المدني يكتب عن «الخليج في الزمن الجميل»

د. عبد الله المدني
د. عبد الله المدني
TT

المدني يكتب عن «الخليج في الزمن الجميل»

د. عبد الله المدني
د. عبد الله المدني

يطل علينا الأكاديمي والأديب البحريني الدكتور عبد الله المدني مجددا بمؤلف من خارج تخصصه الأكاديمي في العلاقات الدولية والشأن الآسيوي، لكنه في صلب اهتماماته بالتاريخ الاجتماعي على نحو ما برز في إصداره السابق «البحرينيون في الخبر والدمام» وفي رواياته الخمس (في شقتنا خادمة حامل، بولقلق، محمد صالح وبناته الثلاث، ومذكرات حاوية مخلفات).
جديد المدني، الذي يأتي في إطار حرصه على نشر مؤلف واحد كل عام، يحمل عنوان «البحرين والخليج في الزمن الجميل»، وهو من القطع الكبير ويقع في 344 صفحة مزودة بصور فوتوغرافية منتقاة، أغلبها نادر.
ويتصدر الكتاب مقدمة كتبها الإعلامي البحريني سعيد الحمد. أما مقدمة المؤلف فتتضمن شرحا ودفاعا عن عنوان الكتاب. ذلك أن البعض قد لا تستهويه عبارة «الزمن الجميل» في وصف حقبة الخمسينات والستينات من القرن العشرين، فيتحجج قائلا: «كيف تصفون تلك الأيام بالجميل وقد كنتم فيها في حالة معيشية يُرثى لها.. تسكنون البيوت المصنوعة من سعف النخيل وجريده، وتتنقلون بالسياكل أو في أفضل الأحوال بواسطة الحافلات الخشبية، وتنامون الليل فوق أسطح المنازل الرطبة المليئة بالحشرات والفئران، ولم تكن لدى السواد الأعظم منكم المكيفات أو الثلاجات أو الهواتف أو السيارات الخاصة، ناهيك عن بدائية وقذارة حماماتكم وغرفكم وأثاثكم وسخونة مياهكم صيفا وبرودتها شتاء، وتناولكم صنفا متكررا من الوجبات الغذائية، وارتدائكم لملابس لا تتغير سوى في الأعياد، وتسكعكم في الأزقة الترابية القذرة دون أحذية».
ينقلنا المدني في كتابه، عبر 48 فصلا، إلى أنماط الحياة في الخليج في عقدي الخمسينات والستينات أو نحوهما مستعرضا شخوص تلك الحقبة واهتماماتها وهواياتها وما كانت تسمع من أغان، وما كانت تشاهد من أفلام، وما كانت تمارس من أنشطة، وما كانت تأكل وتشرب وتقرأ وترتدي.
وهو لئن فعل ذلك بأسلوب رشيق سهل يغري القارئ بالاستمرار في القراءة والتلهف على الصفحات التالية، فإنه يؤرخ أيضا لأمور مثل: بدايات النشاط الفندقي والخدمات الصحية والحركة المسرحية وتأسيس الإعلام المرئي والمسموع في المنطقة، وتاريخ تعرفها على السيارات والدراجات والسجائر، وتاريخ إنشاء المطارات والموانئ وبدء الرحلات الجوية ووسائلها معرجا على أهم الكوارث الجوية التي كان الخليج مسرحا لها، وتاريخ الحركة التعليمية وروادها الأوائل وما كانوا يمارسونه من عقوبات بدنية غليظة بحق طلبتهم، ناهيك عن استعراض تاريخ الغوص على اللؤلؤ ورجالاته وأنواع مراكبه وموانئه، واستعراض الكثير من المفردات اليومية التي كانت متداولة عند الجيل القديم ولم تعد معروفة عند الجيل الجديد.
ولا ينسى المؤلف أن يتوج ما سبق بالحديث عن ثلاثة أحداث هامة في تاريخ البحرين هي: تفاصيل الغارة الجوية الإيطالية على البحرين والظهران أثناء الحرب العالمية الثانية، والعملية الأممية لتقصي الحقائق حول عروبة البحرين وسيادتها في ظل الادعاءات الإيرانية الباطلة، وإرهاصات حلم ربط البحرين بالمملكة العربية السعودية بجسر بحريني.
وعليه سيجد القارئ في الكتاب، الصادر عن إدارة المطبوعات بوزارة الإعلام البحرينية، العناوين التالية التي صاغ المؤلف بعضها بشكل فكاهي كي يثير اهتمام المتلقي ويجذبه: «الهند هندك لي قلّ ما عندك»، «هل تذكرون متجر روما؟»، «زمن الخط والنشيد»، «مفردات لا يعرفها الجيل الجديد»، «يوم كان أقصى أمانينا امتلاك ترانزستور»، «أم أحمد جات.. أم أحمد طارت»، «مدارس زمان.. الخيزران والكف لمن عصى»، «خيل إبليس أم حماره؟»، «الهواية، جمع ريش الدجاج ومراسلة الجنسين»، «جناب السيد الفاضل الأكرم المكرم»، «فيوز القلب محروقة، في جسمي ضربني ماس»، «عنتر كان أقوى الليلة وعبلة كانت أجمل»، «منام 24 ساعة بروبية ونصف»، «حسنوا نسل أبقاركم مقابل 8 آنات»، «حسبوه مدفع الإمساك فإذا به غارة جوية»، «لا أحد يفتح تلفزيون أرامكو في البحرين!!»، «أتن البحرين أميرات الأتن»، «لك قسم في قسم في قسمين»، «ساعة ويست إند أم صليب»، وغيرها.



