مثلي الأعلى كان امرأة!

الأصوليون في كل الأديان ركزوا على تحجيمها وتقييدها

مدام كوري
مدام كوري
TT

مثلي الأعلى كان امرأة!

مدام كوري
مدام كوري

كان القدماء يتساءلون محتارين: هل للمرأة عقل يا ترى؟ هل فيها روح أصلاً؟ أم إنها معفية من ذلك ويكفيها غسل الصحون وإنجاب الأطفال والاعتناء بالسيد الرجل وربما غسل يديه ورجليه كما كانت تفعل جداتنا بل وحتى أمهاتنا؟... أخطر شيء على المرأة هو العصر اللاهوتي الأصولي ثم البطريركي الإقطاعي الأبوي، وهما متلازمان. وهذا في كل الأديان وليس عندنا فقط. فاليهودي الأصولي يبتدئ نهاره بالدعاء التالي: حمداً لك يا رب على أن لم تخلقني امرأة! هذا وقد سيطرت أسطورة حواء الغاوية التي أوقعت آدم في شباكها على عقلية معظم رجال الدين. ومنذ ذلك الوقت وهم يحقدون عليها لأنها كانت أول من عصى أوامر الله. وقد شبهها بعضهم «بالأفعى» لشدة خطورتها على الرجل المسكين المهذب. فهي غاوية مغرية بطبيعتها. إنها الشيطان بعينه. والرجل؟ ملاك طبعاً، ولا ذنب له. على أي حال فإن مجرد وجودها في المجلس يشوش مشاعر الرجل الطيب. يقول بولس الرسول ما معناه: في أي مجمع عام ينبغي على المرأة أن تسكت فلا تأخذ الكلام في حضرة الرجال. من هي حتى تتكلم؟ يكفيها أن تسمع. وإذا لم تفهم شيئاً ما فلتسأل عنه زوجها في البيت. وكان يقول أيضاً: رئيس كل إنسان هو المسيح، ورئيس المرأة هو الرجل، ورئيس المسيح هو الله. أو: كما أن الكنيسة خاضعة للمسيح فإنّ النساء ينبغي أن يخضعن لأزواجهن في كل شيء. أو كان يقول: إذا لم تلبس المرأة الحجاب فلتحلق رأسها على الصفر! وإذا وجدت أن ذلك عار عليها فلتضع الحجاب إذن. وبالتالي فالحجاب ليس إسلامياً فقط على عكس ما يظن الكثيرون، وإنما هو مسيحي ويهودي أيضاً، بل وحتى قبل ذلك، ويقال بأنه يوجد في إسرائيل حي للمتعصبين اليهود الذين يشتمون النساء الإسرائيليات الحديثات (المودرن) إذا ما مررن من هناك بالصدفة أو بالغلط... إنهم يبصقون عليهن ويرمونهن بالحجارة والبيض الفاسد باعتبار أنهن نجسات لا طاهرات على عكس المرأة اليهودية الملتزمة، والمحجبة، والمحتشمة. الأصولية هي الأصولية في كل زمان ومكان.
باختصار شديد
المرأة عورة كلها: عورة إذا مشت، وعورة إذا حكت، وعورة إذا تنفست. كل شيء يصدر عنها مدعاة لغواية الرجل المؤمن وإغرائه وحرفه عن الطريق المستقيم، لا سمح الله... ولذلك ينبغي تحجيبها وتقميطها وتغليفها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها.
على أي حال من هنا تركيز الأصوليين في كل الأديان على تحجيم المرأة وتقييدها وتعميتها حتى لا تكاد ترى بصيص نور أمامها. وهذا ليس غريباً ولا ينبغي أن يثير دهشتنا على الإطلاق لأنّ هذه النصوص التراثية كتبت في عصر كانت فيه المساواة بين الرجل والمرأة من رابع المستحيلات. كانت تدخل في دائرة ما يدعوه الفلاسفة اليوم: باللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. وبالتالي فلا ينبغي أن نسقط أفكار الحداثة المعاصرة على العصور الغابرة أو أن نطالبها بشيء ما كانت قادرة على أن تعطيه. هذا ظلم وتعجيز! ينبغي أن نحاكمها على أساس معايير عصرها لا على أساس معايير عصرنا ومقاييسه. وإلا فإننا نرتكب ما يدعوه العلماء بالمغالطة التاريخية وهي أخطر شيء يمكن أن يرتكبه المفكر أو المثقف.
