هل يريد بوتين كييف «المجيدة» بأي ثمن؟

يقول المفكر البروسي كارل فون كلوزفيتز، صاحب الكتاب الشهير «في الحرب» (On War)، إن العاصمة هي مركز الثقل الأساسي لكل دولة أو مملكة. ولأنه نادى بالمعركة الحاسمة والإبادة للخصم، اعتبر أن الاستيلاء على عاصمة العدو يعني هزيمته.
صدق نابوليون بونابرت كلوزفيتز، فشد الرحال باتجاه موسكو، واعتبر أنه بمجرد وصوله إلى القلب السياسي للإمبراطورية الروسية، سيأتي القيصر ألكسندر الأول قسراً للتفاوض معه على شروط الاستسلام.
لم يحصل هذا الأمر لأسباب عدة بينها: الطقس، العمق الجغرافي، طول خطوط الإمدادات، الأوبئة، وأهمها عدم رغبة القيصر بالاستسلام.
ورداً على فكر كلوزفيتز، كتب المفكر الإنجليزي ليدل هارت عن الاقتراب غير المباشر في المعارك. فبدل الحسم، لماذا لا يذهب القادة إلى عنصر المناورة تخفيفاً للأثمان خاصة البشرية؟ لقد فعلها القائد القرطاجي هنيبعل في معركة كانت ضد الرومان ونجح.
في سياق مختلف، يقول الكاتب الأميركي والمفكر الاستراتيجي إدوارد لوتواك في كتابه «انقلاب» أو Coup D›état، إن الوصفة الناجحة لأي انقلاب ترتكز في السيطرة على العاصمة، وإغلاقها، وعزلها وقراءة البيان رقم واحد عبر الإذاعة. والأمثلة كثيرة في عالمنا.
يهدف الاقتراب غير المباشر إلى خلخلة جهوزية العدو عبر المناورة، السرعة وعامل المفاجأة.
كيف تبدو كييف في ميزان هذه المعادلات؟
في أوكرانيا، ناور الجيش الروسي متجاهلاً عقيدته العسكرية التي تقوم على الدعم الناري الكثيف والخرق في الوقت نفسه.
لم تكن الحرب مفاجأة، فالصور الجوية والمعلومات الاستخباراتية كانت متوفرة على وسائل التواصل الاجتماعي، حتى أن تصريحات الإدارة الأميركية كانت تبشر بـ«هجوم وشيك وأكيد»، حتى سمى أحدهم الحرب على أوكرانيا بأول «حرب تيك - توك».
ويُقال في هذا الإطار، إن الاستعدادات لهذه الحرب كانت بدأت عام 2014 بعد ضم القرم وبدء الانفصال في إقليم دونباس.

بعد سقوط مدينة خيرسون في جنوب أوكرانيا، والتوغل الروسي شمالاً بعمق نحو 60 كليومتراً، يمكن القول إن الجيش الروسي هو في طريقه لكسر أفضلية الخطوط الداخلية للجيش الأوكراني، والالتفاف عليه وتطويقه من الخلف وضرب عمقه الجغرافي.
أن تجتاح بلداً هو أسهل بكثير من أن تحتله؛ فلكل مرحلة، بين الاجتياح والاحتلال، دينامية ومتطلبات استراتيجية عسكرية مختلفة عن الأخرى، وقد يكون لنا مقاربة في هذا الموضوع قريباً.
فهل تكون كييف الجائزة الكبرى للرئيس بوتين؟ وهل هناك سباق الآن، بين تطويقها وبين منع الغرب و«الناتو» وخصوصاً أميركا من إيصال السلاح إليها؟ ولماذا يريد كييف؟ وكيف يريدها؟ وبأي حالة؟ محاصَرة، مستسلَمة أو مدمَّرة؟ وهي المدينة التي أُسست قبل عاصمته موسكو في عام 482 م، وهي أكبر سناً من موسكو بـ665 سنة. والأهم، تعتبر كييف في الذاكرة الجماعية الروسية مدينة مجيدة من ضمن 12 مدينة لأنها قاتلت ضد النازيين في عام 1941.
الخطة والاستعدادات لا تزال على قدم وساق. حتى الآن، الاستعداد هو لإحكام الطوق حول كييف. فما هي مصاعب بوتين فيها عسكرياً؟
• ضرورة الاستعداد بجمع قاعدة حربية كافية بالعدد والعتاد واللوجيستية حول كييف. فالقصف شيء، والاقتحام شيء، والقتال من منزل إلى آخر شيء، حتى أن تأمين الاستقرار بعد القتال يستلزم أشياء كثيرة. فمن سيقاتل داخل المدينة؟
• بحسب الأمم المتحدة، وبعد العمليات العسكرية، ولتأمين الاستقرار، يلزم لكل 50 شخصاً مدنياً عنصر أمني واحد. عدد سكان أوكرانيا 44 مليون نسمة، مقسوماً على 50 النتيجة 880 ألف رجل أمني. هذا إذا كانت المقاومة سياسية سلمية. فماذا لو كانت المقاومة عُنفية؟
• مساحة كييف 830 كيلومتراً مربعاً، ومنقسمة إلى شرق وغرب على ضفتي نهر الدنيبر. تصل خمسة جسور الجهتين. فلأي جهة ستكون الأولية: الشرق أم الغرب؟ حسب المؤشرات الميدانية وحركية الجيش الروسي، يبدو أن الجهد الرئيسي الروسي سيكون في القسم الغربي لكييف. فهل سيُشكل القسم الشرقي السندان لمطرقة القسم الغربي؟
• عدد سكان كييف 3 ملايين، خرج نصفهم. فكم من الذين بقوا سيحملون السلاح؟ 10 في المائة منهم تعطي الرئيس زيلينسكي 150 ألف مقاتل. لكن المهم يبقى في كيفية الاستعداد والتحضير المُسبق للسيناريو السيئ.
• كم من الوقت سيستغرق قتال الشوارع، مع كثافة سكانية تصل إلى 3299 شخصاً بالكيلومتر المربع؟
• من سيقاتل في المترو الكييفي، مع طول 67 كيلومتراً، ويقبع تحت الأرض على عمق 105 أمتار؟
• ماذا عن وعي الجيش الأوكراني للمكان بتفاصيله Situational Awareness، وغيابه عن القوى المهاجمة؟
إلى اللقاء مع واقع جديد على مسرح الحرب، الأمر الذي يتطلب مقاربة جديدة، خصوصاً أن سير الحرب عادة هو كمن يركض في الوحل.
هذا مع تأكيد أن كل دول العالم تراقب اليوم عن كثب أداء الجيش الروسي للبناء عليه. كما يجمع الخبراء والاختصاصيون كل التفاصيل لدرسها والكتابة عنها. والأخطر هو في وضع دروسها أمام صُناع القرار لاستعمالها في الحروب الآتية، اللهم إلا إذا حصل ما ليس بالحسبان.