«عطر نجيب محفوظ»... حين تتزاوج الفلسفة مع الأدب

صلاح عساف يتتبع الأسئلة الوجودية والكونية في أعماله

«عطر نجيب محفوظ»... حين تتزاوج الفلسفة مع الأدب
TT

«عطر نجيب محفوظ»... حين تتزاوج الفلسفة مع الأدب

«عطر نجيب محفوظ»... حين تتزاوج الفلسفة مع الأدب

في كتابه «عطر نجيب محفوظ... قطوف من بستان السرد» الذي صدر حديثاً عن دار «أكتب» للنشر والتوزيع بمصر، يقوم الباحث والقاص صلاح عساف برحلة في عقل وروح الأديب المصري صاحب نوبل نجيب محفوظ، يرصد من خلالها الأفكار والقضايا التي انشغل بها عبر مسيرة إبداعه الطويلة الزاخرة بالمباهج والآلام من خلال مقاطع ومقتطفات من أعمال محفوظ، بعضها لم يتجاوز بضع كلمات وامتد البعض الآخر لعدة أسطر، وهناك فقرات طويلة لافتة تشرح وتحلل، وعبارات قصيرة محمّلة بحكمة خاطفة، وجُمل حوارية حافلة بالمفارقة وتعدد وجهات النظر، كتبها محفوظ بصياغة لغوية دقيقة وساحرة، محرضة على التفكير والتأمل، وأجراها على ألسنة بعض أبطاله وشخصيات رواياته وقصصه، كأنها تجسيد لما يدور في خواطرهم وأفكارهم، ما يعكس قدرته الخلاقة على التأثير والحضور وعبور الزمن.
قسم المؤلف كتابه إلى ثلاثة فصول: «الوجود والموت» و«الوصول إلى الله» و«أواصر وعلاقات»، وأشارت المختارات التي انتقاها من أعمال محفوظ إلى قلق الوجود والبحث عن المعنى، والحكمة والعقل والمرض والجنون، وغيرها من الأفكار التي اتخذت مناحي فلسفية، وسعى لإعادة قراءتها بوعي جديد.
أما عن فكرة هذا الكتاب وكيف تبلورت، فيقول عساف «إنه في أثناء قراءة أعمال نجيب محفوظ كان كثيراً ما تستوقفه عبارة أو جملة أو جزء من حوار، فيتأملها مليّاً، ويستغرق في التفكير فيما تطرحه، ويضع عليها علامة ليسهل العودة إليها، وتظل تشغل عقله بكلماتها، ويتذكرها فيما بعد عندما يجد ما يناسبها من مفردات الحياة. وذات يوم وهو يقرأ مجموعة «بيت سيئ السمعة» توقف طويلاً أمام عبارة من قصة «يوم حافل» جاءت على لسان البطل، وقد صدمته بجرأتها، وجعلته يعيد النظر فيما قرأه من قبل لمحفوظ. وكان يضع دائماً علامات وإشارات أمام العبارات والكلمات والجمل الحوارية التي تحمل معنى خاصاً أو دلالة مفارقة، وبدأ العمل بجمعها وإعادة تصنيفها وفقاً لما تشير إليه كل جملة أو عبارة من معنى، وحاول ترتيب المقتطفات والجمل بحيث تنتظم الإشارات التي تحتويها كل عبارة تحت العنوان المناسب لها. وهكذا تجمع لدى عساف العديد من العناوين الفرعية اندرجت داخلها العبارات والمختارات، وانتظمت بدورها تحت عناوين الفصول الثلاثة التي تضمنها الكتاب.
لم يلتزم المؤلف بالترتيب التاريخي للأعمال الإبداعية، فقد تتجاور عبارة من «رادوبيس» مع جملة من «الحرافيش» أو «قشتمر»، وقد يظهر إلى جوارهما حلم من «أحلام فترة النقاهة»، لكنها رغم ذلك تعمل جميعها على إضاءة ظل من ظلال معنى ما أو فكرة. وقد أشار المؤلف إلى مصدر كل عبارة سواء كان من رواية أو قصة، وكتب أسماء الأشخاص الذين جرت على ألسنتهم بعض الحوارات التي وردت في الكتاب، واسم الفصل أو المقطع الذي جاءت منه.
يقول عساف: «إن نجيب محفوظ لديه قدرة دائمة على مسايرة ومراودة الزمن في أحواله وتقلباته، وقد عرفه وأجاد التعامل معه على المستويين الشخصي والإبداعي، وأسهم وهو شاب بنصيبٍ وافر في تأسيس رواية عربية فنية حقيقية، وحين تقدم به العمر طوّر وأبدع أشكالاً جديدة في السرد الروائي والقصصي بنصوصه المدهشة في (أحلام فترة النقاهة)».
