تحديات جديدة في ألمانيا بسبب الحرب الأوكرانية

اهتمام كبير بمعالجة مشكلة اللجوء... الآتية بعد تداعيات «كوفيد ـ 19»

تحديات جديدة في ألمانيا بسبب الحرب الأوكرانية
TT

تحديات جديدة في ألمانيا بسبب الحرب الأوكرانية

تحديات جديدة في ألمانيا بسبب الحرب الأوكرانية

تحوّلت محطة القطارات الرئيسية في العاصمة الألمانية برلين خلال الأيام الماضية إلى أشبه بخلية من النحل. إنها صورة تناقض نفسها قبل أسبوعين فقط، عندما كان المكان لا يزال هادئاً؛ إذ إنه لم يكن قد استعاد بعد كامل نشاطه المعتاد بسبب جائحة «كوفيد - 19» التي أجبرت سكان العاصمة على تقليص سفرهم إلى الحد الأدنى.
اليوم، يبدو هذا المكان صاخباً... يعجّ بالمسافرين الذين يتدفقون يومياً إلى مدينة برلين بالآلاف، معظمهم قادمون على متن قطارات بدأت رحلتها في مدن أوكرانيا... مروراً ببولندا.
إنهم يصلون حاملين حقائب سفر صغيرة توحي بأنهم سياح جاءوا لتمضية بضعة أيام. بيد أنهم ليسوا سياحاً، بل هم لاجئون فارّون من جحيم الحرب المستعرة في أوكرانيا.
صعوبة الرحلة وطولها دفعا بهؤلاء إلى الاكتفاء بحمل أقل ما يمكنهم حمله من ممتلكاتهم، وترك الكثير خلفهم.
أعداد كبيرة من الواصلين هم من النساء والأطفال، أما الرجال منهم فهم بمعظمهم من غير الأوكرانيين. ولكن في برلين، يستقبلهم المتطوّعون الذين ينتظرون في محطة القطارات الرئيسة مرتدين سترات صفراء، بالشكل نفسه. ويقتادونهم إلى مكان داخل المحطة يؤمّن لهم فيه الأكل والشراب وأخذ المتوافر من المساعدات من ملابس وأساسيات يومية. ومن ثم يساعدونهم في ملء الأوراق الثبوتية اللازمة لتقديم طلبات اللجوء.
وخارج المحطة، تنتصب خيمة بيضاء رفع عليها علم أوكرانيا، في داخلها متطوعون آخرون يساعدون اللاجئين بتقديم توجيهات حول الطريق الأفضل للوصول إلى الوجهة المقصودة، أو ينقل منهم مَن يريد إلى مراكز لجوء وإيواء مؤقتة.
الكثير تغير في ألمانيا منذ أسبوعين. فالعاصمة برلين تستقبل يومياً قرابة الـ10 آلاف لاجئ آتٍ من أوكرانيا. وعلى الرغم من تخصيص حكومة الولاية (برلين، بالمناسبة مدينة – ولاية) موارد كثيرة لتأمين حاجات اللاجئين الجدد، فإن أعداد الواصلين فاقت التوقعات، لا سيما أن معظم اللاجئين الوافدين من الأراضي الأوكرانية يصلون أولاً إلى برلين بحكم قربها النسبي من الحدود مع بولندا، لكنهم يتوزّعون منها لاحقاً على ولايات ألمانية أخرى.
كاتيا كيبينغ، وزيرة الشؤون الاجتماعية في ولاية برلين، تتحدث عن وصول محطة القطارات الرئيسة في برلين إلى طاقتها الاستيعابية القصوى. وتحذّر من أن «التحدي» سيصبح أكثر صعوبة يوماً بعد يوم. ومن جهة ثانية، عمدة المدينة إلى إعادة فتح المطارات القديمة في المدينة لاستقبال اللاجئين فيها، وتحويل مرافقها إلى مراكز مؤقتة يمكن للاجئين المبيت فيها، ريثما يصار إلى توزيعهم على مراكز ومساكن أخرى.
