ستالين... «دودة الكتب» الذي قمع كتّاب عصره

«مكتبة ستالين» كتاب صدر حديثاً عن جامعة يال الأميركية

لوحة لجوزيف ستالين وهو في مكتبته حوالي عام 1943 (غيتي)
لوحة لجوزيف ستالين وهو في مكتبته حوالي عام 1943 (غيتي)
TT

ستالين... «دودة الكتب» الذي قمع كتّاب عصره

لوحة لجوزيف ستالين وهو في مكتبته حوالي عام 1943 (غيتي)
لوحة لجوزيف ستالين وهو في مكتبته حوالي عام 1943 (غيتي)

يستكشف الأكاديمي البارز، بروفسور جيفري روبرتس، الكتب التي قرأها الديكتاتور الأشهر في القرن العشرين، جوزيف ستالين (1878 - 1953)، وكيف قرأ الكتب التي حوتها مكتبته أو تلك التي استعارها من غيره من الرفاق، وماذا تعلم منها، وذلك بعد أن خاض روبرتس في الأرشيف الروسي، وكانت نتيجة البحث، كتاب صدر حديثاً عن جامعة يال الأميركية، بعنوان «مكتبة ستالين»، كشف فيه عن أن ستالين كان «دودة قراءة»، منذ صباه حتى تسلمه منصب السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي لثلاثة عقود. لكن هل قربه هذا الشغف بقراءة الكتب، من الكتاب أنفسهم واحترم حرية الكلمة؟ هذا ما توفر من معلومات للأكاديمي البريطاني، الذي يعد مرجعاً عالمياً معترفاً به فيما يتعلق بستالين، وبتاريخ السياسة العسكرية والخارجية السوفياتية عموماً.

