في أول تصريح أدلى به جوزيب بورّيل، عقب تعيينه الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، في معرض التعليق على تهديدات إدارة دونالد ترمب بالتدخل عسكرياً في الأزمة الفنزويلية، قال: «لا يجوز اللجوء إلى سياسة رعاة البقر، والتهديد بشهر السلاح لمعالجة هذه الأزمة المعقدة». يومذاك، كان بورّيل لا يزال يشغل منصب وزير خارجية الحكومة الاشتراكية الإسبانية. ولقد استدعى كلامه احتجاجاً شديداً من واشنطن وإسراعاً أوروبياً لاحتواء التوتّر الذي كان بدأ يخيّم على العلاقات مع الولايات المتحدة، ثم إنه، يومذاك، ذكّر خصوم بورّيل، الذين يأخذون عليه اندفاعه المفرط في التصريح ومقاربة القضايا الحسّاسة، بما كان ورد على لسانه في خطاب تسلّمه رئاسة البرلمان الأوروبي، حين قال إن «الأزمات الجيوسياسية التي تعصف اليوم بالعالم تفرض على الاتحاد الأوروبي تحديد موقعه بوضوح على الساحة الدولية التي تسيطر عليها سياسة القوة الصمّاء، حيث نرى بعض القادة لا يتورّعون عن اللجوء إلى استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، وحيث تتحوّل الأدوات الاقتصادية إلى أسلحة فتّاكة».
عندما تكلّم جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، يوم الأربعاء الماضي، أمام البرلمان الأوروبي في إحاطة حول الأزمة الأوكرانية، لم يتردد في القول: «ما إن بلغني فجر ذلك اليوم المشؤوم أن القوات الروسية بدأت تقصف كييف، أدركت أننا طوينا صفحة من التاريخ، وأصبحنا على عتبة مرحلة جديدة تقتضي منا، نحن الأوروبيين، أن نكون جاهزين لهذا التحدي الذي وضعتنا أمامه روسيا. في عالم تحكمه القوة، علينا أن نكون مستعدين لتطوير قدراتنا الدفاعية والوسائل العسكرية اللازمة». وأردف: «ما حصل في الأيام القليلة الماضية كان أكثر مما حصل في أوروبا خلال العقود الماضية. إنها قفزة نوعيّة في مسار المشروع الأوروبي، انتقلت به ليصبح كتلة متراصة تعي بوضوح الأخطار التي تتعرّض لها، وقادرة على اتخاذ موقف سريع وموحّد لدرئها، ومستعدة لتمويل عمليات عسكرية وقتالية خارج حدودها».
لكن من هو الرجل الذي لم تنظر واشنطن بعين الرضا إلى تعيينه، والذي احتجت عليه إسرائيل رسمياً، والذي يقول معاونون إنه جاء ليهزّ شجرة السياسة الخارجية الأوروبية التي «تتراوح بين العقم والخمول»، على حد قوله، والذي لم يعد سرّاً أن الدوائر العليا في الاتحاد تجهد لاحتواء اندفاعه والحد من صلاحياته؟
النشأة والمسيرة
وُلد جوزيب بورّيل عام 1947 في بلدة بويبلا دي سيغور، من أعمال إقليم كاتالونيا (شمال شرقي إسبانيا)، في كنف عائلة ناضلت سياسياً ونقابياً ضد ديكتاتورية الجنرال فرنشيسكو فرنكو. ولقد استهل دراسته الجامعية في العاصمة الكتالونية برشلونة، حيث التحق بكلية الهندسة الصناعية، لينتقل بعد تخرّجه هناك إلى جامعة مدريد التقنية، حيث تخصص في العلوم الجوية والبحرية، ثم تابع تحصيله في الخارج حيث نال شهادة عليا في البحوث التطبيقية من جامعة ستانفورد الأميركية المرموقة، ثم في اقتصاد الطاقة من المعهد الفرنسي الأعلى للبترول، قبل أن يعود إلى مدريد حيث نال شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة مدريد «الكومبلوتنسية»، وأصبح استاذاً للتحليل الاقتصادي والرياضيات التجارية.
في عام 1974، انتسب بورّيل إلى الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، حيث تدرّج بسرعة ليتولّى بعد خمس سنوات الإشراف على السياسة المالية في حكومة مدريد الإقليمية. وعندما حقق الاشتراكيون فوزهم التاريخي الكاسح في انتخابات عام 1982، بقيادة فيليبي غونزاليس، عيّن بورّيل أميناً عاماً لوزارة الاقتصاد والمال، ثم كلّف الإشراف على برنامج مكافحة الفساد الضريبي برتبة وزير دولة، ثم انتخب نائباً في البرلمان عن إقليم برشلونة.