من هذه المطارات مطار تيغيل الذي كان لغاية العام الماضي واحداً من مطار دوليين أساسيين في محيط العاصمة، إلا أنه توقف عن العمل بعد فتح المطار الجديد. وكان مطار تيغيل نفسه قد استخدم أزمة جائحة «كوفيد - 19» مركزاً للتلقيح ضد فيروس الجائحة. وها هو اليوم يُغيّر دوره مرة جديدة ليصبح مركزاً مؤقتاً للجوء. وهنا نشير إلى أن مطاراً دولياً سابقاً آخر استخدم عام 2015 لاستقبال اللاجئين السوريين، هو مطار تمبلهوف الذي توقّف عن العمل 2008، وهو الذي كان قد تحوّل إلى رمز للعاصمة الألمانية لاستخدامه من قبل الحلفاء عام 1948 مركزاً لعمليات إسقاط المساعدات للسكان أيام حصار برلين من قِبل السوفيات.
مشاكل إيواء وتعليم
حالياً، رغم استعدادات سلطات برلين لاستقبال أعداد كبيرة من اللاجئين مع بداية الحرب في أوكرانيا، فهي لم تتوقع أن ترتفع أعداد الواصلين بهذه السرعة، ولا تبدو مرافق المدينة – على كثرتها – مهيأة للتعامل مع سيل يضم الآلاف من اللاجئين يومياً. ذلك أن العديد من المؤسسات التابعة للولاية وللحكومة الفيدرالية الألمانية كانت ما زالت تعمل بالحد الأدنى بسبب «كوفيد - 19»، لكنها تجد نفسها الآن مجبرة على الانتقال إلى طاقتها القصوى خلال أيام قليلة.
وفي هذا السياق، نذكر أنه لا يسجل كل اللاجئين الواصلين إلى ألمانيا أنفسهم مع الحكومة من أجل الحصول على سكن؛ إذ تصل أعداد غير قليلة منهم للسكن مع عائلاتهم الموجودة أصلاً في ألمانيا. بيد أن هذا الأمر خلق مشكلة إضافية تتمثل بالعثور على مساكن مساحتها أوسع لاحتواء العائلات الجديدة. وفي مدينة تعاني أصلاً من مشكلة في السكن، فإن هذه الأزمة آخذة في التفاقم.
ولم تخلق أزمة اللاجئين مشاكل في السكن فقط، بل أيضاً في المدارس. وحتى الآن لا تُجبر الحكومة الألمانية اللاجئين على تسجيل أولادهم في المدارس، ولكنها قد تدخل قريباً قوانين تفرض عليهم ذلك. وهذا الأمر قد يفاقم مشاكل قطاع المدارس، خاصة في برلين التي تعاني نقصاً كبيراً في عدد المدرّسين وانعدام القدرة على استيعاب مزيد من الطلبة في صفوف تستقبل أكثر من طاقتها منذ سنوات. ورغم أن المدارس الألمانية واجهت تحدياً مشابهاً لما تعانيه اليوم، في العام 2015، عندما تعين عليها استقبال آلاف الطلاب الجدد الآتين من سوريا من دون أي إلمام باللغة الألمانية، فهي لا يبدو أنها خططت منذ تلك التجربة لحالات مستقبلية شبيهة. وحقاً، تتحدث وزارة التعليم في برلين اليوم عن خلق 50 صفاً (أو فصلاً دراسياً) جديداً تعد «صفوف استقبال» يتأمن عبرها إدخال الأطفال الأوكرانيين إليها لتعليمهم اللغة قبل إدماجهم في الصفوف. لكن هذا الرقم صغير جداً، ولن يكون قادراً على استيعاب إلا جزء صغير من الطلاب الجدد، وفق صحيفة «بيرلينر تزايتونغ».
وتقول الصحيفة بأنه قياساً لأعداد الواصلين يومياً، وإلى أن عدداً كبيراً منهم من الأطفال، فإن ثمة حاجة إلى استحداث أكثر من 500 صف شبيه وليس 50 صفاً فقط.
كذلك، تشير الصحيفة إلى كتاب نشرته صحافية متخصصة في التعليم، بعد أزمة اللاجئين عام 2015، حول الدروس المُستفادة من تلك الأزمة في ضوء الضغوط التي سببتها على قطاع التعليم. واستنتجت مؤلفة الكتاب أن الحكومة «لم تدرس نتائج الأزمة داخل الصفوف ولا طريقة معالجتها. وليس لديها، بالتالي، اليوم وسيلة تطبقها على اللاجئين الجدد الوافدين من أوكرانيا».
