توازنات الذات في مواجهة الماضي والحاضر شعرياً

الشاعرة المغربية عائشة بلحاج في «لا أعرف هذه المرأة»

توازنات الذات في مواجهة الماضي والحاضر شعرياً
TT

توازنات الذات في مواجهة الماضي والحاضر شعرياً

توازنات الذات في مواجهة الماضي والحاضر شعرياً

ما بين تقلبات الماضي والحاضر ومناخات الطفولة تدور أجواء ديوان «لا أعرف هذه المرأة» للشاعرة المغربية عائشة بلحاج. فرغم ما يشي به عنوان الديوان من نفي للمعرفة ظاهرياً فإنه يؤكدها في الوقت نفسه عبر حضور الذات الشاعرة في النصوص، وعبر مراوحات من الشك واليقين، الشك في بداهة الحقيقة وإيقاعها الماثل للعيان، بخاصة حين تتحول في خضم حالات المد والجزر عاطفياً إلى مجرد نثار من الرغبات والأماني المفتتة، في مقابل ذلك يبدو البحث عن اليقين بمثابة حلقة مفرغة ومخاتلة لحلم لا يبرح العتبات ويراوغ من أجل أن يظل هو الشيء ونقيضه معاً. ما يضعنا أمام ذات شاعرة قلقة، لا تمل من البحث عن نفسها، محاولة الإمساك بنقطة توازن، أو يقين مضاد، يشكل خطاً موازياً مع الماضي والحاضر، تتحصن به من هواجسها والمخاطر العالقة في علاقتها مع الآخر، في حين تبرز الفوضى، فوضى المشاعر والعواطف، والأحلام، وما ينعكس عليها من تحولات الطبيعة، في إشارة إلى ما تبعثر هنا وهناك، وإعادة ترتيبه من جديد في جعبة الذات والطبيعة والواقع أيضاً. تقول في نص (ص 14):
«لا تحتاج الصحراءُ إلى عواصف
لكنها تستعين بها لترتيب تلالها.
لا تحتاج الغابة إلى فيضانات
لكنها تنتظرها أعواماً
لتقتلع فخاخ الصيادين
لا يحتاج البحرُ إلى سفن
لكنه يحملها بصبر
ليقف العاشقون
على سطحها
يراقبون ظلالهم الليلية
على موجة
ليتوازن العالم».
يرشح النص بما يمكن تسميته «هاجس الفكرة، حيث يضعنا أمام نفي لها، واستدراك في الوقت نفسه (لا يحتاج... لكن). ورغم ما يشي به هذا الهاجس من شغف الذات الشاعرة بالتأمل والذهاب إلى ما وراء الأشياء، فإنه يبقى تأمل ابن هاجس الفكرة المجردة المسكونة برذاذ من الفلسفة، وليس ابن الحدس الشعري الجامح الذي يفجر الفكرة نفسها، ويقفز على المقدمات والنتائج، ويفتح لها نوافذ إدراك جديدة مباغتة، تكسر قشرة الرصد وتتابعه المنطقي في بنية الصورة الشعرية، وأحادية المعنى المباشر دلالياً ورمزياً... نعم، الطبيعة مسكونة بالفوضى والإنسان أيضاً، لكن لا أحد ابن فوضاه، ستظل الفوضى المطلقة فعل هدم، أو على الأقل فعل سلب يعتمد على المصادفة العابرة، بينما التحقق والنظام فعل وجود وإرادة واعية. ومن ثم يتوازن العالم حين يتحرر من نفسه، من فوضاه، من كونه معطى خارجياً في النص وفي الحياة. الشعر ليس مشغولاً بتفسير الأشياء ولا بتعليلها، وإنما يفجّر ما بها من طاقة مخبوءة لإثارة الدهشة والأسئلة. كما أنه لا يحتاج إلى هذه المسافة الزمنية الرخوة ما بين النفي والاستدراك، والتي ربما يحتاج إليها الشاعر بعدما يفرغ من النص، كي يستريح قليلاً من مكابداته.