النوبلية هان كانغ تطرح أسئلة لا نريد التفكير فيها

 هان كانغ
هان كانغ
TT

النوبلية هان كانغ تطرح أسئلة لا نريد التفكير فيها

 هان كانغ
هان كانغ

في أغسطس (آب) الماضي، نشرت آن رايس دعوة للتمرد على تطبيق التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، تحذّر فيها من أن الصوابية السياسية (مصطلح يُستخدَم لوصف اللغة أو السياسات أو الإجراءات التي تهدف إلى تجنب الإساءة أو الحرمان لأفراد مجموعات معينة في المجتمع) ستجلب نهاية العالم الأدبي: حظر الكتب، والقضاء على المؤلفين، فضلاً عن أنها ستدخلنا في عصر جديد من الرقابة، وأعلنت رايس: «يتعين علينا أن ندافع عن الخيال باعتباره مساحة يمكن فيها استكشاف السلوكيات والأفكار المخالفة للقواعد»، وأضافت: «أعتقد أنه يتعين علينا أن نكون على استعداد للدفاع عن كل الذين يتعرضون للازدراء».

غلاف الترجمة الإنجليزية للرواية

وباعتباري من محبي الأدب «المخالف للقواعد»، فإنني لم أستطع تحديد سبب شعوري بأن منشورها كان أكثر إزعاجاً من صرخات المعركة المعتادة التي يُطلقها المصابون بالجنون من الصوابية السياسية، لكنني وجدت أخيراً الإجابة بعد قراءة رواية الكاتبة هان كانغ - نوبل للآداب، 2024-: «النباتية»، وهي: ماذا لو كان هؤلاء الذين يتم ازدراؤهم قادرين على الدفاع عن أنفسهم؟

إن كل التحذيرات الموجودة على الأرض لا يمكنها أن تُعِدّ القارئ للصدمات التي سيتعرض لها عند قراءة هذه الرواية التي تُعَدّ أول عمل مُترجَم لهذه الكاتبة الكورية في العالم الناطق باللغة الإنجليزية.

ففي البداية، قد تنظر إلى العنوان وتقرأ الجملة الأولى في الرواية التي تقول فيها الكاتبة: «قبل أن تتحول زوجتي نباتية، كنت أعتقد أنها شخص عادي تماماً في كل شيء»؛ إذ يبدو أن الزوج يعتقد أن الخطر الأكبر يتمثل في التحول إلى النظام الغذائي النباتي، لكن لا توجد نهاية للأهوال التي تتردد داخل هذه الرواية التي تؤكد على فكرة الموت بشكل رائع.

