جوزيب بوريل... قائد الدبلوماسية الأوروبية في زمن تحديات «الكبار» وطموحاتهم

سياسي وتكنوقراطي اشتراكي إسباني في واجهة الأحداث

جوزيب بوريل... قائد الدبلوماسية الأوروبية في زمن تحديات «الكبار» وطموحاتهم
TT

جوزيب بوريل... قائد الدبلوماسية الأوروبية في زمن تحديات «الكبار» وطموحاتهم

جوزيب بوريل... قائد الدبلوماسية الأوروبية في زمن تحديات «الكبار» وطموحاتهم

في أول تصريح أدلى به جوزيب بورّيل، عقب تعيينه الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، في معرض التعليق على تهديدات إدارة دونالد ترمب بالتدخل عسكرياً في الأزمة الفنزويلية، قال: «لا يجوز اللجوء إلى سياسة رعاة البقر، والتهديد بشهر السلاح لمعالجة هذه الأزمة المعقدة». يومذاك، كان بورّيل لا يزال يشغل منصب وزير خارجية الحكومة الاشتراكية الإسبانية. ولقد استدعى كلامه احتجاجاً شديداً من واشنطن وإسراعاً أوروبياً لاحتواء التوتّر الذي كان بدأ يخيّم على العلاقات مع الولايات المتحدة، ثم إنه، يومذاك، ذكّر خصوم بورّيل، الذين يأخذون عليه اندفاعه المفرط في التصريح ومقاربة القضايا الحسّاسة، بما كان ورد على لسانه في خطاب تسلّمه رئاسة البرلمان الأوروبي، حين قال إن «الأزمات الجيوسياسية التي تعصف اليوم بالعالم تفرض على الاتحاد الأوروبي تحديد موقعه بوضوح على الساحة الدولية التي تسيطر عليها سياسة القوة الصمّاء، حيث نرى بعض القادة لا يتورّعون عن اللجوء إلى استخدام القوة أو التهديد باستخدامها، وحيث تتحوّل الأدوات الاقتصادية إلى أسلحة فتّاكة».

عندما تكلّم جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، يوم الأربعاء الماضي، أمام البرلمان الأوروبي في إحاطة حول الأزمة الأوكرانية، لم يتردد في القول: «ما إن بلغني فجر ذلك اليوم المشؤوم أن القوات الروسية بدأت تقصف كييف، أدركت أننا طوينا صفحة من التاريخ، وأصبحنا على عتبة مرحلة جديدة تقتضي منا، نحن الأوروبيين، أن نكون جاهزين لهذا التحدي الذي وضعتنا أمامه روسيا. في عالم تحكمه القوة، علينا أن نكون مستعدين لتطوير قدراتنا الدفاعية والوسائل العسكرية اللازمة». وأردف: «ما حصل في الأيام القليلة الماضية كان أكثر مما حصل في أوروبا خلال العقود الماضية. إنها قفزة نوعيّة في مسار المشروع الأوروبي، انتقلت به ليصبح كتلة متراصة تعي بوضوح الأخطار التي تتعرّض لها، وقادرة على اتخاذ موقف سريع وموحّد لدرئها، ومستعدة لتمويل عمليات عسكرية وقتالية خارج حدودها».
لكن من هو الرجل الذي لم تنظر واشنطن بعين الرضا إلى تعيينه، والذي احتجت عليه إسرائيل رسمياً، والذي يقول معاونون إنه جاء ليهزّ شجرة السياسة الخارجية الأوروبية التي «تتراوح بين العقم والخمول»، على حد قوله، والذي لم يعد سرّاً أن الدوائر العليا في الاتحاد تجهد لاحتواء اندفاعه والحد من صلاحياته؟