أزمة ارتفاع الأسعار
ولكن ليس هذا فقط ما تغير في ألمانيا خلال الأسبوعين الماضيين. فأسعار الوقود والديزل وفواتير الكهرباء والتدفئة ترتفع بشكل جنوني منذ أيام حتى باتت تؤرق المستهلكين والحكومة على حد سواء. وبينما تبحث الحكومة الفيدرالية الألمانية عن حلول وبدائل سريعة لتخفيف الحمل الثقيل المتزايد على كاهل سكانها، تزداد النصائح المقدمة لاستخدام وسائل نقل بديلة عن السيارات وتشغيل التدفئة لساعات أقل، مع أن فصل الشتاء لم ينته... والطقس البارد لم يدفأ بعد.
والواقع، أن ألمانيا ربما تكون، إلى جانب النمسا، من أكثر الدول الأوروبية تأثراً سلبياً من الناحية الاقتصادية بالحرب في أوكرانيا. فألمانيا تستورد من روسيا أكثر من 55 في المائة من غازها، و52 في المائة من فحمها و34 في المائة من نفطها، في حين تستورد النمسا 80 في المائة من غازها من روسيا. وخلال السنوات القليلة الماضية، منذ قرار السلطات الألمانية وقف المعامل الألمانية للطاقة النووية إثر حادث فوكوشيما عام 2011 في اليابان، ازداد اعتماد ألمانيا على الغاز الروسي بشكل كبير.
بدائل «نورد ستريم 2»
وهكذا، وافقت برلين على بناء مشروع «نورد ستريم2» لزيادة كمية الغاز الروسي الذي يصل مباشرة إلى الأراضي الألمانية، رغم أن مشروعاً شبيهاً موضوع في الخدمة منذ أكثر من 10 سنوات. فإن الحرب في أوكرانيا غيرت هذه المعادلة. وبعد مقاومة برلين إبان حكم أنجيلا ميركل وقف مشروع «نورد ستريم2» لسنوات، وتمسّك الحكومات السابقة بالمشروع رغم العقوبات الأميركية عليه، أعلنت حكومة أولاف شولتز الجديدة وقف العمل به، وإعادة «تقييم المخاطر الأمنية» التي يتسبب بها. وكان هذا، تحديداً، انتقاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب لتبني ألمانيا المشروع. وكان ترمب، في الواقع، هو الذي فرض العقوبات عليه محذّراً من أن ازدياد اعتماد ألمانيا على الطاقة الروسية سيجعلها أسيرة لسياسات الكرملين.
يومذاك، لم تقتنع برلين بوجهة النظر الأميركية تلك إلى أن وقعت الحرب في أوكرانيا... وبدأت روسيا عملياتها العسكرية على أبواب دول حلف شمال الأطلسي (ناتو).
أكثر من هذا، لم تكتفِ ألمانيا بوقف المشروع، بل باشرت التسريع بمشاريع غاز ونفط بديلة بهدف تقليص الاعتماد على الطاقة الروسية. وساعد في ذلك أن حزب «الخضر» البيئي، الشريك البارز في الحكومة الألمانية الجديدة، كان خطّ في اتفاقية الائتلاف الحكومي زيادة الإنفاق على مشاريع الطاقة الخضراء. ويُعرف عن حزب «الخضر» أنه من أكثر الأحزاب الألمانية اندفاعاً إلى تبني سياسة أكثر استقلالية عن روسيا، وهو كان الحزب الوحيد الذي انتقد تقارب الحكومات الألمانية المتعاقبة مع موسكو، واتخذ مواقف منتقدة من السلطات الروسية، خاصة، لجهة تاريخها مع حقوق الإنسان.
