تاريخ الأدب العالمي في كبسولة

في أقل من 300 صفحة.. مجمل شامل يتميز بالسلاسة والوضوح والدقة

تشارلز ديكنز، شكسبير، ماركيز، مارسيل بروست
تشارلز ديكنز، شكسبير، ماركيز، مارسيل بروست
TT

تاريخ الأدب العالمي في كبسولة

تشارلز ديكنز، شكسبير، ماركيز، مارسيل بروست
تشارلز ديكنز، شكسبير، ماركيز، مارسيل بروست

هل يمكن وضع الأدب العالمي في كبسولة واحدة كي يسهل على القارئ ابتلاعه وهضمه؟ للوهلة الأولى يبدو هذا من قبيل المحال، خصوصا إذا استرجعنا الامتداد الزمني لهذا الأدب في أعماق التاريخ، وتعدد لغاته، وتنوع أجناسه ما بين شعر ونثر وملاحم ومسرحيات وقصائد وروايات وأقاصيص ومقالات.
لكن هذا على وجه الدقة هو ما يفعله الناقد الإنجليزي المعاصر جون سذرلاند، الأستاذ بكلية يونيفرستي كولدج بجامعة لندن، وصاحب أكثر من عشرين كتابا من آخرها «سير الروائيين: تاريخ القصة في 294 سيرة» (2013). ففي خلال العام الماضي (2014) صدر له في طبعة ورقية الغلاف كتاب عنوانه «تاريخ وجيز للأدب» (الناشر: مطبعة جامعة ييل):
John Sutherland، A Little History of Literature. Yale University Press، 2014.
يحوي في أقل من ثلاثمائة صفحة مجملا لهذا التاريخ على نحو يتميز بالسلاسة والوضوح والدقة. وإذا كان من الغريب أن يقدم امرؤ، في المحل الأول، على مثل هذه المحاولة الطموح، فالأغرب أن ينجح فيها، وهو النجاح الذي يحققه سذرلاند هنا.
يعرف المؤلف في فصله الأول الأدب بأنه نتاج العقل الإنساني في أقصى لحظات قدرته على أن يعبر عن العالم المحيط به وأن يفسره. إن الأدب، في أعلى تجلياته، لا يبسط من تعقيدات الوجود وإنما يوسع من أذهاننا ويرهف من حساسيتنا إلى الحد الذي يجعلنا نستوعب هذا التعقيد، حتى لو لم نتفق -وهو ما قد يحدث كثيرا- مع آراء الكاتب أو آراء شخصياته. وهكذا فإن الإجابة عن سؤال: لماذا نقرأ الأدب؟ هي: لأنه يغني حياتنا على أنحاء لا تتسنى بأي طريقة أخرى. إنه يجعلنا أكثر إنسانية. ومن هنا كانت أهمية أن نتعلم كيف نقرأه على النحو الصحيح.
في ضوء هذا التعريف يتقدم سذرلاند إلى التعريف بأهم معالم الأدب العالمي، مع التركيز على الأدب الإنجليزي والأميركي. إنه يناقش الأجناس الأدبية الكبرى، بدءا من الأسطورة حتى يومنا هذا. ومن الأدباء الذين يتوقف عندهم: هوميروس، وشكسبير، وميلتون، وديكنز، وبودلير وتوماس هاردي، وألبير كامو، وخورخه برخيس، وغونتر غراس. كما يتوقف عند قضايا أكثر عمومية مثل: تاريخ الطباعة والنشر وحقوق الطبع، وأدب الرحلات الحقيقية والمتخيلة، والحركة الرومانتيكية في القرن التاسع عشر، وجمهور القراء، وأدب الأطفال، والرقابة على الأدب، وأثر الحرب العالمية الأولى في الشعراء والكتاب، وأدب المرأة، واليوتوبيا ونقيضها، وإعداد الأعمال الأدبية للسينما والمسرح والتلفزيون، وأدب الاعترافات، وأكثر الكتب مبيعا، والجوائز والمهرجانات، مختتما كتابه بسؤال: ما مستقبل الأدب في العصر الرقمي وثورة الإلكترونيات؟