النشأة والمسيرة
وُلد جوزيب بورّيل عام 1947 في بلدة بويبلا دي سيغور، من أعمال إقليم كاتالونيا (شمال شرقي إسبانيا)، في كنف عائلة ناضلت سياسياً ونقابياً ضد ديكتاتورية الجنرال فرنشيسكو فرنكو. ولقد استهل دراسته الجامعية في العاصمة الكتالونية برشلونة، حيث التحق بكلية الهندسة الصناعية، لينتقل بعد تخرّجه هناك إلى جامعة مدريد التقنية، حيث تخصص في العلوم الجوية والبحرية، ثم تابع تحصيله في الخارج حيث نال شهادة عليا في البحوث التطبيقية من جامعة ستانفورد الأميركية المرموقة، ثم في اقتصاد الطاقة من المعهد الفرنسي الأعلى للبترول، قبل أن يعود إلى مدريد حيث نال شهادة الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة مدريد «الكومبلوتنسية»، وأصبح استاذاً للتحليل الاقتصادي والرياضيات التجارية.
في عام 1974، انتسب بورّيل إلى الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني، حيث تدرّج بسرعة ليتولّى بعد خمس سنوات الإشراف على السياسة المالية في حكومة مدريد الإقليمية. وعندما حقق الاشتراكيون فوزهم التاريخي الكاسح في انتخابات عام 1982، بقيادة فيليبي غونزاليس، عيّن بورّيل أميناً عاماً لوزارة الاقتصاد والمال، ثم كلّف الإشراف على برنامج مكافحة الفساد الضريبي برتبة وزير دولة، ثم انتخب نائباً في البرلمان عن إقليم برشلونة.
بعدها، عندما أجرى غونزاليس تعديلاً واسعاً على حكومته في عام 1991 تولّى بورّيل حقيبة وزارة الأشغال العامة والنقل، ثم حقيبة السياحة والبيئة في الحكومة التالية، بعدما جدّدت ولايته في البرلمان. وعندما فاز الحزب الشعبي المحافظ في انتخابات عام 1996، أصبح بورّيل عضواً في اللجنة التنفيذية للحزب الاشتراكي الذي كان غونزاليس استقال من أمانته العامة. ثم فاجأ الجميع عندما انتخبته قاعدة الحزب أميناً عاماً ومرشحاً لرئاسة الحكومة، غير أنه اضطر للاستقالة بعد ثلاث سنوات تحت وطأة الصراعات الداخلية، وبسبب فضيحة مالية طالت اثنين من معاونيه السابقين في وزارة المالية.
مع هذا، عام 2004، ترأس بورّيل اللائحة الاشتراكية لانتخابات البرلمان الأوروبي الذي تولّى رئاسته بغالبية ساحقة في ذلك العام. وبعد انتهاء ولايته في رئاسة البرلمان الأوروبي، تولّى إدارة المعهد الجامعي الأوروبي الشهير في مدينة فلورنسا الإيطالية الذي يُعتبر من أهم المعاقل الفكرية في الاتحاد الأوروبي.

ضد انفصال كاتالونيا
مع اندلاع الأزمة الانفصالية في كاتالونيا، إثر الاستفتاء على الاستقلال الذي دعت إليه الحكومة الإقليمية في خريف عام 2007، أعلن بورّيل رفضه الانفصال وشنّ حملة قاسية مدعومة بالحجج الاقتصادية الدامغة على القوى الانفصالية التي أعلنته ألدّ خصومها. وما يُذكر أن قيادة الحزب الاشتراكي تبنّت تصوّر بوريل لمعالجة الأزمة الانفصالية قبل أن يكلّفه بيدرو سانتشيز حقيبة وزارة الخارجية في الحكومة الإسبانية، التي شكّلها بعد سقوط حكومة ماريانو راخوي اليمينية.
وخلال القمة التي عقدها رؤساء الدول والحكومات في الاتحاد الأوروبي، مطلع يوليو (تموز) 2019، عيّن بورّيل ممثلاً أعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية خلفاً للإيطالية فيديريكا موغيريني، التي كانت قد تولّت المنصب لمدة 5 سنوات.
منذ اليوم الأول لتوليه مهام منصبه الجديد كان بوريل يشدّد على ضرورة أن «يغيّر الأوروبيون خرائطهم الذهنية للتعاطي مع العالم كما هو وليس كما نتمنّى أن يكون، كي لا تصبح أوروبا الخاسر الأول في التنافس المحتدم بين الصين والولايات المتحدة في جميع المجالات». وهو يرى أن الشرط الأساسي لذلك هو الخروج عن قاعدة الإجماع التي تحكم السياسة الخارجية الأوروبية وتصيبها بالشلل، وأن «تتعلّم أوروبا لغة السلطة وتتصرّف من موقعها كطرف جيوستراتيجي من الدرجة الأولى».
أيضاً، يدعو بورّيل إلى إسناد السياسة الخارجية الأوروبية إلى القدرات التجارية والاستثمارية الهائلة التي تتمتع بها بلدان الاتحاد، وإلى القوة المالية والانتشار الدبلوماسي الواسع، وأدوات الأمن والدفاع التي في متناول البلدان الأعضاء، من أجل أن يكون تأثيرها ونفوذها في مستوى حضورها العالمي وقوتها الاقتصادية. وهو يقول في هذا الصدد: «مشكلة أوروبا ليست افتقارها للقدرات، بل في انعدام وجود الإرادة السياسية الكافية لتفعيل هذه القدرات وتسخيرها في الاتجاه الصحيح».
يضع جوزيب بوريل في صدارة أولوياته الاهتمام بالأزمات في البلدان المحيطة بالاتحاد الأوروبي، والعمل على تهدئتها ومنع نشوب نزاعات جديدة، ووضع استراتيجية لشراكة عميقة مع أفريقيا، واعتماد سياسة واضحة للتعامل مع المثلّث الاستراتيجي الذي يسيطر على عالم اليوم: الولايات المتحدة والصين والاتحاد الروسي. وهو مؤمن بأن هذه القوى الثلاث، رغم اختلافها في أوجه عدة، تلتقي حول مبدأ إخضاع العلاقات السياسية لثقل القوة العسكرية والاقتصادية.