أخيراً اسمحوا لي أن أنهي هذا المقال بسرد بعض الذكريات الشخصية. كنت متخلفاً دراسياً طيلة المرحلة الأولى من حياتي، أي حتى سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمري. كنت تلميذاً فاشلاً تماماً وأكره المدرسة والدراسة. وكنت أشعر بفرح كبير عندما تغلق المدرسة أبوابها ويكون يوم عطلة. كان هذا أسعد يوم في حياتي. كنت أنتهز الفرصة لكي أهيم على وجهي في أحضان الطبيعة، لكي أضيع في البراري المحيطة بالقرية. ما أجمل الحرية! وفجأة أقلعت دراسياً بشكل صاروخي وأدهشت الجميع بمن فيهم أنا شخصياً! كيف حصل ذلك؟ هل بقدرة قادر أم بضربة عصا سحرية؟ لا هذا ولا ذاك وإنما الفضل يعود إلى اطلاعي على أحد الكتب. لحسن الحظ فإنّ برنامج الشهادة الإعدادية في سوريا آنذاك كان يحتوي على كتاب رائع يدعى: «التلميذة الخالدة». وهو من تأليف الكاتب المصري أحمد الصاوي محمد. وفيه يروي قصة حياة العالمة الشهيرة: ماري كوري. وهي بولونية الأصل ولكنها قدمت إلى فرنسا لإكمال دراساتها العليا ثم أصبحت فرنسية بعدئذ. يصوّر هذا الكتاب القصة الملحمية بل والبطولية لهذه المرأة التي استطاعت أن تتغلب على الجوع والفقر في باريس وأن تتفوق على الطلاب الفرنسيين أنفسهم في عقر دارهم. فقد كانت تسكن غرفة الخدم وتعيش على الفتات وتتحمل كل المضايقات التي يتعرض لها الأجنبي المقطوع عن أهله ودياره. ثم أصبحت عالمة شهيرة في مجال الفيزياء النووية وحققت اكتشافات مذهلة إلى درجة أنهم منحوها جائزة نوبل مرتين لا مرة واحدة: عام 1903 عن الفيزياء وعام 1911 عن الكيمياء. وهذا الشيء لم يحصل لأي عبقري آخر سواها. حتى أينشتاين لم يحظَ بذلك. أعتقد أن الكاتب المصري كان بارعاً في سرد قصة حياتها ومؤثراً إلى درجة أن قراءة كتابه أيقظتني من سباتي العميق، من غفلتي، وغيرت مجرى حياتي. ولا أزال أشكره حتى الآن وأشكر فضله علي. قلت بيني وبين نفسي: إذا كانت هذه البولونية الفقيرة قد استطاعت اختراق كل العراقيل والصعاب ووصلت إلى قمة العلم والمجد، فلماذا لا أستطيع أنا أن أتخلص من تخلفي الدراسي وازدراء الناس لي؟ لماذا لا أجد وأجتهد وأنجح في البكالوريا على الأقل؟ لماذا لا أصبح شيئاً ما في هذه الحياة؟ هل سأظل غبياً في مؤخرة البشر؟ هكذا أصبحت هذه السيدة الرائعة، هذه المرأة العبقرية، نموذجاً وقدوة ومثلاً أعلى لي في الحياة. فانخرطت في الدراسة بشكل حماسي منقطع النظير وتغير مجرى حياتي بعدئذ رأساً على عقب. واستدركت ما فات في وقت قصير نسبياً وتغلبت على صعاب كثيرة ما كنت لأتغلب عليها لولا قراءتي لهذا الكتاب الفذ ولولا استلهامي لقصة حياة تلك المرأة العظيمة: ماري كوري. وقد خطر على بالي مؤخراً أن أعيد قراءة هذا الكتاب بعد خمسين سنة أو أكثر من القراءة الأولى. ولكني لا أمتلك نسخة عنه الآن. فتحيّة إذن إلى ماري كوري، وتحية خاصة إلى الأستاذ الكبير أحمد الصاوي محمد.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