وتأمل الآن ألمانيا بأن توقف اعتمادها على النفط الروسي بحلول نهاية العام الحالي، وعلى الفحم في حلول الصيف المقبل، كما قال وزير الاقتصاد روبرت هابيك المنتمي لحزب «الخضر». ولكن وقف اعتمادها على الغاز الروسي سيكون مهمة أصعب بكثير.
العلاقات مع روسيا
هابيك أقر بأن فرض حظر كامل على الغاز والنفط الروسي في الوقت الراهن سيؤدي إلى كارثة اقتصادية على ألمانيا. وأضاف في تصريحات للقناة الألمانية الأولى، إن وقفها تلك الصادرات «سيؤدي إلى نقص في الإمداد وحتى وقف كامل للإمدادات في ألمانيا». وأردف أن ما سيترتب على ذلك سيكون «بطالة جماعية وفقر وأشخاص عاجزون عن تدفئة منازلهم، وآخرون لن يعود لديهم وقود لملء سياراتهم». وأكد، أن البطالة الجماعية تعني وقف العمل بالكثير من المصانع التي لن تظل قادرة على تشغيل آلاتها بسبب عجزها عن دفع فواتير الطاقة المشغلة.
ومن ثم، بين خطط الحكومة الفيدرالية لتخفيف الاعتماد على الغاز الروسي، بناء معملين للغاز المُسال ما سيمكّن ألمانيا من استقدام غاز من دول أخرى مثل الولايات المتحدة وأستراليا وقطر. ولكن بناء المعملين سيستغرق قرابة السنتين، بجانب أن استيراد الغاز المُسال سيكون أكثر تكلفة لألمانيا.
مع هذا، هناك مَن يروّج لوقف استيراد الغاز الروسي على الفور. من هؤلاء، النائب نوربرت روتغن، المنتمي إلى حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي كانت ترأسه المستشارة السابقة أنجيلا ميركل. ورغم أن روتغن ينتمي إلى حزب كان مسؤولاً عن سياسة الطاقة في البلاد والاعتماد المتزايد على روسيا في هذا المجال، فهو يكرّر انتقاداته للحكومة الحالية «لتلكؤها في اتخاذ قرار بوقف واردات الطاقة الروسية». ويعتبر هذا السياسي المحافظ أن أموال ألمانيا تموّل الحرب على أوكرانيا؛ إذ كتب مقالاً في صحيفة ألمانية قبل أيام قال فيه «أكثر من مليار يورو تصب في صندوق (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين الحربي يومياً، وتحبط العقوبات المفروضة على البنك المركزي الروسي».
بل، عزّزت توصية الأكاديمية الليوبولدينية الوطنية للعلوم من الجدل القائم؛ إذ استنتجت في ورقة أعدتها أنه في حال قطع الغاز والنفط الروسي فوراً «سيظل ممكنا إدارة الوضع في ألمانيا». واقترحت هذه الأكاديمية - المعهد التي من مهامها تقديم دراسات علمية لقضايا أساسية لديها تأثير على المجتمع الألماني، إجراءات عدة لمساعدة البلاد على التخلص من الاعتماد على الطاقة الروسية. إلا أن الحكومة الألمانية رفضت التوصية على الفور وبقيت مصرّة على أنه لا يمكن وقف استيراد الغاز الروسي فوراً.
ولقد أثار هذا الموقف انتقادات لاذعة لألمانيا وجّهها لها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عندما خاطب البرلمان الألماني الفيدرالي (البوندستاغ) يوم الخميس الماضي، واتهم أوروبا ببناء جدار بينها وبين أوكرانيا، في إيحاءات تاريخية تتعلق بـ«جدار برلين». ومما قاله زيلينسكي، أن ألمانيا تحاول أن تحمي اقتصادها، وهذا يمنعها من اتخاذ قرارات بفرض عقوبات على روسيا قادرة على وقف الحرب.

