تذمّر واسع داخل أوساط الطائفة العلوية في سوريا من استراتيجية الأسد المتداعية.. و«الثوار» قادمون

توريد أسلحة متطورة للمعارضة من بينها صواريخ «تاو» الأميركية المضادة للدبابات

تذمّر واسع داخل أوساط الطائفة العلوية في سوريا من استراتيجية الأسد المتداعية.. و«الثوار» قادمون
TT

تذمّر واسع داخل أوساط الطائفة العلوية في سوريا من استراتيجية الأسد المتداعية.. و«الثوار» قادمون

تذمّر واسع داخل أوساط الطائفة العلوية في سوريا من استراتيجية الأسد المتداعية.. و«الثوار» قادمون

نجح ثوار المعارضة السورية في تحقيق مكاسب ميدانية مهمّة خلال الأشهر القليلة الماضية، لا سيما في جبهات شمال سوريا، وكذلك تمكنوا من صد هجوم روّجت له كثيرًا القوات الموالية للرئيس بشار الأسد في جبهات الجنوب. وهذه مكاسب يرى مراقبون أنها قد تعيد رسم خارطة الصراع الدائر في البلاد وتزعزع استقرار نظام الأسد.
في شمال سوريا، تمكن الثوار من إحكام قبضتهم على عدد من المناطق، الواحدة تلو الأخرى، إذ سيطروا أولا على معسكر وادي الضيف العسكري القريب من مدينة معرة النعمان بجنوب محافظة إدلب. وفي مارس (آذار) الفائت سيطروا على مدينة إدلب نفسها، عاصمة المحافظة، ثم سيطروا أخيرًا على مدينة جسر الشغور، في أقصى غرب المحافظة. ومن ثم أطلقوا هجومًا على سهل الغاب الذي يصفه عضو المعارضة الدكتور رضوان زيادة في مقابلة مع «الشرق الأوسط» بأن «له أهمية كبرى كونه يقع على باب المنطقة العلوية». ومن جهته، يشير الدكتور جوشوا لانديس الأكاديمي الأميركي والمحلل المتخصص في الأمور السورية – وهو متزوّج بعلوية – في حديثه مع «الشرق الأوسط» أن الخطر الرئيسي بالنسبة إلى العلويين يتمثل في أن «مناطقهم باتت مهدّدة بصورة كبيرة، ما يشكل نقطة ضعف أخرى للنظام».
في محافظة إدلب، حسنّت «جبهة النصرة» مستوى التنسيق بينها وبين فصائل الثوار الأخرى مثل «أحرار الشام» و«صقور الشام» من خلال ما سمي بـ«جيش الفتح». وفي هذا السياق أورد تقرير صدر أخيرًا عن «معهد دراسات الحرب» (Institute For The Study of War ISW) أن قوى المعارضة تمكنت من السيطرة على معسكر القرميد، الذي كان أحد معاقل النظام جنوب شرقي مدينة إدلب، وأن بلدة أريحا، التي غدت المعقل الوحيد المتبقي للنظام في المحافظة وبلدة محردة الواقعة شمال غربي مدينة حماه – في محافظة حماه – قد تشكلان الهدف التالي لتحالف المعارضة.
وفي هذه الأثناء، في الجنوب السوري، استطاعت قوات المعارضة العاملة تحت اسم «الجبهة السورية الجنوبية»، التي وفقا للانديس تضم نحو 57 ميليشيا وتتألف من عدد من العائلات القبلية المهمة فضلا عن «جبهة النصرة»، التصدّي لهجمات قوات الأسد والتقدم على محاور جديدة. وخلال شهر أبريل (نيسان) الفائت استولت المعارضة فعلاً على معبر نصيب الحدودي الواصل بين الأراضي السورية والأردن، والواقع في محافظة درعا، واقتحمت كذلك بلدة بصرى الشام المهمة.
عناصر عدة قد تفسّر هذا التغيير في ديناميكيات الجيش السوري النظامي على أرض المعركة. ويرى لانديس أولا أن «رغبة الأسد وإصراره على بسط السيطرة على كامل الأراضي السورية جعلاه يعمل على محاولة تأمين مواقع له في مختلف مناطق البلاد، ما أدى إلى تشتيت قوة جيشه». ويضيف أنه في الوقت نفسه «كانت القوات الموالية لنظام الأسد في وضع ضعيف في محافظة إدلب، التي هي معظمها محافظة سنّية المذهب، ما جعل مواقع قوات النظام مطوّقة إلى حد ما ضمن منطقة ريفية كانت منذ بدء الثورة في سوريا تحت قبضة الثوار». ووفق الخبير الفرنسي فابريس بالانش في مقابلة مع «الشرق الأوسط» فإن «قوات النظام في هذه المنطقة لم تحظَ بدعم حزب الله اللبناني كونها لا تشكل أولوية بالنسبة إليه».