لا يقتصر الدوران حول الفكرة وهاجسها على هذا النص السالف، إنما يمتد لنصوص كثيرة بالديوان الصادر أخيراً عن دار «ناشرون وموزعون» بالأردن، وتنجح الشاعرة في الاقتراب كثيراً من «شعرية الأفكار»، أحد أسمى أشكال التعاطي مع الشعر والوجود، حيث كلاهما يشكل الآخر، ويفيض عنه، في نسق حر لا تحده أطر شعرية ودلالات جافة، إنما إطاره الوحيد هو الالتصاق بالروح، وبإشراق العقل في سطوعه الأنقى. يبرز هذا على نحو لافت، في نص قصير بعنوان «مصائر» (ص33)، حيث مصادفة الوجود والفيزياء؛ تجمع بين اثنين وجدا نفسيهما.
في مرآتها، تنمو هذه المصادفة في النص بقوة الفكرة وتصنع نوعاً من الموازاة بين الرؤية كمقوم مادي بصري، وبين ما يتخفى وراءها، وذلك عبر: التحديق، والتطلع، والمشي، والخوف من الالتفات إلى الخلف، وكأنهما سيفقدان في غباره نفسيهما وظلالهما، بل إطلالتيهما على الغد والمستقبل. وهي الفكرة نفسها تكاد تكون صدى لمقولة الروائي اليوناني الشهير نيكوس كازانتزاكيس «افتح فمي وتغدو الفكرة حكاية» والتي تصدر بها الشاعرة نصاً بعنوان سلفادور دالي (ص47). يجرد كازانتزاكيس الفكرة من محمولاتها الغيرية المسبَّقة، ويجرها لمنطق السرد، حيث تتحول في مصفاته إلى حكاية؛ الأمر الذي يذكرنا بـ«مونادات» الفيلسوف الألماني ليبينتز، والتي قصد بها الذرات الروحية المكونة للعناصر والأشياء. لذلك؛ في الشعر يصبح الهدف النقدي الأمثل ليس تفكيك شفرات النص فحسب، وإنما الوصول إلى روح النص نفسه، إلى بيت الشاعر وكينونته. في سياق هذه الرؤية تلجأ الشاعرة إلى ما يمكن تسميته أيضاً محاولة «هندسة الفكرة»، وهي تقوم على تتابع الضربات الشعرية في بناء المشهد أو الصورة، بشكل خاطف ومكثف لتنمية معنى محدد والوصول إليه ببساطة وتلقائية. هنا تبرز كاف التشبيه، كأداة لتثبيت المشهد، أو الصورة، واختزال المسافة بين المشبه والمشبه به، وكأنهما انعكاس للذات الشاعرة نفسها... تقول في نص بعنوان «كأن الذي بيننا حروب وأدخنة» (ص91):
بإصبعين اثنين
أرفع النظاراتِ عن عينيّ
في باب المقهى المشرع نصفُه
أختار طاولة إلى يمين الكونتوار
أطلب قهوة خفيفة
أشعل سيجارة وأنتشي بالرائحة
أهزُّ العُقبَ شبهَ المحترق
بخفَّة فوق المنفضة الحمراء
وأنفض نظراتِ رجل عجوز
في أقصى اليسار.
أبادله التحديق.
أغمض العينين،
وآخذ نفساً عميقاً
أتركه داخلي،
أتشرَّب النفسَ المدَخّن
وأنفثه في وجه الرجل العجوز.
يحجبني الضباب
كأن الذي بيننا حروب وأدخنة}.
تتناثر هندسة الفكرة في نصوص الديوان، بخاصة القسم الأخير، لكن بعضها يقع في فخ النص المقفول على ذاته، تحت وطأة تراكم صوري كمي، كما نلمح استخدام بنية التعدد الرقمي في أكثر من نص مثل «عشرة منازل» و«ثلاث فوائد للحب»، لكنها تظل مجرد حِيلة فنية على عتبة شكل لم ينضج بعد. ومع ذلك تبدو أغلب هذه النصوص مشغولة بمغامرة ما، بقنص زاوية خاصة للمشهد أو الحالة، تنعكس بدورها على طريقة بناء الصورة وعمل المخيلة، والدمج بين نثريات الحياة اليومية وهموم الفعل الشعري. نرى ذلك، في النص الأخير بالديوان «فرصة عمل» (ص 98):