حرب أوكرانيا أعادت فتح ملف السياسة الدفاعية
> يوافق المراقبون المتابعون على أن المخاوف الاقتصادية هي التي تحرك ألمانيا الآن. والمخاوف تلك تتعدى الغاز والنفط، لتصل إلى القمح وبذور الزيوت التي تستوردها ألمانيا من أوكرانيا. وكانت هذه المخاوف قد بدأت تظهر على رفوف المتاجر الفارغة من الزيوت النباتية والطحين؛ ما أجبر المتاجر على إعادة فرض حد للكميات التي يمكن للفرد شراؤها من تلك المنتجات. ويذكر ذلك بأيام «كوفيد -19» الأولى حين أخذت المتاجر تفرغ من بعض الأساسيات التي تدافع السكان على تخزينها.
إلا أن التغييرات الأعمق التي طالت ألمانيا بفعل الحرب الدائرة في أوكرانيا، لا تتوقف فقط على سياسة الطاقة، وإن كانت تلك بعيدة أو متوسطة المدى. فالتغيير الأكبر والأبرز يتعلق بسياسة الدفاع الألمانية. وخلال أيام قليلة منذ بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أعلن المستشار أولاف شولتز قرارات وصفت بـ«التاريخية»؛ لأنها تلغي عقوداً من سياسات بقيت ألمانيا متمسكة بها لأسباب تاريخية. ومعلوم أن حكومات «ما بعد الحرب العالمية الثانية» حرصت على خفض الإنفاق العسكري وتقليص قوة الجيش الألماني، وظلت دائماً رافضة للتدخل في الخارج إلا في عمليات ضمن إطار دولي وفقط في دور غير قتالي. ولكن شولتز ثار على كل تلك المخاوف، وأعلن أخيرا أن ألمانيا ستبدأ بإرسال أسلحة قتالية لأوكرانيا، عاكساً قرارات سابقة تمنع تصدير السلاح إلى أماكن نزاع. وأعلن أيضاً تخصيص صندوق فوري بقيمة ضخمة تصل إلى 100 مليار يورو، لتحديث الجيش الألماني ومعداته.
كذلك، أعلن شولتز أن ألمانيا سترفع الإنفاق الدفاعي على الفور ليصل إلى 2 في المائة من ناتجها الإجمالي، في زيادة بأكثر من نصف نقطة مئوية، لتصل إلى النسبة التي يوصي بها «ناتو» لأعضائه. وزيادة الإنفاق هذا سيجعل ألمانيا الدول الأوروبية الأكثر إنفاقاً على دفاعها كونها صاحبة أقوى اقتصاد في القارة.
ومن جهة ثانية، سيعمل شولتز على إدخال هذه النسبة في الدستور الألماني خوفاً من أن تراجع أي حكومة قادمة عن ذلك. وفي إطار تحديثها لمعدات الجيش، قررت ألمانيا أيضاً الاستعاضة عن المقاتلات القاذفة القديمة من نوع «تورنادو»، التي تعود إلى الثمانينات، بمقاتلات قاذفة أميركية من نوع «إف - 35». وهذه الطائرات الحديثة قادرة على حمل صواريخ نووية. وهي جزء من اتفاق أميركي - ألماني بأن تؤمّن برلين طائرات تستطيع المشاركة في أي حرب نووية محتملة مقابل تأمين واشنطن الصواريخ النووية. وللعلم، هذه الصواريخ موجودة أصلاً في ألمانيا في مخابئ سرية، ولكن وجودها كان محل جدل طويل في ألمانيا. ولقد شهد «البوندستاغ» جلسات كثيرة لمناقشة وجود الصواريخ على الأراضي الألمانية والاستماع إلى حزب تلو الآخر يطالب بإزالتها. ولكن قرار الاستعاضة عن الـ«تورنادو» بالـ«إف - 35» - وهي الأغلى والأحدث من نوعها - ينهي فعلياً هذا الجدل، ويؤكد أن ألمانيا تستثمر في إبقاء تلك الصواريخ النووية الأميركية مخبأة وجاهزة لديها.
واللافت هنا، أن معظم الأحزاب، باستثناء حزبي اليمين واليسار المتطرفين، اللذين لا يتمتعان بتأثير يذكر لتواضع حجم تمثيلهما في «البوندستاغ»، تؤيد كل هذه التحديثات في السياسة الدفاع للبلاد. ثم إن بات حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الذي رسم سياسة البلاد طيلة السنوات الـ15 الماضية، يتحدث اليوم عن «أخطاء كبيرة» ارتكبت بإبقاء الجيش الألماني ضعيفاً. بل، بات هذا الحزب المحافظ اليميني هو مَن يطالب بوقف فوري لاستيراد الغاز الروسي، مع أن المستشارة السابقة ميركل - التي ترأسته لعقدين من الزمن - هي التي سنّت تلك السياسات المقربة من روسيا.
أكثر من هذا، يتكلّم الديمقراطيون المسيحيون اليوم، من مقاعد المعارضة، إلى ضرورة الانتقال إلى «وضع الدفاع» بحسب النائب هنينغ أوته، نائب رئيس لجنة الدفاع في «البوندستاغ». ولقد علق أوته على قرار شراء طائرات الـ«إف - 35» بالقول «إن الجيش ككل في حاجة إلى تعزيز نفسه، وهو في حاجة ماسة إلى الانتقال من وضع السلام إلى وضع الدفاع».