ولنتوقف عنا عند بعض هذه المحطات. هناك، في البداية، ملحمة جلجامش البابلية التي يرجع تاريخها إلى عام 2000 قبل الميلاد (نقلها إلى العربية طه باقر). لقد نشأت في العراق أو بلاد ما بين النهرين، وهي مهد الحضارة الغربية. ففي هذا الهلال الخصيب زرع القمح لأول مرة، ومن ثم تسنى للبشرية أن تنتقل من مرحلة الصيد والرعي إلى مرحلة الزراعة المنظمة. وهذا بدوره ما جعل من الممكن إقامة المدن والعيش فيها، وبذلك جعل حياتنا الحاضرة ممكنة.
والنص الذي وصل إلينا من ملحمة جلجامش ناقص، كما هو الشأن في كثير من ملاحم العالم القديم. لقد كتب على ألواح من الطين لم يتمكن بعضها من الصمود لمرور مئات الأعوام. لكن ما بقى منها كافٍ لكي نتبيّن المعالم الرئيسية للملحمة. إن بطلها هو جلجامش ملك أوروك: نصف إله ونصف بشر، بنى - تمجيدا لنفسه - مدينة فخمة يحكمها حكما استبداديا مطلقا. ولكي تعاقبه الآلهة على كبريائه المسرف، تخلق «رجلا بريا» اسمه إنكيدو، يضارع جلجامش في قوة البدن، ولكنه أنبل خلقا. ويتصارع الاثنان فتكون الغلبة لجلجامش. لكنهما يتصادقان - من منظور احترام كل منهما لقوة الآخر - ويشرعان في سلسلة من الرحلات والمغامرات ومواجهة المحن والتحديات معا.
ومن ملاحم الأدب التي أعقبت «جلجامش» ملحمة «بيولف» الإنجليزية القديمة، والإلياذة والأوديسية لهوميروس، والمهابهاراتا الهندية، وإنيادة فرجيل اللاتيني، وأغنية البطل رولان الفرنسي، وقصة السيد في الأدب الإسباني، وخاتم النبيلونجن في الأدب الألماني، وكوميديا دانتي الإلهية، و«الملحمة اللويسية» (نسبة إلى اسم: لويس) للشاعر البرتغالي كامويس في القرن السادس عشر.
ومن ملحمة جلجامش ينقلنا سذرلاند في فصله المسمى «بيت القصة» إلى عمل أدبي يعد من الأعمال المؤسسة لفن الرواية والقصة القصيرة والقصة متوسطة الطول، هو «الديكاميرون» (منتصف القرن الرابع عشر) للأديب الإيطالي بوكاشيو. لقد ضرب الموت الأسود (الطاعون) مدينة فلورنسا في عام 1348، كما كان يحدث كثيرا في أواخر العصور الوسطى وأوائل عصر النهضة. لم يكن له علاج طبي آنذاك، فكل ما كان يسعك أن تفعله هو أن تفر منه وتأمل ألا تصيبك عدواه. ويلوذ عشرة من الأهالي ذوي الثروة ونبل المحتد – ثلاثة رجال وسبع نساء – بفيلا في الريف لمدة عشرة أيام (ومن هنا جاء عنوان الكتاب، فكلمة «ديكا» باللغة اليونانية تعني «عشرة») في انتظار أن تنجلي غمرة الطاعون. ولكي يمضوا الوقت دون ملل، يتفقون على أن يروي كل منهم قصة واحدة في كل يوم، بحيث يغدو مجموع القصص مائة قصة. وقد استخدم بوكاشيو – الذي كان أشهر كتاب الأدب الإيطالي في عصره – كلمة «نوفيلا» novella في وصف هذه القصص. والكلمة إيطالية بمعنى «شيء صغير جديد». وتروى هذه القصص في دفء المساء، تحت أشجار الزيتون، بينما الحشرات تصدر صريرها، وتدور المرطبات على السادة والسيدات الحاضرين.