عندما استيقظت يونغ - هي (بطلة الرواية) ذات صباح من أحلام مضطربة، وجدت نفسها قد تحولت نباتية مروعة؛ إذ إن رواية هان القصيرة، المكونة من ثلاثة أجزاء، تتنقل بين الإثارة المنزلية والتحول والتأمل في حب النباتات، كما أنها تُروى من وجهات نظر زوجها، الذي يعمل في مكتب (وهو ما يظهر في الجزء الأول)، وصهرها المهووس، وهو فنان (يظهر في الجزء الثاني)، وشقيقتها الكبرى المثقلة بالأعباء، والتي تدير متجراً لمستحضرات التجميل (تظهر في الجزء الثالث).

وتتحدد هوية هذه الشخصيات الثلاث إلى حد كبير من خلال ما يفعلونه لكسب العيش، وفي حين توقفت يونغ - هي عن القيام بأي شيء تقريباً، فإنها تقول في إحدى لحظاتها النادرة من الحوار المباشر: «كان لدي حلم»، وهو تفسيرها الوحيد لتحولها إلى نظام أكل الخضراوات الذي اكتشفته حديثاً.

في البداية، قوبلت يونغ - هي بازدراء عابر من قِبل العائلة والأصدقاء؛ إذ صرَح أحد أصدقائها على العشاء بشكل عدواني قائلاً: «أكره أن أشارك وجبة مع شخص يعتبر أكل اللحوم أمراً مثيراً للاشمئزاز، لمجرد أن هذا هو شعوره الشخصي... ألا توافقني الرأي؟».

وسرعان ما يخلق شكل يونغ - هي الجسدي الآثار السلبية للغاية التي يخشاها المقربون منها: فقدان الوزن، والأرق، وانخفاض الرغبة الجنسية، والتخلي في نهاية المطاف عن تفاصيل الحياة «المتحضرة» اليومية.

إن هذه الرواية مليئة بكل أنواع التغذية القسرية والاعتداءات الجنسية واضطرابات الأكل، لكن هذه الأمور لا يتم ذكرها بالاسم في عالم هان، غير أن الأمر يظهر في الأحداث، فالتجمع العائلي الذي تتعرَّض فيه يونغ - هي للهجوم من قِبل والدها بسبب أكل اللحوم يتحول دوامة من الأذى الذاتي، ولم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي ينتهك فيها رجل (أو هي نفسها) جسدها، لكن انتهاك العقل هو قضية مختلفة.

وتحتاج رواية «النباتية» إلى كل هذا العنف؛ لأنه يرتبط في عالم الكاتبة بالاحتياجات الجسدية: أكل اللحوم، وممارسة الجنس، أو حتى رعاية الآخرين، لكن التدخل الخارجي، من جانب العائلة والأصدقاء والأطباء، يعمل على تعديل واقع هذه الرواية، إلا أن جهودهم في النهاية تبدو ضعيفة مثل إنقاذ آن رايس لـ«المُحتقَرين».

إذن، مَن هو الضحية هنا؟

في هذه الرواية، نشاهد مقاطع قصيرة مكتوبة بخط مائل تصف أفكار يونغ - هي، والتي تتضمن مونولوجات داخلية تشبه المذكرات اليومية؛ إذ يبدأ أحد المقاطع بالقول: «لا أستطيع أن أثق إلا في صدري الآن، أنا أحب صدري، فلا يمكن قتل أي شيء بواسطته، لكن اليد والقدم واللسان والنظرة، كلها أسلحة غير آمنة»، ثم تدخل في إدراك مفاجئ بأن شكلها القديم بات يتلاشى، وتتساءل: «لماذا أتغير هكذا؟ لماذا باتت أظافري حادة بهذا الشكل؟ ما الذي سأخدشه؟».

وفي بعض الأوقات، تحتاج لغة الدمار إلى تفاصيل حسية فقط مثل طائر يحتضر مختبئاً بداخل قبضة مشدودة، أو كيس نصف ممتلئ بالدم، أو زهور مرسومة على جسد عارٍ، أو رائحة لحم مشوي لا تُحتمَل.

وكانت رواية «النباتية»، التي نُشرت في كوريا الجنوبية عام 2007، وهي مستوحاة من قصة قصيرة للمؤلفة بعنوان «ثمرة امرأتي»، هي أول أعمال هان التي ستتحول فيلماً روائياً طويلاً (وقد صدر فيلم ثانٍ، مقتبس من قصة قصيرة أخرى، في عام 2011).

وتم الاحتفاء بالرواية باعتبارها «ذات رؤيا»، كما أنها نُشرَت في جميع أنحاء العالم، وكان حماس مترجمتها، ديبوراه سميث، هو الذي ساعد على تقديم «النباتية» إلى دور النشر في بريطانيا والولايات المتحدة. وقد تعلمت سميث اللغة الكورية منذ نحو ست سنوات فقط، وأتقنتها من خلال عملية ترجمة هذا الكتاب.

وتكمن الخطورة هنا في التركيز فقط على الجوانب الإثنوغرافية والاجتماعية، ففي بريطانيا، ظهرت رواية «النباتية» في قائمة أفضل الكتب مبيعاً في مؤسسة «ذا إيفيننج ستاندارد»، وقد حاول النقاد فهم مدى غرابة الرواية من خلال نسب ما فيها إلى الثقافة في كوريا الجنوبية.

وحاول النقاد البريطانيون التأكيد على أن اتباع النظام النباتي يعد أمراً مستحيلاً في كوريا الجنوبية، كما أنه من منظور النسوية الغربية المعاصرة يجب إدانة الرواية باعتبارها تجربة في «إذلال المرأة» أو «تعذيبها»، فهناك عالم كامل من الأدب خارج الدول الغربية لا يتناسب مع أسواقنا أو اتجاهاتنا.

ونجد أن تناول هان الرائع للاختيارات الشخصية والخضوع يتجلى في هذه الرواية، كما أن هناك شيئاً مميزاً آخر يتعلق بالأشكال الأدبية القصيرة، فهذه الرواية أقل من 200 صفحة.

وترتبط رواية «النباتية» بأعمال أدبية صغيرة متنوعة أخرى، مثل رواية «أقارب الدم» لسيردوين دوفي الصادرة عام 2007، ورواية «Bartleby, the Scrivener» لميلفي، فضلاً عن رواية الرعب الرائعة «البومة العمياء» للمؤلف الإيراني صادق هدايت الصادرة عام 1937 (كان هدايت نفسه نباتياً، وهناك مشاهد تظهر بانتظام في الرواية تتضمن المناظر التي يراها في كوابيسه، حيث يتم التعامل مع قتل الحيوانات باعتباره سبباً للجنون)، لكن في النهاية، كيف يمكن ألا نتذكر كافكا في وسط كل ذلك؟ فربما يكون كافكا النباتي الأكثر شهرة في تاريخ الأدب، ويبدو أنه تحدث ذات مرة إلى سمكة في حوض سمك قائلاً: «الآن أخيراً يمكنني أن أنظر إليك في سلام، لن آكلك بعد الآن».

ولكن قصة هان كانغ ليست قصة تحذيرية لآكلي اللحوم، وذلك بالنظر إلى أن رحلة يونغ - هي النباتية كانت بعيدة كل البُعد عن التوصل للسعادة؛ فالامتناع عن أكل الكائنات الحية لا يقود إلى التنوير، ومع انصراف يونغ - هي أكثر فأكثر عن الحياة، فإن مؤلفة الرواية تجعلنا نكافح للعثور على إجابة للسؤال عما إذا كان يتعين علينا أن نشجع بطلنا على البقاء أو الموت.

ومع هذا السؤال يأتي سؤال آخر، وهو السؤال النهائي الذي لا نريد أبداً التفكير فيه؛ إذ تسأل يونغ - هي في نهاية أحد أجزاء الرواية قائلة: «لماذا يعد الموت أمراً سيئاً إلى هذا الحد؟».

* خدمة «نيويورك تايمز». وبوروشيستا خاكبور هي مؤلفة أميركية - إيرانية ولها روايتان: «الأبناء والأشياء الأخرى القابلة للاشتعال» و«الوهم الأخير»