ترمب اختار فانس للدفع بـ«الترمبية» قدماً... وتغيير هوية حزب ريغان

أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية
أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية
TT

ترمب اختار فانس للدفع بـ«الترمبية» قدماً... وتغيير هوية حزب ريغان

أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية
أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية

لسنوات عدة، كان الحزب الجمهوري الأميركي يمرّ بتغيير جذري، حيث يتبنى بشكل متزايد الشعبوية الاقتصادية في الداخل والانعزالية في الخارج، ويغيّر مواقفه في العديد من القضايا الاجتماعية. ثم إنه لم يعد فقط حذِراً من بعض المصالح التجارية الكبرى، بل صار معادياً لها. لا، بل أكثر من ذلك، إذ عمل على طرح نفسه ليكون حزب الطبقة العاملة، وكل ذلك تحت شعار «أميركا أولاً». ومع أن الرئيس السابق دونالد ترمب عاد، خلال رئاسته الأولى، إلى آيديولوجية الحزب الجمهوري الأكثر تقليدية بشأن بعض القضايا، فإن اختياره جيمس ديفيد «جي دي» فانس نائباً له على بطاقة الانتخابات الرئاسية المقبلة، هو الذي يمكن، في نهاية المطاف، أن يعزّز مسار الحزب نحو مرحلة جديدة مختلفة. وهذا ما يبدو أنه حدث في مؤتمر الحزب الذي انعقد خلال الأيام القليلة الماضية في مدينة ميلووكي؛ كبرى مدن ولاية ويسكونسن.

الواقع أنه خلال مؤتمر الحزب الجمهوري بميلووكي، لم يقتصر الأمر على اختيار السيناتور جي دي فانس، المعارض لتقديم الولايات المتحدة مساعدات لأوكرانيا، بل تبني الحزب أيضاً خطاباً اجتماعياً مخففاً، بجانب انتقاد الشركات الكبرى، وهو ما عدّه البعض إشارة إلى تراجع دور الإيفانجيليين البروتستانت المتشددين في رسم سياسات الجمهوريين.

ومن فوق منصة المؤتمر، خرج برنامج الحزب خالياً من أي ذكر لـ«الزواج بين رجل وامرأة»، الذي يندرج كعنصر أساسي في مبادئ الحزب منذ فترة طويلة، لمصلحة تعزيز «ثقافة تقدّر قدسية الزواج» و«الدور التأسيسي للعائلات». الأمر الذي رحّب به الجمهوريون المؤيدون لمجتمع المثليين وعدّوه انتصاراً، في حين رآه كثيرون بمثابة ضربة للجناح المحافظ المتشدّد في الحزب، ومن صفوفه قال السيناتور المحافظ السابق، ريك سانتوروم: «هذا برنامج حزب المحافظين البريطاني. هذه ليست منصة محافظة. ترمب يستهدف الوسط مباشرة».

من جهة ثانية، قال مارك شورت، الذي شغل منصب كبير موظفي مايك بنس، نائب ترمب السابق، الذي اختاره عام 2016 للحصول على دعم الإيفانجيليين: «أعتقد أن ما نشهده، الآن، هو هجوم مباشر كامل على التيار المحافظ... يمكنك أن تنظر إلى المنصة، وهي تبتعد عن قضايا مثل الحياة والزواج التقليدي، وتتبنّى التعريفات الجمركية في جميع المجالات». وأردف: «أشعر بأن الحزب ذهب خطوة أخرى إلى الأمام، عندما يكون لديك متحدثون يقولون بشكل أساسي إن (الناتو) كان مخطئاً في موقفه من غزو بوتين لأوكرانيا، ويصفون مَن يخلقون فرص العمل بأنهم (خنازير الشركات)». وخلص إلى القول: «هذا خروج هائل عما كان عليه حزبنا، ولا أعتقد أنه وصفة للنجاح».

ولكن من جي دي فانس؟

بطاقة شخصية وعائلية

وُلد جيمس ديفيد فانس في مدينة ميدلتاون، بجنوب غربي ولاية أوهايو، وأمضى جزءاً من طفولته في مدينة جاكسون، بولاية كنتاكي.

وعلى أثر طلاق والديه تولّى تربيته جدُّه لأمه، بينما كانت الأم تعاني إدمان المخدرات. وبعد تخرّجه في المدرسة الثانوية بمدينة ميدلتاون، التحق بسلاح مشاة البحرية «المارينز»، وخدم 4 سنوات في العراق بمهامّ إدارية، ما مكّنه من توفير كلفة دراسته الجامعية.

