند فريدريك ثم أصبحت صديقة مقربة منه لاحقا، وتم الترتيب معها للحصول على بعض مخطوطاته وعلى آخر آلة بيانو عزف عليها وكانت من طراز «بلايل»، كما حصلت على بقية حاجاته الشخصية المتبقية في باريس. ولقرب جاين من فريدريك فقد أهدى لها اثنين من مؤلفاته من «البالاد». ويذكر الكتاب أنه في عام 1848 اصطحبت جاين فريدريك في جولة لإنجلترا واسكوتلندا، ورغم أنه لا يوجد دليل حاسم على أنهما كان حبيبين، فإنه يشار إليها في كثير من الأحيان بعد وفاته على أنها «أرملة شوبان».
قدم فريدريك أول حفل له وهو لم يتعد سن التاسعة وأعجب الجمهور الحاضرين بعزفه إعجابا شديدا وصفقوا له طويلا مما دفعه إلى بذل مزيد من الجهد في التدريب وزاد ارتباطه بالبيانو. أنهى دراسته الجامعية في سن التاسعة عشرة بتقرير وضعه معلمه «إلسنر» كتب فيه: «موهبة استثنائية عبقرية»، ثم استكمل فيما يبدو مشواره مع الموسيقى باجتهاده الشخصي في مجال التأليف وعزف البيانو. وفي فيينا تعرف شوبان على المؤلف روبرت شومان «1810 - 1856» الذي شجعه وسانده وحضر حفله بالغ الأهمية ليستمع إليه ولشدة إعجابه كتب عنه في مقال شهير عبارته المعروفة: «أخفضوا قبعاتكم أيها السادة إنه عبقري». أصبحت أوروبا كلها معجبة بهذه الموهبة النادرة، ولم يبق فيها مثقف أو فنان لم يعترف بها وأسعد كل هذا شوبان كثيرا إلا أن نشاطه توقف فجأة عن إقامة الحفلات للجمهور، فلم يتجاوز عددها طوال حياته ثلاثين حفلة فقط.
ويوضح الدكتور الشامي أن هذا التوقف كان بسبب أنه استسلم للحياة السهلة وترك نفسه بين يدي الكاتبة والأديبة الفرنسية جورج صاند التي عرفه بها الموسيقي المجري «فرانز ليست» عام 1836. في بداية علاقتهما لم يتقرب إليها إلا أنه أصبح فيما بعد شغوفا بها. كانت امرأة قوية ولم تكن مناسبة له، ولا لمشاعره المرهفة التي تميل للانطواء والحزن، لكنه أحب فيها طباعها المغايرة لطباعه تماما. كانت أما لطفلين، ووجد لديها العطف الأمومي، حتى أنه كان ينفذ أوامرها بكل دقة، فقد وضعت نظاما دقيقا لحياته وكانت تنظم له الحفلات وتعد له اللقاءات.
تجليات مصرية
يذكر المؤلف أنه منذ ثلاثينات القرن الماضي حتى الستينات. وفي قلب القاهرة بالقرب من المتحف المصري العريق في شارع شامبليون المتفرع من ميدان التحرير ومن داخل المنزل رقم 5 العتيق، كانت تنبعث يوميا موسيقى شوبان من بين أنامل التلميذات والتلاميذ والمعلمين بداخل المعهد الصغير الذي كان يحمل اسم صاحبه «تيجرمان» وهو عازف ومعلم بولندي يهودي الأصل. وكان من الممكن الاستماع إلى الموسيقى نفسها من خلال أسطوانات الفونوغراف أو الجرامفون داخل كبائن الاستماع المعدة لذلك في المكتبة الموسيقية التي يطلق عليها «مكتبة الفن» في المنزل رقم 7 المجاور مباشرة.
في عام 1949 وفي مناسبة يوم ذكرى وفاة شوبان، عزف «تيجرمان» مع أوركسترا الإذاعة المصرية الكونشرتو الأول لشوبان وبذلك يصبح هذا الحفل هو الثاني بعد الاحتفال الذي أقامته الجالية الأرمينية في نادي جوجيان في المناسبة نفسها وبعد ذلك بعدة سنوات قدم «تيجرمان» العديد من الحفلات كعازف منفرد «صوليست» مع أوركسترا القاهرة السيمفوني الذي أنشئ عام 1959مستلهما روح «شوبان» ومعزوفاته الخالدة.
وتعد «مارسيل متى» أبرز تلامذة «تيجرمان»، التي استكملت دراستها في إيطاليا وعادت لمصر لتصبح أحد أبرز المتخصصين في موسيقى الحجرة وبرعت في نقل موسيقى شوبان للأجيال الجديدة كما تعد أول «صوليست» مصرية تصل للعالمية عبر هذا اللون من الموسيقى. أيضا من أبرز الموسيقيين المصريين الذين لهم إسهامات كذلك في نشر موسيقى شوبان في مصر وخارجها عازف البيانو المعروف رمزي يسى الذي عزف الكونشرتو الأول لشوبان بمصاحبة أوركسترا الأوبرا السيمفوني تحت قيادة المايسترو جيكا زدرافسكوفيتش بدار الأوبرا المصرية عام 1966. وكان عمر رمزي لا يتجاوز آنذاك الثامنة عشرة. ويحتل شوبان مساحة كبرى في كتاب «أربعون عاما من الموسيقى والأوبرا» للمؤرخ الموسيقي المصري صالح عبدون، فيصفه بأنه «شاعر الموسيقى التي تبدو بين أنامله جدولا صافيا مجهول المنبع والمصب».