الملف النووي الإيراني
أما بشأن الملف النووي الإيراني والعلاقات مع دول الخليج، فإن بوريل يوليه اهتماماً خاصاً؛ إذ يعتبر «أن المنطقة التي يتدفّق منها أكثر من ربع الطاقة في العالم، تشكّل الشريان الأبهر للاقتصاد العالمي». ويدعو إلى «تجديد» الاتفاق النووي مع إيران الذي «ليست له صفة المعاهدة الدولية لأن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما لم يكن قادراً على التعهد بمصادقة الكونغرس عليه في ذلك الحين». اقتصر على منع إيران من إنتاج القنبلة النووية مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها، وذلك على «أن تنفتح إيران على العالم الخارجي ويتعزز موقع القوى المعتدلة داخلها، لكن النتيجة كانت أن إيران ازدادت عدوانية على الصعيد الإقليمي، خاصة في الأزمة السورية والأوضاع في العراق واليمن ولبنان، وذلك رغم تحالفها مع الغرب والولايات المتحدة لمحاربة تنظيم (داعش)، واستمرّت في خطابها المعادي للمملكة العربية السعودية ودول الخليج».
في سياق موازٍ، يدافع بوريل بقوة عن النظام الدولي متعدد الأطراف ومنظمة الأمم المتحدة، التي يعتبر أن بعض الإصلاحات الجذرية في أجهزتها أصبحت ضرورة ملحّة في ضوء التطورات الدولية الأخيرة، خصوصاً في مجلس الأمن الذي لم يعد يعكس التوزيع الراهن للموازين الاقتصادية والديموغرافية في العالم. ذلك أنه يرى أنها أصبحت تختلف كثيراً عما كانت عليه في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولذا، فهو يدعو إلى إعادة النظر في شروط استخدام حق النقض «الفيتو» داخل مجلس الأمن، للحد من هيمنة الدول الكبرى على قراراته.

غزو أوكرانيا
على صعيد آخر، يرى بوريل أن الأزمة الأوكرانية «تحمل كل البذور الكفيلة باندلاع حرب عالمية ثالثة»، وأنها أعادت السياسة الخارجية الأوروبية إلى دائرة الضوء بعد ردة الفعل السريعة والموحدة لبلدان الاتحاد الأوروبي في مواجهة الغزو الروسي. وكان بوريل قد فرغ في خريف العام الماضي من وضع وثيقة يعمل على إعدادها منذ توليه منصبه، وهي تلخّص تصوره لما يجب أن تكون عليه السياسة الخارجية الأوروبية في العقود المقبلة.
وخلال عرضه للوثيقة التي تحمل عنوان «البوصلة الاستراتيجية»، أواخر السنة الماضية، أمام المفوضية الأوروبية، قال الممثل الأعلى: «إننا نعيش في محيط استراتيجي بالغ التعقيد والخطورة، وهو لا يشبه في شيء ما كان عليه في العقود الماضية. إنه محيط أكثر عدوانية من أي وقت قريب مضى، حيث يتعرّض الأمن الاقتصادي والاستراتيجي الأوروبي للهجوم كل يوم، في حين يتدهور المشهد السياسي باطراد داخل الاتحاد. إن من واجبنا التأهب لمواجهة هذا الواقع الجديد، بدءاً بتطوير قدراتنا العسكرية بما يمكننا من نشر قواتنا ميدانياً بما يتناسب مع التهديد الذي تتعرّض له الأراضي الأوروبية، بالتعاون والتنسيق الوثيق مع الحلف الأطلسي الذي يبقى عماد الدفاع المشترك الذي لا بديل له».
وبالذات، عن الغزو الروسي لأوكرانيا، يقول بوريل: «نحن الآن في حرب، لأن رؤية بوتين للتاريخ تختلف جذرياً عن رؤيتنا عالمه الفكري لا يشبه عالمنا. علينا أن نتصدّى له بكل الوسائل، مدركين أنه أخطأ في حساباته وافتراضاته. لقد أعتقد أن أوكرانيا ضعيفة وخائفة، وأن أوروبا منقسمة على ذاتها وتحت رحمة الغاز الذي تمدّها به روسيا، وأن الولايات المتحدة شغلتها الصين عن بقية العالم، وأن جيشه سيسيطر على أوكرانيا في غضون أيام وينصّب في كييف نظاما خاضعاً له. لكن بوتين أخطأ في كل حساباته، وهذه الحرب ستدوم».
أخيراً، كان بوريل قد مهّد لوثيقته الاستراتيجية بملاحظة شخصية قال إنها غير قابلة للتفاوض، جاء فيها قوله: «إننا اليوم نعيش في عالم بات من الممكن أن يُستخدم أي شيء فيه كسلاح للاعتداء على الآخرين أو إخضاعهم. لم يعد كافياً أن يمارس الاتحاد الأوروبي (القوة الناعمة)، بواسطة السياسة التجارية وحقوق الإنسان».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».