وبالفعل، في أعقاب تسريحه من الخدمة العسكرية التحق بجامعة ولاية أوهايو، ثم بكلية الحقوق في جامعة ييل الشهيرة. وبعد تخرّجه عمل في شركة «باي بال»، للملياردير بيتر ثيل، الذي كان شريكاً مع إيلون ماسك فيها. ثم أسّس فانس شركته الخاصة للعمل في رأس المال الاستثماري، ثم رشح نفسه عام 2022 لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، وفاز بالمقعد.

زوجته، أوشا تشيلوكوري فانس، تتحدر من أصول هندية، فولداها مهاجران من الهند. ولقد درست الحقوق في جامعة ييل، وتابعت دراسات عليا في جامعة كمبريدج ببريطانيا. وحققت في مجال المحاماة مسيرة مهنية جداً، وعملت كاتبة لدى قاضي المحكمة العليا جون روبرتس، وقاضي المحكمة العليا بريت كافانو. وفي كتابه «مرثية هيلبيلي» وصفها فانس بأنها «مرشدته الروحية» التي ساعدته على النجاح.

قضايا حملته الانتخابية

يركّز المتابعون، اليوم، على نظرة فانس إلى القضايا التي يرجّح أن تكون محوَر حملته الانتخابية مع ترمب، خلال الأشهر المقبلة، وقد تُهيمن على سياسات البيت الأبيض، في حال فازا بالسباق.

بدايةً، يعارض فانس حقوق الإجهاض بشدة، حتى في حالة سفاح القربى أو الاغتصاب، لكنه مع استثناءات للحالات التي تكون فيها حياة الأم في خطر. وكان قد أشاد بقرار المحكمة العليا الأميركية التي أبطلت هذا الحق، وكان عنواناً رئيساً لترشحه لعضوية مجلس الشيوخ عام 2022، لكنه، رغم ذلك، التحق بموقف ترمب الذي يعارض حظر الإجهاض على المستوى الفيدرالي ويتركه للولايات.

قضية الهجرة كانت أيضاً في طليعة اهتمامات حملته عام 2022، وعكست آراؤه، إلى حد كبير، آراء ترمب، فهو مع إكمال بناء الجدار الحدودي مع المكسيك، وأعلن أنه «سيعارض كل محاولة لمنح العفو للمهاجرين غير الشرعيين، الذين عدَّهم مصدراً للعمالة الرخيصة التي تُخفّض أجور العمال الأميركيين، وتأتي على حساب 7 ملايين أميركي خرجوا من سوق العمل». ثم إنه يفضل ما سمّاه «النظام القائم على الجدارة للمهاجرين»، الساعين إلى الاستقرار في أميركا، قائلاً إن الحدود المفتوحة مصدر للمخدّرات غير المشروعة وتدفق «مزيد من الناخبين الديمقراطيين إلى هذا البلد».

فانس يدعم بقوة، في المقابل، فرض تعرفات واسعة النطاق، خاصة على البضائع المستوردة من الصين؛ «لأنها تشكل تهديداً غير عادل للوظائف والتجارة الأميركية». ولقد قال: «نحن بحاجة إلى حماية الصناعات الأميركية من كل منافسة». ويتوافق موقفه هذا، إلى حد كبير، مع ترمب، الذي اقترح فرض تعرفة جمركية قد تصل إلى 100 في المائة، على بعض البضائع الصينية، وتعرفات شاملة بنسبة 10 في المائة على كل البضائع الواردة إلى البلاد.

وحول البيئة، يرى فانس أن «تغير المناخ لا يشكل تهديداً»، مشككاً في الإجماع العلمي على أن ارتفاع درجة حرارة الأرض ناجم عن النشاط البشري، ولذا يؤيد بقوة صناعة النفط والغاز التي تهيمن على ولايته أوهايو، ويعارض توليد الطاقة من الرياح والطاقة الشمسية والمركبات الكهربائية.

إرث الريغانية

على صعيد آخر، أكثر ما يثير قلق الخائفين على إرث «الريغانية» من فانس مواقفه في السياسة الخارجية، إذ إنه من أبرز «حمائم» الأمن القومي في الحزب، ويعزّز يد القوى الانعزالية الحريصة على التراجع عن إجماع الحزب الجمهوري المتشدد الذي استمر منذ عهد رونالد ريغان. وإذا ما فاز ترمب في الانتخابات، فسيحظى أنصار الإحجام عن التدخل الخارجي بنصير قوي وصريح لهم إلى جانب ترمب.