من ناحية ثانية، وفي محاولة لتعزيز سيطرته في محافظة اللاذقية، شن جيش النظام في نهاية الأسبوع الماضي هجوما ضد ثوار المعارضة بعد سلسلة الخسائر التي مني بها في محافظة إدلب المجاورة، وأراد الجيش تحصين مواقعه لاستباق أي هجوم محتمل يشنه الثوار على محافظة اللاذقية، التي تعد معقل الطائفة العلوية. وفي هذا السياق، أورد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» بأن قوات النظام هاجمت بالفعل مواقع المعارضة بين ليل الخميس ويوم الجمعة الماضيين في شمال شرقي محافظة اللاذقية. وصرح رئيس «المرصد» رامي عبد الرحمن بأن «المعارك تدور عند قمة النبي يونس، التي تعد موقعا استراتيجيا يعلو 1500 متر (500 قدم) فوق مستوى سطح البحر، على حافة محافظتي إدلب وحماه». وفي هذه الأثناء، أعطت «الجبهة الجنوبية» زخمًا جديدًا للثوار.
أما العنصر الثاني الذي قد يفسّر المكاسب السريعة التي يحققها الثوار في الآونة الأخيرة فيتمثل في توريد أسلحة متطورة من بينها صواريخ «تاو» الأميركية المضادة للدبابات التي يقول الدكتور زيادة إنها «أحدثت فرقًا كبيرًا»، لم تستطع قوات النظام الصمود أمام مستخدميها إلا لساعات أو أيام معدودة قبل أن تتراجع.
أما العنصر الثالث، فيتمثل بما يبدو أن الثوار قرّروا زيادة التنسيق في ما بينهم وإعادة تنظيم صفوفهم تحت راية «جيش الفتح» في الشمال أو «الجبهة الجنوبية» في الجنوب. ويُعزى هذا حسب خبراء يتابعون الشؤون السورية إلى التطوّرات الإقليمية الجديدة التي اتخذت شكل تقارب بين بعض دول المنطقة الفاعلة، ما وضع حدا للمشاحنات المعتادة بين الثوار. وفي هذا الصدد، يعتبر الخبير بالانش أن ثقة هذه الدول ومنها تركيا وقطر بالولايات المتحدة باتت مزعزعة، لا سيما حين يتعلق الأمر بسوريا، ناهيك بأنها «تشعر بالغضب من (الاتفاقية النووية) مع إيران، ثم إن تركيا قرّرت بالفعل إنشاء منطقة عازلة في شمال سوريا تجنّبًا لتدفق أعداد اللاجئين الهائلة إليها». وبالإضافة إلى ما تقدّم، وافقت بعض الدول العربية على دعم مجموعات لم تكن تنظر إليها سابقًا بشكل إيجابي مثل الفصائل التابعة لجماعة الإخوان المسلمين و«جبهة النصرة». ويرى الدكتور لانديس أن أبرز الدول الشرق أوسطية الداعمة للثوار «هي اليوم في الخندق نفسه عندما يتعلق بالأمر الفصائل الإسلامية». هذا، وللمرة الأولى منذ نشوء الصراع في سوريا، تبدو المنطقة الغربية من سوريا باتت مهدّدة، إذ لا تبعد مدينة جسر الشغور إلا نحو 100 كلم عن اللاذقية وهي معقل العلويين الذين يتحدر منهم الأسد والذين يشكلون غالبية القوات المقاتلة غير الرسمية التابعة لنظامه. ويرجح الخبراء أن هذا التطور سيكون له وقع كبير على الطائفة العلوية التي ما عادت تتقبل مقتل كثير من أبنائها، وهنا يشير لانديس إلى أن ما بين 70.000 إلى 100.000 علوي قتلوا في الصراع، ما أثار غضب الطائفة على الأسد، ذلك أنها تعتبر استراتيجية الأسد القائمة على الامتداد باتجاه جميع وترك معسكرات غير معزّزة داخل مناطق العدو استراتيجية تسهل القضاء عليهم.
هذه التطورات الجديدة لا تعني، مع ذلك، أن الأسد بات في ورطة خطيرة، فهو ما زال يسيطر على مناطق حيوية في البلاد مثل مدن حمص وحماه والسويداء، ثم إن المناطق الساحلية ووسط العاصمة دمشق ما زالت آمنة، وحتى في شمال غربي البلاد، إذ بات الثوار مؤهلين بصورة أفضل من أي وقت مضى لطرد قوات النظام، ما زال النظام قادرًا على خوض معارك في محافظة حلب وأيضا في محافظة حماه، غير أن من شأن هذه التطوّرات بالتأكيد تبديل ديناميكيات الصراع.
بالنسبة إلى الدكتور كريستوفر كوزاك، الذي كان وراء إصدار التقرير الأخير في «معهد دراسات الحرب» فإن الأسد ليس في موقع يسمح له بتحقيق انتصارات عسكرية شاملة في عام، ذلك أن الجيش النظامي ما زال يتخبّط في مشكلات مزمنة كالاستنزاف وانعدام الثقة. وما عاد بمقدور الأسد الوثوق إلا بنخبة قليلة من وحداته العسكرية وبـ«فيلق القدس» وحزب الله وغيرهما من الجماعات الموالية لإيران لقيادة عملياته العسكرية، «كما أن اللجوء إلى الوحدات شبه المسلحة كقوات الدفاع الوطني في معارك شرسة أدت إلى إضعاف قوة النظام وإلى زعزعة القاعدة الشعبية للأسد» وفق كوزاك.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.