وذكر عساف أن الحديث عن الجانب الشخصي لمحفوظ يقود إلى حقيقة مهمة، وهي انعكاس ملامح هذا الجانب على ما أنتج من أدب. فحيرته في مطلع حياته العملية بين الفلسفة والأدب، كشفت الصراع بين عقله وقلبه، وحين حسم اختياره بالاتجاه نحو الأدب لم يطرح الفلسفة جانباً، واستطاع أن يزاوج بينهما فيما أبدع، فتخللت الفلسفة الأدب بشكل واضح، واستطاعت أن تفرض نفسها بصورة سافرة على أعمال عديدة، وأصبح لدينا أدب محفوظي عنوانه «البحث عن الحقيقة»، يحاول الإجابة عن الأسئلة الوجودية والكونية الكبرى، واستنطاق المسكوت عنه داخل النفس الإنسانية، واجتياز المناطق الخطرة في الدين والسياسة والمجتمع.
في الفصل الأول من الكتاب تبرز العبارات والمختارات التي أوردها عساف مثل استمرار الصراع واحتدامه بين «آفاق العقل وساحات اليقين»، فيبدو عدد غير قليل من أبطاله ذوي سمات تراجيدية، كما لو أنهم منذورون لقدر العذاب، مأزومون يفترسهم القلق، لا يكفُّون عن السؤال عن معنى وجودهم في الحياة ومغزى الوجود، يبحثون دوماً عن شيءٍ ما لا يسهل الحصول عليه ويتأملون في ماضيهم وحاضرهم، ويعيدون اكتشاف الأشياء مجدداً كأنما لأول مرة، ويقدمون تعريفات جديدة للقيم والمسلّمات.
وفي الفصل الثاني «الوصول إلى الله» أورد المؤلف الكثير من المقتطفات التي تركز حول الإيمان والحيرة، بعضها جاء على لسان كمال عبد الجواد بطل «الثلاثية» الشهيرة وتجربته المزلزلة في الحب، وانهيار معتقداته الروحية وتحوله إلى المادية، ومنها ما يعبر عن التجربة العقلية والروحية التي عصفت بمحفوظ في مقتبل حياته، وألقت بظلالها على شخصية «عمر الحمزاوي» في «الشحاذ» الذي أصيبت حياته بالشلل الروحي التام لبحثه عن معنى للحياة، وكذلك «عيسى الدباغ» في «السمان والخريف» و«عثمان بيومي» في «حضرة المحترم» الذي يتردد في الزواج ويبحث في الوظيفة عن المجد السماوي.
وتبرز في المختارات أيضاً أسئلة الموت والوجود التي تطرق رأس «جمعة» بطل قصة «موعد» في مجموعة «دنيا الله»، و«عبد الفتاح الدارجي» في قصة «من فضلك وإحسانك» في مجموعة «رأيت فيما يرى النائم»، و«إسماعيل قدري» في «قشتمر»، و«شاذلي محمد إبراهيم» في «حديث الصباح والمساء»، وكلها أصداء لأسئلة الوجود التي ظلت تناوش أديب نوبل.
وضمن المختارات تأتي شذرات ومقاطع كثيرة شحنها محفوظ بنبض الروح المصرية وتحولاتها الاجتماعية والسياسية في مختلف مراحلها، اقتطعها المؤلف من «الثلاثية»، وما تلاها من روايات مثل «السمان والخريف» و«الكرنك» و«يوم قتل الزعيم» و«أمام العرش»، ومنها ما دار حول الكون وأزمته ومصيره واحتدام الصراعات بين أقطاب العالم بما تملك من آيديولوجيات وإمكانات وأدوات تقنية، وقد جاءت بعضها على لسان شخصيات محفوظ النخبوية، وهي تبحث عن وسائل «لإنقاذ العالم من مصيره المحتوم»، مثل «جعفر الراوي» في رواية «قلب الليل»، وغيرها من الشخصيات التي تكشف بمعتقداتها وأفكارها عن شيء من فكر ورؤية نجيب محفوظ حتى ولو جاءت متخفية على لسان شخصياته الروائية.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