بعدها، عندما أجرى غونزاليس تعديلاً واسعاً على حكومته في عام 1991 تولّى بورّيل حقيبة وزارة الأشغال العامة والنقل، ثم حقيبة السياحة والبيئة في الحكومة التالية، بعدما جدّدت ولايته في البرلمان. وعندما فاز الحزب الشعبي المحافظ في انتخابات عام 1996، أصبح بورّيل عضواً في اللجنة التنفيذية للحزب الاشتراكي الذي كان غونزاليس استقال من أمانته العامة. ثم فاجأ الجميع عندما انتخبته قاعدة الحزب أميناً عاماً ومرشحاً لرئاسة الحكومة، غير أنه اضطر للاستقالة بعد ثلاث سنوات تحت وطأة الصراعات الداخلية، وبسبب فضيحة مالية طالت اثنين من معاونيه السابقين في وزارة المالية.
مع هذا، عام 2004، ترأس بورّيل اللائحة الاشتراكية لانتخابات البرلمان الأوروبي الذي تولّى رئاسته بغالبية ساحقة في ذلك العام. وبعد انتهاء ولايته في رئاسة البرلمان الأوروبي، تولّى إدارة المعهد الجامعي الأوروبي الشهير في مدينة فلورنسا الإيطالية الذي يُعتبر من أهم المعاقل الفكرية في الاتحاد الأوروبي.
ضد انفصال كاتالونيا
مع اندلاع الأزمة الانفصالية في كاتالونيا، إثر الاستفتاء على الاستقلال الذي دعت إليه الحكومة الإقليمية في خريف عام 2007، أعلن بورّيل رفضه الانفصال وشنّ حملة قاسية مدعومة بالحجج الاقتصادية الدامغة على القوى الانفصالية التي أعلنته ألدّ خصومها. وما يُذكر أن قيادة الحزب الاشتراكي تبنّت تصوّر بوريل لمعالجة الأزمة الانفصالية قبل أن يكلّفه بيدرو سانتشيز حقيبة وزارة الخارجية في الحكومة الإسبانية، التي شكّلها بعد سقوط حكومة ماريانو راخوي اليمينية.
وخلال القمة التي عقدها رؤساء الدول والحكومات في الاتحاد الأوروبي، مطلع يوليو (تموز) 2019، عيّن بورّيل ممثلاً أعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية خلفاً للإيطالية فيديريكا موغيريني، التي كانت قد تولّت المنصب لمدة 5 سنوات.
منذ اليوم الأول لتوليه مهام منصبه الجديد كان بوريل يشدّد على ضرورة أن «يغيّر الأوروبيون خرائطهم الذهنية للتعاطي مع العالم كما هو وليس كما نتمنّى أن يكون، كي لا تصبح أوروبا الخاسر الأول في التنافس المحتدم بين الصين والولايات المتحدة في جميع المجالات». وهو يرى أن الشرط الأساسي لذلك هو الخروج عن قاعدة الإجماع التي تحكم السياسة الخارجية الأوروبية وتصيبها بالشلل، وأن «تتعلّم أوروبا لغة السلطة وتتصرّف من موقعها كطرف جيوستراتيجي من الدرجة الأولى».
أيضاً، يدعو بورّيل إلى إسناد السياسة الخارجية الأوروبية إلى القدرات التجارية والاستثمارية الهائلة التي تتمتع بها بلدان الاتحاد، وإلى القوة المالية والانتشار الدبلوماسي الواسع، وأدوات الأمن والدفاع التي في متناول البلدان الأعضاء، من أجل أن يكون تأثيرها ونفوذها في مستوى حضورها العالمي وقوتها الاقتصادية. وهو يقول في هذا الصدد: «مشكلة أوروبا ليست افتقارها للقدرات، بل في انعدام وجود الإرادة السياسية الكافية لتفعيل هذه القدرات وتسخيرها في الاتجاه الصحيح».
يضع جوزيب بوريل في صدارة أولوياته الاهتمام بالأزمات في البلدان المحيطة بالاتحاد الأوروبي، والعمل على تهدئتها ومنع نشوب نزاعات جديدة، ووضع استراتيجية لشراكة عميقة مع أفريقيا، واعتماد سياسة واضحة للتعامل مع المثلّث الاستراتيجي الذي يسيطر على عالم اليوم: الولايات المتحدة والصين والاتحاد الروسي. وهو مؤمن بأن هذه القوى الثلاث، رغم اختلافها في أوجه عدة، تلتقي حول مبدأ إخضاع العلاقات السياسية لثقل القوة العسكرية والاقتصادية.