ومثالاً، فانس من أبرز المعارضين لدعم أوكرانيا في الحرب مع روسيا. وسبق له أن قال، في مقابلة إذاعية مع الحركي اليميني المتشدد ستيفن بانون: «أعتقد أنه من السخف أن نركز على هذه الحدود في أوكرانيا». وتابع: «يجب أن أكون صادقاً معك، لا يهمُّني حقاً ما يمكن أن يحدث لأوكرانيا...». وفعلاً، قاد فانس، قبل أشهر، معركة فاشلة في مجلس الشيوخ؛ لمنع إرسال حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 60 مليار دولار لأوكرانيا. وكتب، في مقالة رأي بالـ«نيويورك تايمز»، موضحاً: «لقد صوتت ضد هذه الحزمة في مجلس الشيوخ، وما زلت معارضاً لأي اقتراح للولايات المتحدة لمواصلة تمويل هذه الحرب.. بايدن فشل في توضيح حتى الحقائق الأساسية حول ما تحتاج إليه أوكرانيا، وكيف ستغيّر هذه المساعدة الواقع على الأرض».

وعلى مواقف كهذه اتهمته ليز تشيني - التي كانت زعيمة كتلة الجمهوريين بمجلس النواب قبل إقالتها لمعارضتها ترمب - على منصة «إكس»، بـ«أنه يستسلم لروسيا ويضحّي بحريّة حلفائنا في أوكرانيا.. لم يعد حزب ترمب الجمهوري هو حزب لنكولن أو ريغان أو الدستور». غير أن فانس أكد أن تقديم المساعدات لأوكرانيا يتماشى تماماً مع إرث رونالد ريغان. وشرح: «انظر، أعتقد أن ريغان كان رئيساً عظيماً، لكنه أيضاً تولى الرئاسة قبل 40 أو 45 سنة في بلد مختلف تماماً».

أما بالنسبة للشرق الأوسط، فإن فانس مؤيد ثابت متحمس لإسرائيل، قبل وطوال حربها في غزة، ودافع عن سياساتها في مواجهة الانتقادات المتزايدة بشأن عدد القتلى المدنيين الفلسطينيين. وعندما نظر أعضاء مجلس الشيوخ في مشروع قانون ينص على توفير مساعدات عسكرية لكل من إسرائيل وأوكرانيا، رفض فانس ذلك، وكتب: «لدى إسرائيل هدف يمكن تحقيقه.. أما أوكرانيا فلا».

ثم إنه ردَّد تصريحات رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، عن «الحاجة إلى القضاء على (حماس)»، بعد هجوم «حماس»، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وهاجم الرئيس جو بايدن؛ لتأخيره شحن الأسلحة إلى إسرائيل، معترفاً بالضحايا المدنيين في غزة، لكنه ألقى اللوم على «حماس» وليس على إسرائيل.

وأخيراً، بشأن علاقة فانس بترمب، تجدر الإشارة إلى أنه أعاد تشكيل نفسه تماماً باعتباره نصيراً متحمساً لحركة «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» الترمبية، إذ إنه لم يدعم ترمب في السابق، ولم يصوِّت له عام 2016، بل ذهب أبعد ملمّحاً بأنه يمكن أن يكون «هتلر أميركا»، منتقداً خطاباته المناهضة للمهاجرين والمسلمين، لكنه تحوّل فجأة إلى أحد أبرز المدافعين عنه، قائلاً إنه «كان مخطئاً» في تقييم سياساته.

أيضاً أيّد فانس ادعاءات ترمب بتزوير انتخابات 2020، وشكّك في أن (نائب الرئيس) مايك بنس كان في خطر، لأنه رفض، بصفته رئيساً لمجلس الشيوخ، منع التصويت الذي يؤكد صحة فوز بايدن. ومما صرّح به فانس، لشبكة «سي إن إن» قوله: «أعتقد أن أهل السياسة يحبّون المبالغة في الأمور من وقت لآخر. يوم 6 يناير كان يوماً سيئاً، لكن فكرة أن دونالد ترمب عرّض حياة أي شخص للخطر عندما طلب منهم الاحتجاج سلمياً فكرة سخيفة»... وقد حظي بعدها بدعمه للترشح في مجلس الشيوخ عام 2022.