«مكتبة ستالين» الصادر عن جامعة يال

لعقود بعد وفاته في عام 1953، جعلت المصادر المتقطعة المتاحة للباحثين عن حياة جوزيف ستالين، شخصيته، أشبه باللغز. فهل كان ببساطة، الطاغية الوحشي الذي صوره السكرتير العام اللاحق، نيكيتا خروتشوف، في خطابه السري أمام المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1956؟ أم كان متوسط الثقافة والفهم، كما صوره غريمه ليون تروتسكي، في «سيرة ستالين» التي نُشرت بعد أن رتب الديكتاتور السوفياتي لاغتيال خصمه في المكسيك عام 1940؟
من الغريب أن نعرف الآن بعد سبعين سنة تقريباً على وفاته، ومن خلال هذا البحث العميق والجمع المثابر للأدلة من الوثائق، أن ستالين، «كان يؤمن إيماناً راسخاً بالإمكانيات الكبيرة للكلمات»، وقارئاً شرهاً منذ سن مبكرة، يلتهم كلاسيكيات الأدب الأوروبي جنباً إلى جنب مع النصوص القانونية للحركة الاشتراكية. تلقى تعليمه في معهد لاهوتي، لكنه وجد معياره الحقيقي في المكتبات الراديكالية في العاصمة الجورجية تبليسي. إيمان ستالين بقوة الكلمات يعود لسبب بسيط، وهو أن قراءة الكتب غيرت حياته وقادته إلى العمل السري الثوري في روسيا القيصرية.
قاده هذا النهم للكلمة، للقراءة طوال حياته، واضعاً لنفسه معدل قراءة يتراوح بين 200 إلى 500 صفحة يومياً. وكانت الكتب متناثرة حوله في كل مكان، في مكتبه بمقر الحكم في الكرملين، وفي مقر إقامة سكنه، وفي بيت الإجازات على البحر الأسود. وحسب الوثائق عن وفاته بجلطة دماغية، فقد حدثت وهو في مكتبته في 5 مارس (آذار) عام 1953، وسط ركام من الكتب على مكتبه وفوق الطاولات، غالبيتها تحوي تعليقات على هوامشها بخط يده، بأقلام ألوانها بين الأخضر والأزرق والأحمر. وحسب الوثائق، قد ترك حوالي 25 ألف كتاب، متنوعة بشكل مدهش، وقام بالتعليق على العديد منها في هوامش الكتاب أثناء قراءته، أو واضعاً خطوطاً تحت بعض الكلمات والجمل أو حول فقرة معينة، كاشفاً عن أفكاره ومشاعره ومعتقداته الخاصة، خصوصاً أنه لم يكن يسجل آراءه في يوميات ولا أصدر أي كتاب. وبالإضافة لنهمه في حيازة الكتب، التي كان بعضها شراء والآخر إهداءات، كان يستعير أيضاً من آخرين، وقد اشتكى الشاعر السوفياتي، دميان بيدني، من أن ستالين كان يترك على الكتب التي استعارها منه آثار بصماته الملوثة بالدهون.
بينما كانت اللغة الأم لستالين، هي اللغة الجورجية، إلا أن جميع الكتب الموجودة في مكتبته، تقريباً، كانت باللغة الروسية، كتب الغالبية العظمى منها، البلاشفة أو غيرهم من الاشتراكيين. وفي عشرينيات القرن الماضي، ركزت قراءات ستالين، في غالبيتها، على كتابات منافسيه لخلافة لينين في زعامة الحزب، لا سيما، غريغوري زينوفييف، ليف كامينيف، ونيكولاي بوخارين. وقد لقي الثلاثة حتفهم في عمليات التطهير الحزبي، بينما اغتيل ليون تروتسكي في المكسيك عام 1940، لكن كتبهم جميعاً بقيت على رفوف مكتبة ستالين جاهزة للمطالعة.
كان التاريخ من الاهتمامات الدائمة لستالين، خصوصاً التاريخ الروسي، مفتوناً بالمقارنات بين حكمه وحكم بطرس الأكبر (1672 - 1725)، أحد أهم قياصرة روسيا على مستوى القوة والإصلاح، وحكم إيفان الرهيب (أول من توج نفسه قيصراً في روسيا وصاحب الأفعال الوحشية في القرن السادس عشر).
يقول جيفري روبرتس، إن الكتاب الأكثر تميزاً في مجموعة ستالين، هو «تاريخ صعود وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، ألفه مؤرخه المفضل، روبرت فيبر Robert Vipper، المتخصص في التاريخ القديم، الذي كتب أيضاً سيرة ذاتية لإيفان الرهيب.
خارج كتب التاريخ، كرس ستالين وقتاً طويلاً للقراءة عن العلوم واللغويات والفلسفة والاقتصاد السياسي. بعد الحرب العالمية الثانية، تدخل في المناقشات السوفياتية حول علم الوراثة والاقتصاد الاشتراكي والنظرية اللغوية. كان أكثر هذه التدخلات شهرة، دعمه لتروفيم ليسينكو، عالم النبات السوفياتي الذي جادل بأن الوراثة الجينية يمكن أن تتأثر بالعوامل البيئية. ومع ذلك، سخر ستالين بشكل خاص من وجهة نظر ليسينكو، القائلة بأن كل علم له «شخصية صفية»، حيث علق في الهامش: «هاهاها... والرياضيات؟ والداروينية؟»...
قرأ ستالين بطرق متنوعة. بعض الكتب قرأها من الغلاف إلى الغلاف، والبعض الآخر كان يتصفحها فقط. في بعض الأحيان بدأ في قراءة كتاب وفقد الاهتمام به بعد بضع صفحات، أو قفز من المقدمة إلى الخاتمة.
