غالا وسلفادور دالي... إعادة اختراع الحياة عن طريق الانصهار في الآخر

كانت زوجة بول إيلوار قبل أن يرسم لها بهلوان السوريالية الساحر مصيرها المختلف

غالا ودالي
غالا ودالي
TT

غالا وسلفادور دالي... إعادة اختراع الحياة عن طريق الانصهار في الآخر

غالا ودالي
غالا ودالي

قلّ أن شهد القرن العشرون، بل تاريخ الفن برمته، شخصاً بغرابة سلفادور دالي وفورانه الروحي وموهبته المتفردة. بل إن المسافة بين العبقرية والجنون لم تكن لتضيق إلى حد الانعدام، كما كان حالها مع الفنان الإسباني الذي لم يكفّ طيلة أعوام حياته الخمسة والثمانين عن إدهاش العالم بحضوره الصاخب وسلوكه البهلواني ومفاجآته المتلاحقة. ولم يكن دالي المولود في كاتالونيا عام 1904، والذي يعني اسمه الرغبة بلغتها المحلية، ليخجل على الإطلاق من تهمة الجنون التي طالما طاردته، بل كان يحرص عامداً على تظهيرها وتأكيد التصاقها به، وعلى أن يمد لسانه للعالم كما فعل أينشتاين، هازئاً من نفاقه المتعاظم وقيمه الكاذبة واستقامته المدّعاة.
والواقع أن سلوك دالي الغرائبي كان مزيجاً من التعبير التلقائي المتصل بتكوينه الفطري وجيناته الموروثة من جهة، ومن الرغبة المتعمدة في الإبهار ولفت النظر والسير عكس نظام القيم، كنوع من الرد على هويته المجروحة من جهة أخرى. ذلك أن صاحب «الساعات العرجاء» كان يحمل اسم أخيه الأكبر الذي توفي بمرض السحايا قبل ولادته بسنوات ثلاث، وهو نفس ما حدث لفان غوغ قبله بعقود عدة. وكان على دالي أن يرى اسمه منقوشاً فوق شاهدة أحد القبور، وهو يعبر الطريق إلى مدرسته بشكل يومي، ما جعله يلاعب الموت على ساحة الغرائز القصوى والشهوات المتأججة التي لا تعرف الانطفاء.
ولا يجد دالي في سيرته المميزة أي غضاضة أو حرج يُذكر، وهو يكشف فصلاً بعد آخر عن وجوه السلوك العدائي الذي أظهره منذ طفولته المبكرة تجاه كل من أحاطوا به من البشر وسائر الكائنات الحية. فقد كان ما يزال في الخامسة حين دفع زميلاً له من أعلى الجسر، ثم تظاهر أمام الجميع بالجزع مما حدث. وبعدها بعام واحد أخذ يركل بقدميه شقيقته الصغرى ابنة السنوات الثلاث، مسبباً لها جروحاً في الرأس، ثم تباهى بفعلته تلك، دون إظهار أي شعور بالشفقة أو الندم. وهذا النزوع المرضي السادي يعزوه دالي إلى شخصية أبيه القوية والمتسلطة، والذي ظل ينظر إلى ابنه الثاني بوصفه «نصف شخص»، أو بوصفه النسخة المشوهة عن أخيه المتوفي الذي لا سبيل إلى استعادته.
هكذا كان على دالي أن يدافع عن وجوده الشخصي، من خلال هجوم معاكس يشنه على الحياة والأحياء في آن واحد، مطلقاً الحبل على غاربه لسلوكه الأرعن وانتشائه الغرائزي بالعالم، كما للوحاته الهاربة من صرامة الواقع، نحو رحابة الأحلام ورخاوة الأماكن وتسييل عقارب الساعات. وبدلاً من أن يذهب إلى قتل الأب الذي لم يكف عن إيذائه، وصولاً إلى معارضته الحاسمة لزواجه من غالا، فهو يعمد إلى «هضمه» وإعادة تمثّله وإنتاجه، كما فعل مع سائر آبائه الرمزيين كستالين وهتلر وبيكاسو، وفق ما يقوله في سيرته. وإذ يسير صاحب لوحة «ثبات الذاكرة» على التخوم الأخيرة للبارانويا، تتملكه نزعة عارمة إلى الافتراس، وينظر إلى فكيه بوصفهما الممر الأكثر نجاعة لإسكات جوع الأحشاء إلى الملذات. «أنا هو أحشائي»، يقول دالي، ثم يضيف: «إن الحقيقة الأهم هي ما نمضغه بأسناننا».