«شخصٌ مبتسمٌ
مطلوبٌ للعمل في نوبات الصباح
شخصٌ واحدٌ
آخذه
إلى العمل
لأتقي بابتسامته شرَّ الزملاء،
إلى السوق ليتدافع مكاني
إلى البنك لقبض ثمن عرقي
أوراقا قليلة
شخص واحد يذهب
إلى الأعراس
التي تجرُّني إليها أمي
وينام على سرير كوابيسي
شخص أبادله اسمي
وأهرب»
في عباءة الطفولة يصل الديوان إلى خلاصته الشعرية، فلا تصبح الذات مشغولة بتوازناتها، وإنما بالقفز وراء الأشياء، وتحسس نبض الأزمنة والأمكنة فيها، وتكتنز العين والجسد نشوة اللمسة الأولى وبراءة الحكايات، ومشاحنات البيت والتكوين واكتساب الخبرة والمعرفة: «التجربة معيار الحقيقة»... هكذا تأتي إحدى الخلاصات (ص20) من نص «ما زلت أقفز بين الغرف» (ص17) ومنه:
«أدخلتني أمي المطبخ
بيد مشغولة بالأسئلة
من أين أفصلُ جذوعَ الدجاج
كم من الزيت احتاج
لتغطيس البطاطس؟
ما من أحدٍ يجيب
بينما الأفواهُ الجائعة كثيرة
لم يعلِّمني أحدٌ
كيف أغطس آلامي في الورقة
ولا أغرق،
أو كيف أمنع الكلماتِ
من أن تحمل قلبي في انهمارها.
لم يعلِّمني أحدٌ
كيف أنزع فتيل الذكريات
وألقيها على الورق
مثل وحوش تزحف داخلي
بدأب منشار تقاوم يدي العارية.
لا أعرف كيف أقود الشِّعرَ
الذي أتنفس
لنعود معاً من حيث مرت الحياة».
في هذا النص وهو أطول نصوص الديوان (16) صفحة، تطالعنا شرائح من السيرة الذاتية للشاعرة، وهي طفلة غضة، تحبو على سلالم الحياة، مشرّبة بقلق أنثوي وإحساس لاعج بالافتقاد للحرية، والنزوع إلى المغامرة والتمرد على وضعية المرأة البائسة في مجتمع لا يزال يمارس سطوته الذكورية، وغيرها من الأسئلة التي لا تزال تدور على طاولة اللحظة الراهنة.
تبقى من الأشياء اللافتة في النص تعامل الشاعرة مع الطفولة كفعل معايشة مفتوح على تخوم البدايات والنهايات، أنه فعل بناء وتكوين، لا يزال قادراً على إثارة الدهشة والأسئلة، وليس مجرد استحلاب لذكريات تتقافز فوق حبال الشجن بمشاهدها الشقية وأحلامها الغاضبة المشاكسة. الطفولة صيرورة الحياة، محطة متجددة قد نغادرها أحياناً، لكننا سرعان ما نعود إليها، لنلحق بأحلام قصية، ما زلنا نسابق من اجلها خطواتنا:
«تركت كل شيء
كأنني ذاهبة إلى عالم آخر
أشيائي هنا لا تعني أحداً هناك
توقعت بيتاً آخر،
أو ما يشبه البيت
لكن ماذا في الشوارع
غير الذئاب والكلاب
والقطط والقمامة؟
في الصباح التالي،
طرقتُ البابَ بخزي جندي
قلبه لم تعجنه المعارك.
في المطبخ وضعت سكينا
على بطني لأواجه أمي:
«لا يسألني أحد أين كنت}.
في الختام، يبقي في هذا الديوان، أنه ابن عاطفة خاصة، مشغوفة بالشعر كضرورة حياة ووجود، كما يشكل محطة متقدمة في تجربة الشاعرة، للوصول إلى المعنى الخلاق للحرية والجمال.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!