الملف النووي الإيراني
أما بشأن الملف النووي الإيراني والعلاقات مع دول الخليج، فإن بوريل يوليه اهتماماً خاصاً؛ إذ يعتبر «أن المنطقة التي يتدفّق منها أكثر من ربع الطاقة في العالم، تشكّل الشريان الأبهر للاقتصاد العالمي». ويدعو إلى «تجديد» الاتفاق النووي مع إيران الذي «ليست له صفة المعاهدة الدولية لأن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لم يكن قادراً على التعهد بمصادقة الكونغرس عليه في ذلك الحين». اقتصر على منع إيران من إنتاج القنبلة النووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها، وذلك على «أن تنفتح إيران على العالم الخارجي ويتعزز موقع القوى المعتدلة داخلها، لكن النتيجة كانت أن إيران ازدادت عدوانية على الصعيد الإقليمي، خاصة في الأزمة السورية والأوضاع في العراق واليمن ولبنان، وذلك رغم تحالفها مع الغرب والولايات المتحدة لمحاربة تنظيم (داعش)، واستمرّت في خطابها المعادي للمملكة العربية السعودية ودول الخليج».
في سياق موازٍ، يدافع بوريل بقوة عن النظام الدولي متعدد الأطراف ومنظمة الأمم المتحدة، التي يعتبر أن بعض الإصلاحات الجذرية في أجهزتها أصبحت ضرورة ملحّة في ضوء التطورات الدولية الأخيرة، خصوصاً في مجلس الأمن الذي لم يعد يعكس التوزيع الراهن للموازين الاقتصادية والديموغرافية في العالم. ذلك أنه يرى أنها أصبحت تختلف كثيراً عما كانت عليه في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولذا، فهو يدعو إلى إعادة النظر في شروط استخدام حق النقض «الفيتو» داخل مجلس الأمن، للحد من هيمنة الدول الكبرى على قراراته.
غزو أوكرانيا
على صعيد آخر، يرى بوريل أن الأزمة الأوكرانية «تحمل كل البذور الكفيلة باندلاع حرب عالمية ثالثة»، وأنها أعادت السياسة الخارجية الأوروبية إلى دائرة الضوء بعد ردة الفعل السريعة والموحدة لبلدان الاتحاد الأوروبي في مواجهة الغزو الروسي. وكان بوريل قد فرغ في خريف العام الماضي من وضع وثيقة يعمل على إعدادها منذ توليه منصبه، وهي تلخّص تصوره لما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية الأوروبية في العقود المقبلة.
وخلال عرضه للوثيقة التي تحمل عنوان «البوصلة الاستراتيجية»، أواخر السنة الماضية، أمام المفوضية الأوروبية، قال الممثل الأعلى: «إننا نعيش في محيط استراتيجي بالغ التعقيد والخطورة، وهو لا يشبه في شيء ما كان عليه في العقود الماضية. إنه محيط أكثر عدوانية من أي وقت قريب مضى، حيث يتعرّض الأمن الاقتصادي والاستراتيجي الأوروبي للهجوم كل يوم، في حين يتدهور المشهد السياسي باطراد داخل الاتحاد. إن من واجبنا التأهب لمواجهة هذا الواقع الجديد، بدءاً بتطوير قدراتنا العسكرية بما يمكننا من نشر قواتنا ميدانياً بما يتناسب مع التهديد الذي تتعرّض له الأراضي الأوروبية، بالتعاون والتنسيق الوثيق مع الحلف الأطلسي الذي يبقى عماد الدفاع المشترك الذي لا بديل له».
وبالذات، عن الغزو الروسي لأوكرانيا، يقول بوريل: «نحن الآن في حرب، لأن رؤية بوتين للتاريخ تختلف جذرياً عن رؤيتنا عالمه الفكري لا يشبه عالمنا. علينا أن نتصدّى له بكل الوسائل، مدركين أنه أخطأ في حساباته وافتراضاته. لقد أعتقد أن أوكرانيا ضعيفة وخائفة، وأن أوروبا منقسمة على ذاتها وتحت رحمة الغاز الذي تمدّها به روسيا، وأن الولايات المتحدة شغلتها الصين عن بقية العالم، وأن جيشه سيسيطر على أوكرانيا في غضون أيام وينصّب في كييف نظاما خاضعاً له. لكن بوتين أخطأ في كل حساباته، وهذه الحرب ستدوم».
أخيراً، كان بوريل قد مهّد لوثيقته الاستراتيجية بملاحظة شخصية قال إنها غير قابلة للتفاوض، جاء فيها قوله: «إننا اليوم نعيش في عالم بات من الممكن أن يُستخدم أي شيء فيه كسلاح للاعتداء على الآخرين أو إخضاعهم. لم يعد كافياً أن يمارس الاتحاد الأوروبي (القوة الناعمة)، بواسطة السياسة التجارية وحقوق الإنسان».