قد تكون السيرة الذاتية التي كتبها دالي تحت عنوان «أنا والسوريالية»، واحدة من أفضل البورتريهات التي حدث لأيّ من المبدعين أن رسمها لنفسه، سواء من حيث كشفها النادر والجريء عن سريرة الفنان وانحرافاته ونوازعه النفسية العميقة، أو من حيث لغتها النضرة واستعاراتها الطازجة وفضائها التخييلي. إضافة بالطبع إلى قدرة الفنان الفائقة على المواءمة بين الشاعرية العالية، والهتك الجريء لكل أشكال التابوهات الأخلاقية والاجتماعية السائدة. وإذا كان دالي لا يخفي إعجابه الشديد بشخصيتي نيتشه وفرويد، فهو قد أخذ عن الأول دعوته إلى التفوق ونزوعه الشهواني الديونيسي، فيما فتح له الثاني عبر السراديب المعتمة للاوعي، خزائن السوريالية ومناجمها الأكثر غرابة وإدهاشاً.
ولم يكن دالي، وهو الذي ينفر إلى أقصى الحدود من فكرة الامتثال النمطي والتشابه مع الآخرين، ليقصر رغبته في التميز على لوحاته وحدها، بل نظر إلى جسده باعتباره امتداداً للوحاته، وحرص على أن تكون له علاماته الفارقة، والكافية للفت أنظار المحيطين به وإبهارهم بصورة أو بأخرى، حتى لو أدى الأمر إلى إثارة سخط البعض، أو اتهام البعض الآخر له بالجنون والنرجسية الفاقعة والهوس الكرنفالي. وإذ بدا عكازه وشارباه بمثابة توقيعه النرجسي على فرادته، فقد أوضح بنفسه أن العكاز الذي ظل يحمله طوال حياته، كان بالنسبة له رمزاً للسلطة والغموض والنزق الشهواني، وجزءاً لا يتجزأ من «الأعمال الكاملة» لوجوده الأسطوري. أما حرصه على تشذيب شاربيه الطويلين وعقفهما إلى الأعلى، فهو يعزوه إلى اعتقاده بأن هذين الشاربين هما مخلباه الشخصيان، بقدر ما هما رمز سطوته وقوته الخارقة، تماماً كما كان الحال مع شمشون.
غير أن المفارقة الأكثر غرابة في حياة دالي تتمثل في الجانب العاطفي، الذي تمحور بشكل شبه كلي حول حبه لغالا وتولهه بها. صحيح أنه في سياق الإشارة إلى حبه الأول، يتحدث عن علاقته الغرامية الطويلة بزميلة له في الدراسة تسمى نينا، إلا أنه يعترف بهجره لها في نهاية الأمر، بدعوى متابعة الدراسة في مدريد؛ حيث بدا له الوقوع في الحب نوعاً من المرض، دون أن يصرفه ذلك عن «التأثر بجمال النساء وروائحهن النفاذة». كما أن خوفه الشديد من الأمراض التناسلية أوصله في تلك الفترة إلى الشلل والعجز الجسدي، قبل أن يأزف وقت لقائه بغالا، الذي وقع على حياته وقوع الزلزال وغيّر وجهتها بشكل كامل، وفق تعبيره الشخصي.
على أن الحديث عن علاقة الفنان الشهير بالمرأة المولودة في روسيا عام 1894 تحت اسم إيلينا ديميتريفنا، والتي تكبره بـ10 سنوات، لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن غالا قد عانت في طفولتها وصباها من اضطرابات عصبية ونفسية، اضطرتها غير مرة للدخول إلى المصحات. إلا أن ذلك لم يمنعها حين قررت السفر إلى باريس من استخدام ثقافتها وجاذبيتها العالية وذكائها اللافت، في إغواء عدد غير قليل من شعراء أوروبا وكتابها وفنانيها، ومن بين هؤلاء رينيه شار وماكس إرنست وأندريه بروتون، زعيم السورياليين الذي وصفها ذات مناسبة بالمرأة الخالدة. والأرجح أن غالا لم تتوانَ عن خوض كثير من المغامرات الغرامية والعاطفية العابرة، قبل أن تفضي علاقتها مع الشاعر الفرنسي بول إيلوار إلى ارتباط زوجي، لم تقتصر غلته على ابنتهما سيسيل فحسب، بل أثمر عدداً غير قليل من قصائد الحب، التي كتبها صاحب قصيدة «الحرية» تعبيراً عن شغفه البالغ بالزوجة التي أحبها من صميم قلبه.
ولعل من باب المفارقة البحتة أن تكون الحياة البوهيمية الصاخبة التي عاشها السورياليون في عشرينات القرن الفائت، هي التي أهدت لسلفادور دالي فرصة اللقاء بغالا، الذي تحول منذ اللحظة الأولى إلى حب جارف. ولكنها هي ذاتها التي أماطت اللثام عن التقلب المزاجي للمرأة التي كسرت بلا شفقة قلب زوجها الشاعر الذي تركته يعود وحيداً ومهيضاً إلى باريس، أثناء زيارة الجماعة السوريالية لدالي في منزله الإسباني.
ومع ذلك، فإن من يقرأ سيرة دالي الذاتية، لا بد أن تستوقفه نبرة التوله القصوى التي يتحدث بها عن المرأة السماوية التي بدا وكأنه كان ينتظر ظهورها منذ زمن بعيد، ليشهد من خلالها ولادته الثانية والحقيقية. والأمر نفسه ينطبق على غالا التي استوقفتها بشدة قهقهاته المتواصلة وثيابه الغريبة، والطلاء الذي بقّع به أنحاء جسمه، كتعبير عن افتتانه بزوجة صديقه «المغدور». وحين قدّر للطرفين أن يتعانقا للمرة الأولى، كانت الجملة العاطفية الاستهلالية التي همست بها المرأة المنتشية في أذن الرجل المستغرق في غيبوبته: «أريد منك أن تجعلني أموت»، كأن لا شيء سوى الموت يحقق للطرفين الواقفين عند تخوم الجنون رغبتهما بالاندماج الكامل، على طريقة الصوفيين.
ومع أن دالي لم يتخفف خلال علاقته بغالا من جموحه الشبقي الذي دمغ سلوكه وأعماله ومسار حياته الدائم، فإنه جعل من ذلك الجموح سلّمه الأنجع للوصول إلى ذروة الانصهار بالمرأة التي أحب؛ حيث يصغي عبر قلب غالا لنبض قلبه، ويتحدان معاً في كينونة واحدة. وإذ يقر دالي بأن لغالا وحدها الفضل في تهدئة الوساوس التي تطارده وتحويلها إلى عبقرية، يحقن سرده النثري بجرعات متلاحقة من أمصال التوهج الأسلوبي والاحتدام العصبي، بما يجعل من تألقه الشعري الوجه الآخر لتألق خطوطه وألوانه، وهو الذي ارتبط بعلاقة صداقة وثيقة مع غارسيا لوركا، الذي أهداه واحدة من أجمل قصائده قبل أن يقضي اغتيالاً على يد كتائب فرانكو في مطالع الحرب الأهلية الإسبانية. ولا يتوانى دالي عن الإقرار بأن الصدفة التي أهدته زوجته الاستثنائية، أهدته في الوقت ذاته المرأة التي تولت إنقاذه من الوحشة والتشتت والهلوسة المحضة، وأعادته إلى جادة الصواب. وهو ما يعكسه قوله: «لقد سمحت لي غالا بأن أصعد إلى أعلى المراتب الروحية من طاقة الحب. لقد أزالت الحواجز من أمام خيالاتي الطفولية وقلقي من الموت، وعالجتني من ثورتي المدمرة للذات بأن قدمت نفسها ذبيحة لي، حتى تحول صمتي إلى حياة، وتحول ما يطاردني من مخاوف إلى عبقرية».
لكن العبقرية التي أشار إليها دالي لم تقتصر على منجزه الفني وحده، بل هو يعترف في غير موضع إلى أن وقوف غالا إلى جانبه هو الذي غذى لديه نزعة «البارانويا النقدية»، ووفر له الدعم الكافي لتصفية حسابه مع خصومه الكثر. وهو إذ يعترف بموقف بروتون السلبي من تجربته الفنية وعدم اقتناعه بلوحاته، يؤكد بالمقابل أنه استطاع أن يرد كيد زعيم السورياليين إلى نحره ويحوله من نبي إلى ناقد. وإذ يلح في سيرته على اعتبار السياسة سرطاناً في الجسد الإبداعي، يرى بأن دعوة الشيوعيين إلى الانضباط التعبيري في الكتابة والفن، تبدو من بعض وجوهها وكأنها تقود الفنانين للإصابة بالبرص. أما قوله إنه كان يفكر ببيكاسو أكثر مما يفكر بوالده، فمن الصعب أن يؤخذ على محمل المديح، لأن دالي لم يُكنّ لوالده أي نوع من المشاعر الإيجابية. وهو لم يكتفِ باعتبار بورتريهات بيكاسو المشوهة، نوعاً من الهجوم السادي على الشكل البشري، بل رأى أن بابلو الذي قال لهيلينا روبنشتاين إنه «لا يرسم سوى النساء اللواتي ينام معهن»، لم يكن يهدف في حقيقة الأمر إلا تسخير الفن لخدمة غرائزه المنحطة، مضيفاً أنه كان يستمتع بالتنفس من آلام البشر واحتقار النساء، وبخاصة اللواتي تزوج منهن، مستشهداً بقول صاحب «الغرنيكا» إن أسعد ذكرياته تمثلت بقيام امرأتين، إحداهما لم يعد يحبها، والأخرى لم يحبها بعد، بالتقاتل من أجله دون أن يخلص إحداهما من براثن الأخرى.
وإذا كان دالي قد أظهر، من جهة أخرى، تعلقاً منقطع النظير بتربة كاتالونيا الإسبانية، معتبراً أنه «يد التربة الكاتالونية ودمها وعينها» في آن واحد، فإن صورة غالا قد انصهرت بالنسبة إليه، رغم أصولها الروسية، بكل ما عشقه في حياته، بدءاً من لوحاته الفنية وترابه الوطني، ووصولاً إلى الذهب الذي يجسد بالنسبة له منجم الوجود الروحي، ومصدر البريق الأثمن لبارانويا الخلود. وهو إذ يؤيد قول هايدغر إن الكينونة هي انفجار الإنسان في العالم، يؤكد في الوقت ذاته أنه «دون كيشوت اللاحقيقة»، وأنه قد انفجر في هذا العالم إلى حدود الإمحاء الجسدي، وأن غالا وحدها هي العمود الفقري الأصلب الذي عصم حياته من التشظي. هكذا بدا كل منهما ظهير الآخر وصورته وانعكاسه في المرآة. ولم يكن غريباً تبعاً لذلك، وبعد 47 عاماً من الحياة المشتركة، أن يقف دالي على قبر المرأة التي عشقها حتى الثمالة ليخاطب جموع المشيعين المحيطين به قائلاً: «لقد حصل ما كنتُ أخشاه، لقد متُّ قبلها إذن!».



الروائية الكندية مرغريت آتوود تطرح أسئلة الساعة

مارغريت أتوود
مارغريت أتوود
TT

الروائية الكندية مرغريت آتوود تطرح أسئلة الساعة

مارغريت أتوود
مارغريت أتوود

يعرفها الكثيرون من خلال المسلسل التلفزيوني المأخوذ من روايتها المسماة «حكاية الخادمة» (1985). ويعرفها قراء الأدب كاتبة غزيرة الإنتاج لها أكثر من خمسين كتاباً ما بين روايات ومجموعات قصصية ودواوين شعرية وأدب أطفال وكتابات نقدية.

من هذا النوع الأخير كتاب مرجريت آتوود المسمى «أسئلة الساعة: مقالات ونصوص من وحي مناسبات 2004-2022»

Margaret Atwood، Burning Questions: 2004-2022 وهو صادر عن دار «فينتاج» للنشر في 2023.

ما أسئلة الساعة التي تطرحها آتوود هنا؟ إنها حقوق الإنسان، والحركة النسوية، والأدب والبيئة، وصعود نجم دونالد ترمب، والقصة القوطية، والصراعات على مصادر الطاقة، وكوارث العصر من مجاعات وحرائق وفيضانات. ثم هي تخرج عن هذا النطاق لتكتب عن عدد من الأدباء: وليم شكسبير، وتشارلز ديكنز، ودوريس ليسنج، وأليس مونرو، وراي براد بري، وستفن كنج وغيرهم.

وتتساءل آتوود في مقدمة الكتاب: «لماذا اخترت أن أسميه (أسئلة الساعة)؟». وتجيب: «لأنه يعالج قضايا ملحة في اللحظة الراهنة، جذورها ضاربة في الماضي ولكنها ستؤثر في المستقبل». وأول هذه الأسئلة هي مستقبل كوكبنا الأرضي. وهناك مشكلات الديمقراطية، وتوزيع الثروة، وثورة الاتصالات في العصر الرقمي، ووظيفة الكاتب في القرن الحادي والعشرين، وجائحة الكوفيد.

من مقالات الكتاب مقالة مؤرخة في 2014 موضوعها الروائي وكاتب اليوميات التشيكي فرانز كافكا. تسجل آتوود ثلاث لحظات في تاريخ علاقتها بهذا الأديب المعذب صاحب «المحاكمة» و«القلعة» و«أميركا» و«المسخ». كانت المحطة الأولى كتابتها في سن الـ19 مقالة عن كافكا أبرزت فيها علاقته برموز السلطة (وأولها أبوه في البيت)، وشعوره بالضعف والذنب وانعدام الحيلة إزاء لغز الوجود، وغربته العرقية واللغوية؛ إذ كان يهودياً يكتب باللغة الألمانية في مدينة براغ الناطقة باللغة التشيكية.

والمحطة الثانية هي زيارة آتوود - مع أسرتها - لمدينة براغ في 1984، ووقوفها أمام قلعة المدينة القائمة على تل عالٍ، فتتذكر قلعة كافكا وقلاعاً أخرى كتلك التي نلتقي بها في أقصوصة «قناع الموت الأحمر» لإدجار آلان بو، ورواية «آيفانهو» للسير ولتر سكوت، ورواية «دراكيولا» لبرام ستوكر.

والمحطة الثالثة كانت في تسعينات القرن الماضي، بعد سقوط النظام الشيوعي، حين زارت براغ مرة أخرى فوجدتها مدينة مرحة تلمع بالأضواء وقد تحولت قلعتها المرهوبة إلى مزار سياحي، وراحت فرقة موسيقية تنشد أغنية «سنوهوايت والأقزام السبعة» من فيلم ولت دزني، والمحال تزخر بالهدايا والتذكارات. وراحت آتوود تتجول مع زوجها في كل الشوارع والأماكن التي عاش فيها كافكا أو تردد عليها.

وثمة مقالة مؤرخة في 2020 عن رواية «نحن» (1921-1920) للروائي الروسي يفجيني زامياتين وهي من أهم روايات القرن العشرين التي ترسم صورة مخيفة لعالم كابوسي في المستقبل، شأنها في ذلك شان رواية «عالم جديد جميل» لأولدس هكسلي، ورواية «ألف وتسعمائة وأربع وثمانون» لجورج أورويل، ورواية «حكاية الخادمة» لآتوود ذاتها. لقد تعرفت آتوود على رواية الكاتب الروسي في وقت متأخر - في أواخر تسعينات القرن الماضي - قبل أن تكتب روايتها الخاصة.

وحين قرأتها دهشت لقدرة زامياتين على التنبؤ فقد كتب عن معسكرات الاعتقال، والتجسس على أخفى أفكار الناس ومشاعرهم، وسحق الفرد، وإقامة الحواجز والأسوار، والمحاكمات الصورية قبل أن يجعل هتلر وستالين من هذه الأمور حقائق على الأرض. ورواية زامياتين رد على الطوباويات المتفائلة كتلك التي كتبها في القرن التاسع عشر الأديب الإنجليزي وليم موريس وآخرون ممن انبهروا بالتقدم العلمي والتكنولوجي فظنوه قادراً، بعصاً سحرية، على إسعاد البشرية وحل مشكلاتها والتخفيف من آلامها.

ليس هذا الكتاب أول عمل لآتوود في مجال النقد الأدبي

وفي 2020 تكتب آتوود عن رواية للأديبة الفرنسية سيمون دي بوفوار كتبت في 1954، ولكنها لم تظهر إلا بعد وفاة بوفوار وذلك جزئياً لأن جان بول سارتر - شريك دي بوفوار في الفكر والحياة - لم يجدها جديرة بالنشر. عنوان الرواية «دون انفصال» وهي عن صداقة لا تنفصم عراها بين شابتين متمردتين. وتتخذ آتوود من صدور هذه الرواية مناسبة للتعبير عن رأيها في دي بوفوار والوجوديين عموماً. لقد وجدت في كتاب الأديبة الفرنسية المعنون «الجنس الثاني» ما ترتضيه وما ترفضه. وكانت على وعي بفارق السن والظروف بين دي بوفوار وبينها. هناك فارق الأجيال (دي بوفوار ولدت في 1908 بينما ولدت آتوود في 1939). وعلى حين عاصرت دي بوفوار حربين عالميتين، ورأت وطنها يقع تحت الاحتلال الألماني، فإن آتوود عاشت في كندا التي لم تُحتل ولم تُقصف بالقنابل.

وترى آتوود أن رواية «دون انفصال» جديرة بالقراءة، خلافاً لما ارتآه سارتر، وعندها أن خير كتابات دي بوفوار هي التي تسجل طفولتها وصباها وشبابها والحياة الفكرية في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها.

ليس هذا الكتاب أول عمل لآتوود في مجال النقد الأدبي، فقد سبق لها أن حررت كتاب مختارات من الشعر الكندي المكتوب باللغة الإنجليزية (1983)، وأخرجت كتاباً مثيراً للجدل عن الأدب الكندي، عنوانه «البقاء» (1972)، وكتاباً آخر عنوانه «تفاوض مع الموتى: كاتبة تتحدث عن الكتابة» (2002). وهي بصدور هذا الكتاب الجديد تؤكد مكانتها واحدة من ألمع الناقدات النساء في عصرنا، شأنها في ذلك شأن كويني ليفيس (زوجة الناقد الإنجليزي ف. ر. ليفيس)، وديانا تريلنج (زوجة الناقد الأمريكي لايونل تريلنج)، وماري مكارثي (زوجة الناقد الأمريكي إدموند ويلسون)، وسوزان سونتاج.

وقد جمعت هاتان الأخيرتان - مثل آتوود - بين الإبداع الروائي وكتابة النقد الأدبي ومراجعات الكتب. ولهذا النوع من كتابات المبدعات الناقدات أهمية مزدوجة؛ فهي من ناحية تلقي الضوء على الأدباء الذين تكتب آتوود عنهم. ومن ناحية أخرى تلقي الضوء على آتوود ذاتها؛ إذ توضح همومها الفكرية، ومشكلاتها التكنيكية، وتطور فنها، والمؤثرات التي دخلت في تكوينها الذهني والوجداني.