يروي روبرتس، استناداً إلى أبحاثه الواسعة النطاق في الأرشيف الروسي، قصة إنشاء مكتبة ستالين الشخصية وتجزئتها وإحيائها. كانت السمة المركزية للمبنى المنفصل الذي بني لستالين بين 1933 – 1934 عبارة عن مكتبة مساحتها 30 متراً مربعاً، بها أربع خزائن كتب كبيرة، كل منها برفوف عميقة بما يكفي لاستيعاب صفين من الكتب. كانت مجموعة ستالين كبيرة جداً، لدرجة أنه تم تخزين العديد من الكتب في هذا المبنى، ثم يتم إحضار ما يحتاجه منها حسب طلبه.
ولكونه مؤمناً حقيقياً بالآيديولوجية الشيوعية، كان ستالين متعصباً، كره أعداءه (البورجوازية وكبار المزارعين والرأسماليين والإمبرياليين والرجعيين والمعادين للثورة والخونة)، لكنه كره أفكارهم أكثر. وبعد إدانة خروتشوف لستالين في عام 1956، تم التخلي عن خطط الحفاظ على المكتبة في المنزل الريفي، وتفرقت كتبه (التي تضمنت مجلدات عن علم نفس الطفل والرياضة والدين ومرض السفلس الزهري والتنويم المغناطيسي، بالإضافة إلى أعمال أدباء مثل تورغينيف ودوستويفسكي)، فأصبح من الصعب إجراء دراسة شاملة لما كان يستمتع بقراءته.
يقول روبرتس، بأن العديد من الأكاديميين قبله، جابوا بقايا مجموعة ستالين، على أمل إلقاء نظرة على الطبيعة الحقيقية لهذا الديكتاتور، أو العثور على «مفتاح الشخصية التي جعلت حكمه وحشياً للغاية». لم يجد روبرتس أي أدلة، لكنه اقترح، أنه «باتباع الطريقة التي يقرأ بها ستالين الكتب، يمكننا أن نلمح العالم من خلال عينيه. قد لا ندخل في روحه، لكن علينا ارتداء نظارته».
لم يكتف ستالين بشغفه بالقراءة، فقد أصر على ضرورة أن يقرأ أفراد أسرته وزملاؤه، الكتب. فقد أعطى ابنه بالتبني نسخة من رواية «روبنسون كروزو» للبريطاني دانيال ديفو، التي نشرت عام 1719، مع إهداء برغبته «في أن يكبر ليكون بلشفياً واعياً وثابتاً ومقداماً». وأعطى ابنته نبذة مختصرة عن تاريخ الحزب الشيوعي، وأمرها بقراءته. قالت سفيتلانا التي (هربت فيما بعد إلى الغرب): «الكتابة مللتني كثيراً». وادعى سيرجو، نجل المفوض الأمني لستالين، لافرينتي بيريا، أن القائد السوفياتي عندما كان يزور شخصاً من دائرته المقربة، يقترب من مكتبته ويبدأ في تقليب الكتب، للتحقق من علامات تشير إلى أنه تمت قراءتها بالفعل.
وجد ستالين بين كتبه العزاء والغذاء الفكري، لكنه عزاء لم ينقذ أخلاقياته ولا جعله بضمير صاح، فقد قتل منافسيه في الحزب، وأنزل العقاب بالكثير من المواطنين السوفيات. ووفقاً للصحافي والكاتب الروسي، فيتالي شينتالنسكي، في كتابه «The KGB’s Literary Archive» (الأرشيف الأدبي للاستخبارات السوفياتية)، فقد قضى ما يقرب من 1500 كاتب خلال فترة «التطهير العظيم» (1936 - 1938). كانت حملة جوزيف ستالين، لترسيخ سلطته وفرضها على الحزب والأمة؛ وقد تم تصميم عمليات التطهير، أيضاً، لإزالة النفوذ المتبقي لليون تروتسكي والمنافسين السياسيين الآخرين داخل الحزب.
أعجب ستالين بالأدباء والكتاب، وأخبر مؤتمر الكتاب السوفيات عام 1934، أنه بينما كانت هناك حاجة إلى المهندسين المدنيين لبناء الاشتراكية، تطلب البلاد أيضاً «مهندسي الروح البشرية». غير أن تأميم صناعة النشر، كان من أوائل قرارات البلاشفة بعد استيلائهم على السلطة في روسيا عام 1917، وإدراكاً منهم لإمكانية استخدام الكلمات ضد النظام السوفياتي، فقد أنشأوا نظاماً رقابياً متطوراً للسيطرة على إنتاج الصحف والمجلات، ودور النشر والمطابع. ومع ذلك، أعفى ستالين نفسه من هذه الرقابة، واحتوت مكتبته الخاصة على العديد من المجلدات المحظورة التي ينتمي بعضها لأعدائه.
لم يحتفظ ستالين بمذكراته ولم يكتب مذكرات، لذلك أصبحت هذه المخطوطات والهوامش داخلها مستثمرة بأهمية أكبر مما تستحق. يحذر روبرتس من ذلك، مثل وضع ستالين خطوطاً تحت جملة منسوبة إلى جنكيز خان: «موت المهزوم ضروري لراحة بال المنتصرين»، أو افتراض أن الكلمة المبتكرة «المعلم»، على غلاف مسرحية عن إيفان الرهيب، تعني أن ستالين كان ينظر إلى هذا الطاغية على أنه نموذج يحتذى به. روبرتس الذي هو أستاذ التاريخ بكلية كورك الآيرلندية، قال في «مهرجان دبلن للتاريخ»، في 25 سبتمبر (أيلول) 2016، إن المقولة التي نسبت لستالين، ومفادها، أن «حالة وفاة واحدة مأساة... أما المليون فإحصائية»، هي في الحقيقة ملفقة.
لكن الإسناد «يلتقط سمة أساسية لستالين». فقد عاش مثقفاً في عالم من الكلمات والأفكار والنصوص. وفي هذا العالم، كانت هناك وفرة من التجريد، والقليل من التعاطف البشري وصحوة الضمير. كان من السهل عليه اتخاذ قرارات قاسية تؤثر على مصير الملايين، وتبريرها. «لقد ساعدته الكتب في عزله عن الحقائق الإنسانية التي صاحبت سعيه العنيف إلى المدينة الفاضلة».



في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب