«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات

وسط تخوّف قوى شيعية من تزايد نفوذ تركيا

«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات
TT

«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات

«الانسداد السياسي» في العراق يطيح بالمُدد الدستورية ويهدّد تماسك التحالفات

مصطلح «الانسداد السياسي» هو آخر المصطلحات التي يجري تداولها في الأوساط السياسية العراقية منذ ظهور نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) 2021. لقد صدمت نتيجة الانتخابات القوى السياسية العراقية الفائز منها والخاسر. ومعظم الفائزين فوجئوا بفوزهم غير المتوقع، كما أن معظم الخاسرين فوجئوا بخسارة لم يكونوا يتوقعونها.
أسباب وعوامل كثيرة تقف خلف ذلك. وفي حين لم يبحث الفائزون عن الكيفية التي حققوا فيها مقاعدهم على رغم أن الأصوات التي حصلوا عليها أقل من أصوات بعض الجهات الخاسرة التي حصلت على أصوات أكثر، لكنها حصدت مقاعد أقل، ظهرت نظرية المؤامرة التي قيل إن قوى إقليمية ودولية شاركت فيها من أجل فوز طرف مقابل خسارة طرف.
كذلك، لم ينفع التحليل الذي كان أقرب إلى المنطق والذي يقول إن قانون الانتخابات الجديد الذي سنّه البرلمان العراقي الماضي ويعتمد الدوائر المتعددة والفوز بأعلى الأصوات هو السبب في التباين بالنتائج. وهكذا، فإن الذين تعاملوا مع القانون بذكاء عن طريق المرشحين حصلوا على مقاعد أعلى بكمية أصوات أقل والعكس بالعكس. لكن هذا الواقع لم يقنع المعترضين الذين افترشوا الشارع لأكثر من شهرين مع تقديمهم الطعون أمام المحكمة الاتحادية.


الرئيس السابق مسعود بارزاني يدلي بصوته عام 2018 ... ومقتدى الصدر بعد إدلائه بصوته في انتخابات أكتوبر 2021 (رويترز)

الاعتراضات على نتائج الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة، والاعتصامات التي تلتها، زحفت على المدد الدستورية والقانونية الخاصة بتشكيل الحكومة، بدءاً من انتخاب رئاسة البرلمان، ثم رئيس جديد للجمهورية، فتشكيل الحكومة عبر مرشح من الكتلة الأكبر.
لقد زحفت المدد والتواريخ بعضها على بعض. وبعدما كان مقرراً حسم كل شيء في أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول) 2021، فإن الأمر الوحيد الذي أمكن حسمه حتى الآن هو انتخاب رئيس البرلمان خلال الجلسة التي عقدت خلال شهر فبراير (شباط) الماضي، وبذا بقيت العقدتان الكبريان وهما منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. وهنا نذكر، أن أبرز الأسباب التي دعت إلى إجراء انتخابات مبكرة وإقالة حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي الحراك الجماهيري الذي انطلق خلال أكتوبر عام 2019، وأدى إلى مقتل أكثر من 600 متظاهر وناشط مدني وجرح أكثر من 24 ألفاً. غير أن الحصيلة حتى الآن هي اقتراب الجميع من المدة الدستورية لنهاية الدورة البرلمانية، وهي الشهر المقبل، وبالتالي، انتفت فكرة الانتخابات المبكرة.
ليس هذا فقط، بل في ظل «الانسداد السياسي»، وهو البديل للمصطلح القديم «عنق الزجاجة» الذي كان يمثل حالة الاختناقات السابقة، تذهب المؤشرات إلى القول، إنه حتى ربما خلال الشهرين المقبلين لن يمكن حل «عقدة» رئاسة، الجمهورية ومن ثم تكليف رئيس للوزراء. ومع أن هذا «الانسداد» هو المهيمن على كل شيء، بما في ذلك التحالفات التي نُسجت بعد ظهور نتائج الانتخابات، باتت هذه التحالفات (وبالذات، التحالف الثلاثي وتحالف الإطار التنسيقي) مهددة، بعدما أن كلاً منها لن يستطيع المضي في تحقيق مبتغاه... أهو حكومة أغلبية وطنية... أم حكومة توافقية تتسع للجميع؟

عقدة رئاسة الجمهورية
في سياق ما عُرف بـ«وصفة ما بعد عام 2003»، التي قامت ولا تزال على المحاصصة الطائفية والعرقية، فإن منصب رئيس الجمهورية بات لمكوّن الكردي، بينما حصة المكون الشيعي منصب رئيس الوزراء - وهو السلطة التنفيذية العليا في البلد - في حين يحصل المكوّن السنّي على منصب رئاسة البرلمان.
وخلال الدورات الثلاث الأولى التي بدأت منذ عام 2005 إلى 2014، ناهيك عن الفترة الانتقالية 2003 ـ 2004، كان منصب رئيس الجمهورية يجري تداوله كردياً بين الحزبين الرئيسين في إقليم كردستان، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال طالباني (توفي عام 2013). وحينما يأخذ «الاتحاد الوطني» منصب رئيس الجمهورية فإن «الحزب» يأخذ المناصب الرئيسية في الإقليم، وهي رئاسة الإقليم ورئاسة حكومة الإقليم. وبالفعل، استمر هذا «العُرف» الكردي - الكردي، ولم يشكل عائقاً إطلاقاً أمام باقي الاستحقاقات الدستورية حتى عام 2018. ولكن قبلها، عام 2014، بعد وفاة طالباني حصل نوع من التنافس داخل «الاتحاد» نفسه بشأن المنصب بين د برهم صالح (الرئيس الحالي للجمهورية) ودّ فؤاد معصوم الرئيس السابق. ومن ثم، أجريت انتخابات داخل كتلة التحالف الكردستاني - التي كانت تضم الحزبين الكبيرين - ففاز معصوم، وهو دكتوراه فلسفة من جامعة عين شمس بالقاهرة وتولى المنصب لمدة أربع سنوات (2014 ـ 2018).
بعدها، خلال الدورة البرلمانية الرابعة 2018، ظهرت أولى بوادر الخلاف حول منصب رئيس الجمهورية بين الحزبين الكرديين الكبيرين، «الحزب» و«الاتحاد»، الأمر الذي أضطرهما إلى الدخول بمرشحين اثنين هما برهم صالح (الرئيس الحالي) وفؤاد حسين وزير الخارجية الحالي. أما سبب الخلاف، فكان رفض «الحزب» ترشح صالح للمنصب. وبالنتيجة، رغم التعهدات التي أعطاها العديد من قادة الشيعة لزعيم «الحزب»، تمكن صالح من الفوز بالمنصب حائزاً غالبية كبيرة داخل البرلمان. وعلى الأثر، ذهب صالح إلى قصر السلام رئيساً للجمهورية بينما كوفئ فؤاد حسين بمنصب وزير الخارجية.
ولكن، مع الانتخابات الأخيرة تكرّس الخلاف الكردي ـ الكردي واشتد الصراع داخل «البيت الكردي». إذ كان فوز زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر وكتلته (الكتلة الصدرية) بأعلى الأصوات في البرلمان (74 نائباً) بمثابة مفاجأة لخصومه الشيعة من القوى الأخرى. وفي حين بدا أن الصدر بات يصرّ على تشكيل حكومة غالبية وطنية «لا شرقية ولا غربية»، تفاقم الخلاف بينه وبين قوى «الإطار التنسيقي» الشيعي الذي يضم تحالف «الفتح» بزعامة هادي العامري و«دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، و«العصائب» بزعامة قيس الخزعلي و«قوى الدولة» بزعامة عمار الحكيم وتحالف «النصر» بزعامة د حيدر العبادي. ومن ثم، انعكس هذا الوضع على «البيوت» الأخرى... سلبياً بالنسبة للكرد وإيجابياً بالنسبة للعرب السنة.

غالبية الثلثين المستحيلة
إصرار مقتدى الصدر على التحالف الثلاثي الذي جمعه مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني و«تحالف السيادة» بزعامة محمد الحلبوسي رئيس البرلمان وخميس الخنجر رجل الأعمال عقّد مشكلة اختيار رئيس الجمهورية المختلف عليه كردياً. وكان السبب الأبرز لذلك تعذّر تأمين غالبية الثلثين المطلوبة لتمرير انتخاب رئيس الجمهورية طبقاً لتفسير المحكمة الاتحادية العليا.
وهنا حاول مسعود بارزاني حلحلة الأزمة داخل «البيت الشيعي» من أجل تخطي عقبة الثلثين، لكنه لم ينجح. وطبقاً لما سمعته «الشرق الأوسط» من سياسي عراقي، فإن «مبادرة بارزاني التي حملها إلى زعيم التيار الصدري كل من نيجرفان بارزاني ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي كانت محاولة لكسر الجليد مرتين، مرة بين الصدر والمالكي، ومرة من أجل تفكيك الإطار التنسيقي». وتابع السياسي، أن «المبادرة كانت تتضمّن القبول بالمالكي ومنحه منصب نائب رئيس الجمهورية لكن تصلب الصدر الحاد حيال المالكي أدى إلى موت المبادرة».
مقابل ذلك، فإن تحالف الخصوم («الإطار التنسيقي» و«الاتحاد الوطني»)، ومرشحهم الرئيس الحالي برهم صالح، فإنهم وإن كانوا ليسوا متماسكين لأنهم ليسوا تحالفاً رسمياً، سيواجهون المشكلة نفسها... أي نعذّر ضمان غالبية الثلثين. وعليه، قياساً إلى ما يبدو نزاعاً شيعياً ـ شيعياً وتصلباً كردياً - كردياً، وفي ظل استحالة التوافق بين الطرفين، يظهر إن الأزمة قابلة للاستمرار، ولا سيما، مع ولادة أزمات أخرى منها الحرب في أوكرانيا وانعكاساتها المختلفة على العراق في ظل «حكومة تصريف أعمال» ليست كاملة الصلاحيات. وهنا، للتوضيح، فإن النزاع ليس بين كل الشيعة وكل الكرد بل بين قسم من الشيعة وقسم من الكرد، والتصلب ليس بين كل الكرد وكل الشيعة بل بين قسم من الكرد رافضين لبعضهم مع قسم من الشيعة لا يقبلون بهم.

البيت السنّي يتوحّد
من جانب آخر، خلال بضعة أشهر حرص الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على لقاء أبرز زعيمين سنيين عراقيين (محمد الحلبوسي وخميس الخنجر) مرتين. وكانت المرتان بعد إجراء الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العاشر من أكتوبر 2021.
الحلبوسي والخنجر لم يعاصرا أيام الزعامات السنية الكبيرة التي غادرت مشهد ما بعد 2003، أو توارت عنه لسبب أو لآخر. لم يكن أحد من تلك القيادات من «الآباء المؤسسين» لنظام ما بعد سقوط صدام حسين، بل كان «آباء النظام المؤسسون» من الشيعة والكرد فقط. وحتى عندما تشكّل «مجلس الحكم» عانى هؤلاء الآباء المؤسسين في البحث عن قيادات سنّية يمكن أن تكمل مشهد الحكم الجديد الذي أطلق عليه «مجلس الحكم» برعاية أميركية، وبزعامة مطلقة من الحاكم المدني الأميركي بول بريمر. ويومذاك، اقتضى بناء النظام الجديد أن يتأسس على قاعدة المكوّنات العرقية والمذهبية (الشيعة والسنة والكرد). ولكن خلال بضع سنوات بدأ التحالف الشيعي - الكردي يتصدع على وقع الخلافات حول تطبيق مواد الدستور، وبالذات، المواد 140 الخاصة بكركوك والمناطق المتنازع عليها و111 الخاصة بالنفط والغاز، فضلاً عن أسلوب تقاسم السلطة وغيرها من الخلافات.
في هذه الأثناء، بدأت أدوار القيادات السنّية، التي برزت في مرحلة ما بعد فترة التأسيس - مثل طارق الهاشمي ورافع العيساوي، فضلاً عن إياد السامرائي زعيم الحزب الإسلامي وأسامة النجيفي رئيس البرلمان الأسبق وصالح المُطلك - تتراجع بصيغ مختلفة. حتى أن خالد الهاشمي لوحق قضائياً ولا يزال خارج العراق محكوماً بالإعدام غيابياً، أما رافع العيساوي فيتابع الآن القضايا العالقة بشأنه... متنقلاً بين مراكز التحقيق والقضاء لإثبات براءته. وعام 2013، انطلقت مظاهرات ضخمة في المحافظات الغربية (السنّية) من العراق طالت نحو سنة قبل قمعها من قبل السلطات آنذاك. ومع أن المتظاهرين قدّموا مطالب بدت مشروعة، اتهمتها السلطات في حينه أن من يقف خلفها هو تنظيم «داعش».
لم يكن قد برز في ذلك الوقت اسم محمد الحلبوسي، ولكن برز اسم خميس الخنجر رجل الأعمال وأحد الشيوخ العشائريين في محافظة الأنبار. وعام 2014 أصبح الحلبوسي نائباً في البرلمان العراقي ورئيساً للجنة المالية البرلمانية. ثم خرج من البرلمان ليغدو محافظاً للأنبار. ثم عام 2018 عاد عضواً في البرلمان وأصبح رئيساً له وهو بعمر الـ37. يومها لم يكن فقط أصغر رئيس برلمان بتاريخ العراق، بل صار أيضاً أحد أبرز اللاعبين في المعادلة السياسية في البلاد.
في هذه الأثناء كان الخنجر مغضوباً عليه شيعياً، قبل أن يتغير المشهد بعد فترة غير طويلة ليظهر في صورة بدت تاريخية في وقتها مع نوري المالكي وهادي العامري وعدد من أبرز قيادات الشيعة. وبدت تلك بمثابة غسيل تاريخ قديم واستئناف تاريخ آخر.
للعلم، لم تكن العلاقة طيبة بين الحلبوسي والخنجر، نتيجة لصراع النفوذ في المحافظات الغربية. لكن بعد انتخابات 2021 تغير المشهد تماماً مع تغيّر النتائج ومعها أدوار اللاعبين الإقليميين والدوليين. كذلك، صار مقتدى الصدر رقماً صعباً، قسم بروزه «البيت الشيعي» إلى قسمين، هما «التيار الصدري» و«الإطار التنسيقي»، فشلت إيران في توحيدهما رغم كل محاولاتها، الأمر الذي بدأ يثير المزيد من الشكوك حول جدية تراجع الدور الإيراني.
عودة إلى الكرد الذين كانت مواقفهم موحدة حيال المركز أو بغداد، فإن المنصب السيادي الأكبر لهم (رئاسة الجمهورية) فكك قوتهم بسبب تناحرهم عليه ما حرمهم من دورهم القديم كـ«بيضة القبان». وفي حين لم يعد بينهم وبين الشيعة «تحالف تاريخي»، بل حل محله الآن نوع من التناحر بسبب خرق الحزب الديمقراطي الكردستاني قاعدة ثبات «البيوت» المكوناتية التي بناها الآباء المؤسسون (الشيعة والكرد)، أدى الوضع الجديد إلى إضعاف «البيت الشيعي» وتفاقم «الخلاف الكردي - الكردي».
وبالتالي، كان لافتاً المشهد في أنقرة الذي جمع الحلبوسي والخنجر - اللذين ظهرا في صورة واحدة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ومدير استخباراته فيدان حقان - بل كان «مريباً: بالنسبة للقوى الشيعية. وهنا يرى الخبراء السياسيون أن تركيا استثمرت تراجع الأولويات الأميركية - الإيرانية حيال الملف العراقي، فتمكنّت من ملء الفراغ عبر توحيد البيت السنّي. وفي المقابل، عبّرت التصريحات التي أطلقتها العديد من القيادات الشيعية بعد «الصورة الرباعية» في أنقرة عن التخوف من تحوّل الشيعة إلى أقلية في الحكومة المقبلة. وهذا يعني من وجهة نظر هذه القيادات أن الشيعة لن يتمكنوا من فرض رغباتهم داخل البرلمان، وأن تركيا ستتمدد نفوذا وقوة بتحالف سنّي كبير وقد يلتحق به قسم من الكرد في مرحلة لاحقة.



روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
TT

روسيا وأوكرانيا في صميم هموم البرلمان الأوروبي الأكثر يمينية

من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)
من لقاء أوربان - بوتين في موسكو (رويترز)

مطلع الشهر الماضي ذهب الأوروبيون إلى صناديق الاقتراع لتجديد عضوية البرلمان الأوروبي، فيما أجمعت الآراء على وصفها بأنها أهمّ انتخابات في تاريخ الاتحاد، الذي منذ أكثر من سنتين تشتعل حرب على تخومه وتهدد باتساع دائرتها وإيقاظ أشباح الماضي الذي قام المشروع الأوروبي بهدف وأده، وهذا بينما تتنامى داخل حدوده القوى التي منذ ثمانية عقود أفرزت أقسى الحروب التي شهدتها القارة في الأزمنة الحديثة. ولقد جاءت النتائج لتؤكد الصعود المطّرد للموجة اليمينية المتطرفة التي كانت قد أمسكت بزمام الحكم منذ سنتين في إحدى الدول الأعضاء الكبرى المؤسسة، إيطاليا، وأصبحت قاب قوسين من الوصول إلى سدّة الرئاسة الفرنسية... فيما بدت جذورها راسخة في العديد من البلدان الأعضاء الأخرى. ولكن، على الرغم من الصاعقة التي ضربت الصرح السياسي الفرنسي، ظل صعود هذه الموجة دون منسوب الطوفان الذي كانت تنذر به الاستطلاعات ويهدد - وفقاً لأفضل الاحتمالات - بجنوح المركب الأوروبي عن مساره التأسيسي. أمام هذا المشهد المعقد، كان القرار الأول الذي اتخذه البرلمان الجديد في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الفائت بعد انتخاب رئيسة له، تأكيد الدعم لأوكرانيا وترسيخ الانقسام الحاد بين الكتل السياسية الذي لم يشهد له مثيلاً منذ تأسيسه في عام 1979.

صور بارديلا مرفوعة خلال حملة الانتخابات الفرنسية (إيبا/شاترستوك)

يتّسم البرلمان الأوروبي الجديد الذي افتتح ولايته الاشتراعية العاشرة هذا الأسبوع في العاصمة البلجيكية بروكسل بكونه الأكثر تشرذماً، على صعيد الكتل التي تشكلت داخله بعد انتخابات التاسع من الشهر الماضي، والأكثر جنوحاً نحو اليمين. إذ أصبح أكثر من نصف أعضائه ينضوون تحت الرايات اليمينية المحافظة واليمينية المتطرفة. بيد أن عجز القوى المتطرفة عن الانصهار ضمن كتلة واحدة، أدّى إلى تشكيل 8 كتل سياسية، للمرة الأولى منذ عشرين سنة، تتصدرها كتلة الحزب الشعبي الأوروبي الذي يضمّ 26 في المائة من الأعضاء. وحقاً، ينذر هذا التشرذم بولاية يتخلّلها المزيد من النقاش الحاد، يصعب فيها التوازن عند الاستحقاقات الحسّاسة ويتعذّر الاتفاق، ذلك أن القوى المعتدلة التي كانت تشكل مجتمعة 70 في المائة من أعضاء البرلمان الأول عام 1979، ما عادت تمثّل اليوم أكثر من 45 في المائة فقط.

أهمية الاستقرار السياسي

تعدّ هذه الولاية على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للاستقرار السياسي داخل الاتحاد، خاصةً بعد صعود اليمين المتطرف والزلزال الذي نجم عن الانتخابات الأخيرة في فرنسا، حيث لا يزال المخاض مستمراً لتشكيل حكومة جديدة. وفي حين تجهد القوى المعتدلة للتأكيد بأنها تمكّنت من صدّ الموجة اليمينية المتطرفة - مع خشية كثيرين من أن تكون هذه آخر فرصة لقطع الطريق أمام الانقلاب السياسي الكبير - تكثّف هذه القوى مساعيها لفرض حظر على التعامل مع بعض القوى اليمينية المتطرفة التي تصنّفها قريبة من روسيا، وتعمل على منعها من تولّي مناصب حساسة في المؤسسات الأوروبية.

كتلة الحزب الشعبي الأوروبي تضم اليوم في البرلمان الجديد 188 عضواً، تليها كتلة الحزب الاشتراكي التي تتكوّن من 136 عضواً لا يتجاوزون نسبة 20 في المائة من المجموع للمرة الأولى منذ انطلاق البرلمان. وتأتي في المرتبة الثالثة كتلة «وطنيون من أجل أوروبا» اليمينية المتطرفة بـ84 عضواً، التي يقودها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وزعيمة «التجمّع الوطني» الفرنسي مارين لوبان، ثم تأتي في المرتبة الرابعة الكتلة اليمينية الأخرى التي تتزعمها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وتضمّ 87 عضواً تحت شعار «المحافظون والديمقراطيون من أجل أوروبا»... التي فشلت حتى الآن كل محاولات ضمّها إلى كتلة الحزب الشعبي الأوروبي. أما الكتلة الأخيرة التي تتجاوز بقليل 10 في المائة من مجموع أعضاء البرلمان، فهي الكتلة الليبرالية الوسطية، التي كانت أكبر الخاسرين في الانتخابات الأخيرة بعدما فقدت المرتبة الثالثة التي كانت تحتلها عادةً بين الكتل السياسية في البرلمان الأوروبي.

"تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان"

البرلمان الأكثر جنوحاً نحو اليمين

بذلك يكون هذا البرلمان الجديد الأكثر جنوحاً نحو اليمين في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ويبقى الذكور يشكلون فيه أكثرية الأعضاء (60 في المائة)، مع أن بعض البلدان، مثل قبرص، لم تنتخب أي رجل للبرلمان الجديد، بينما تشكّل النساء ثلث الأعضاء المنتخبين في كلٍ من ألمانيا وإيطاليا.

من ناحية أخرى، كان التطور اللافت والمفاجئ في المعسكر اليميني المتطرف نجاح رئيس الوزراء المجري أوربان في لمّ شمل القوى اليمينية المتطرفة القريبة من موسكو ضمن كتلة برلمانية جديدة «وطنيون من أجل أوروبا». ولقد قامت هذه الكتلة على أنقاض كتلة «الهوية والديمقراطية»، وتضمّ كلاً من الحزب الليبرالي النمساوي و«التحالف المدني» الذي يقوده رئيس الوزراء التشيكي السابق أندريه بابيس، إلى جانب حزب «فوكس» الإسباني، وحزب «الرابطة» الإيطالي بزعامة ماتّيو سالفيني، واليمين الهولندي المتطرف، وحزب «التجمع الوطني» الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

ويعود الفضل في تشكيل هذه الكتلة الجديدة، التي تعمّدت تهميش رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، إلى أوربان وحلفائه في أوروبا الشرقية. ويهدف هذا التجمع الجديد إلى التأثير في سياسات البرلمان الأوروبي وعرقلة مشروع الاندماج الذي يتجه نحو توسعة جديدة للاتحاد تشمل دول البلقان وبعض بلدان القوقاز، إلى جانب أوكرانيا.

رئيس الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني (رويترز)

دور فيكتور أوربان

وتأتي هذه الخطوة أيضاً، وسط تزايد القلق بين الشركاء الأوروبيين من الدور الذي يلعبه فيكتور أوربان في الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد، وجولاته على كييف وموسكو وبكين في «مهمة سلام» لم تكلفه بها الدول الأعضاء التي وجهت إليه انتقادات شديدة واتهمته بخدمة مصالح الكرملين، وبدأت أخيراً بمقاطعة الاجتماعات الوزارية التي تنظمها الرئاسة المجرية.

هذا، وكان «التجمّع الوطني» الفرنسي الذي تقوده لوبان، والذي يشكّل القوة الرئيسية في هذه الكتلة الجديدة بعد حصوله على 30 مقعداً في انتخابات الشهر الماضي، قد تريّث في الإعلان عن انضمامه إلى الكتلة في انتظار نتائج الدورة الثانية من الانتخابات الاشتراعية الفرنسية التي كان يأمل أن يحصل فيها على الغالبية المطلقة ويكلّف نجمه الصاعد الشاب جوردان بارديلا تشكيل الحكومة الجديدة. إلا أنه بعد ظهور النتائج النهائية للانتخابات الفرنسية وتراجع «التجمع الوطني» إلى المرتبة الثالثة، صرّح بارديلا - الذي كان قد انتُخب عضواً في البرلمان الأوروبي – بـ«أن أعضاء (التجمع الوطني) في البرلمان الأوروبي الجديد سيلعبون دورهم كاملاً ضمن كتلة كبيرة سيكون لها تأثير واضح على موازين السلطة ومعادلاتها في أوروبا». وتعهّد بارديلا، بالتالي، مواصلة العمل من أجل «منع إغراق بلدان الاتحاد بالمهاجرين، ورفض السياسات البيئية المتطرفة، ومصادرة السيادة الوطنية».

وما يُذكر أنه على الرغم من تغيّب بارديلا عن الاجتماع التأسيسي للكتلة الجديدة، فإنه انتُخب رئيساً لها بالإجماع، يعاونه ستة نواب للرئيس، تبرز من بينهم المجرية كينغا غال كنائبة أولى.

تشكيك بإمكانية توحيد اليمين

في أي حال، تشكّك أوساط برلمانية أوروبية في قدرة هذه الكتلة اليمينية المتطرفة الجديدة على التأثير داخل البرلمان الجديد، وتستبعد نجاحها في العمل بتوجيهات موحدة في ضوء اختلاف مصالحها وأهدافها الخاصة. وكانت الكتلة السابقة «الهوية والديمقراطية»، التي قامت على أنقاضها الكتلة الجديدة، وكان ينتمي إليها حزب «البديل من أجل ألمانيا» - الذي طُرد منها بسبب التصريحات النازية لزعيمه - دائماً معزولة من القوى البرلمانية الأخرى، بما فيها الكتلة التي تتزعمها ميلوني. وهنا نشير إلى أنه رغم الانسجام العريض بين مواقف ميلوني ومواقف أوربان من معظم الملفات الأوروبية، فإن الزعيمين يختلفان بوضوح حول الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ إذ تصطف ميلوني ضمن الموقف الرسمي للاتحاد، بعكس حليفها اللدود في الائتلاف الحكومي الذي ينافسها على زعامة المعسكر اليميني المتطرف في إيطاليا، زعيم حزب «الرابطة» ماتيو سالفيني.

جدير بالذكر، أن البرلمان الأوروبي الجديد انتخب في جلسته الافتتاحية يوم الثلاثاء الماضي المالطية روبرتا متسولا، من الحزب الشعبي، رئيسة لنصف الولاية الاشتراعية حتى مطلع عام 2027. ونالت متسولا، التي كانت ترأس البرلمان السابق منذ وفاة الإيطالي دافيد ساسولي، 562 صوتاً من أصل 720، وهذا رقم قياسي لم يحصل عليه أي من الرؤساء السابقين؛ الأمر الذي يدلّ على أنها حصلت أيضاً على تأييد عدد من نواب اليمين المتطرف بجانب تأييد الكتلتين الكبريين اللتين تتوافقان عادة على توزيع المناصب القيادية في مؤسسات الاتحاد.

ولقد قالت متسولا في كلمتها قبل البدء بالاقتراع السري: «أدعوكم إلى التمسك والالتزام بمبادئنا وقيمنا التأسيسية، والدفاع عن سيادة القانون، وعن الإنسانية في الشرق الأوسط ورفض اجتياح أوكرانيا». وشددت، كما فعلت عند انتخابها للمرة الأولى، على إعطاء البرلمان الأوروبي صلاحية اقتراح التشريعات المقصورة حالياً على المفوضية.