وننتقل إلى القرن العشرين حيث يحدثنا سذرلاند عن الأديب الفرنسي مارسيل بروست وسلسلة رواياته التي تحمل عنوان «البحث عن الزمن المفقود» (1913 - 1927). ينطلق بروست من اعتقاد مؤداه أن الحياة تعاش اتجاها نحو المستقبل، ولكنها تفهم بالرجوع إلى الماضي. وفي بعض اللحظات نجد أن ما تركناه وراءنا أعظم تشويقا مما يواجهنا في الحاضر. وفي رواية بروست – التي استغرق تأليفها خمسة عشر عاما وسبعة مجلدات – نجد ما أطلق عنان الحكاية واقعة بسيطة، بل بالغة البساطة: لقد غمس الراوي كعكة صغيرة – من النوع الذي يعرف باسم كعكة الماديلين – في فنجان شايه فإذا مذاق الشاي – مختلطا بفتات الكعكة – يجعل فجأة شريط حياته ينبسط بأكمله في خياله وكأنه يشاهد فيلما سينمائيا. ومن ثم غدا أهم ما يهتم له هو أن يسجل هذه الحياة على الورق.
وفي فصله المسمى «ألوان عبثية من الوجود» ينقلنا سذرلاند إلى الكاتب التشيكي فرانز كافكا (1883 - 1924). ويقول سذرلاند إننا لو أردنا تحديد أكثر السطور الافتتاحية في فن القصص تأثيرا، عبر العصور، فلا بد أن يكون من بينها افتتاحية قصة كافكا القصيرة المسماة «التحول» أو «المسخ»: «إذ استيقظ جريجور سامسا ذات صباح من أحلام قلقة، وجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة عملاقة».
هذه رؤيا كابوسية للوجود الإنساني. ومن المحتمل ألا يكون كافكا قد اهتم بأن ينقلها للأجيال التالية، فقد أوصى صديقه الكاتب الألماني ماكس برود بأن يحرق كل مخطوطاته الأدبية مفضلا ألا يقرأها صديقه. لكن برود، لحسن الحظ، خالف وصية كافكا، وحفظ لنا هذا التراث بعد أن مات صديقه بذات الصدر عن أربعين عاما. هكذا يتحدث إلينا كافكا اليوم ضد إرادته.
وآخر محطة أريد أن أتوقف عندها هنا هي الفصل السادس والثلاثين من كتاب سذرلاند، ومداره «الواقعية السحرية» التي أبدعها كتاب أميركا اللاتينية في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته. وأبرز هؤلاء الكتاب هو الروائي الكولومبي غابريل غارثيا ماركيز (حصل على جائزة نوبل للأدب في 1982) صاحب رواية «مائة عام من العزلة» (نقلها إلى العربية د. سليمان العطار). وروايته هذه مليئة بالانتقالات المحيرة في الزمان والمكان.
ومسرح الرواية بلدة كولومبية متخيلة تدعى ماكوندو (تلعب كولومبيا دورا هاما في كتابات ماركيز، كالدور الذي تلعبه ألمانيا في كتابات غونتر غراس أو البرتغال في كتابات خوسيه ساراماغو) إن هذه البلدة صورة مصغرة لكولومبيا بأجمعها: إنها «مدينة مرايا» عاكسة. وفي سلسلة متراقصة الأضواء من المشاهد، نرى لمحات مفتاحية من الأحداث في تاريخ البلاد: حروب أهلية، وصراعات سياسية، ودخول السكك الحديدية والتصنيع، والعلاقة مع جارتها القوية: الولايات المتحدة الأميركية. يتبلور كل شيء هنا في عمل أدبي واحد لامع. ومع أن الرواية ملتزمة سياسيا، كأقصى ما يكون الالتزام، فإنها تظل عملا فنيا فائقا، ينم عن براعة وصنعة وخيال.
ويختتم سذرلاند كتابه بالسؤال: ما مستقبل الأدب في عصر ثورة الاتصالات والإنترنت والحاسوب والأقمار الصناعية والثورة الرقمية؟ ويجيب متفائلا: «إن الأدب - ذلك النتاج الإبداعي على نحو مدهش لعقل الإنسان - سيظل إلى الأبد جزءا من حياتنا، يغذيها مهما اتخذ من أشكال جديدة أو تكيفات. وأنا أقول (حياتنا)، ولكني خليق أن أقول: (حياتك وحياة أطفالك)».



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.