العملية العسكرية الخاصة... مشهد من موسكو

مدنيون يجهّزون قنابل مولوتوف في كييف أمس (أ.ب)
مدنيون يجهّزون قنابل مولوتوف في كييف أمس (أ.ب)
TT

العملية العسكرية الخاصة... مشهد من موسكو

مدنيون يجهّزون قنابل مولوتوف في كييف أمس (أ.ب)
مدنيون يجهّزون قنابل مولوتوف في كييف أمس (أ.ب)

في 24 فبراير (شباط)، أطلقت روسيا عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا. كان السبب للتطور، المناشدة التي قدمها إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رئيسا جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، بطلب المساعدة في صدّ عدوان القوات المسلحة الأوكرانية المتواصل.
أعلن بوتين على الفور أن روسيا ستسعى جاهدة لنزع السلاح من أوكرانيا، فضلاً عن تقديم أولئك الذين ارتكبوا كثيراً من «الجرائم الدموية ضد مدنيين، بينهم مواطنو الاتحاد الروسي» إلى العدالة.
من وجهة النظر الروسية، فإن تحرك القوات المسلحة مشروع. وفي اليوم السابق، اعترف الرئيس فلاديمير بوتين بسيادة جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك. ووقّع معاهدات الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة مع رئيسيهما. وقد مرت هذه المعاهدات بعملية التصديق في مجلسي الدوما والشيوخ. وتم منح الرئيس الإذن من مجلس الاتحاد للجمعية الفيدرالية للاتحاد الروسي بإرسال القوات المسلحة إلى منطقة النزاع.
في الغرب، اعتُبر قرار بوتين بمثابة عدوان من جانب الاتحاد الروسي ضد أوكرانيا المستقلة. على الرغم من أن القوات المسلحة لأوكرانيا كانت حتى وقت قريب تستعد لحل عسكري في دونباس. ونشرت نحو 150 ألف عسكري هناك (نحو 70 في المائة من قوة الجيش الأوكراني)، من دون احتساب عناصر المجموعات المسلحة التي تشكلها كتائب القوميين.
من غير المحتمل للغاية أن تكون الأغراض الدفاعية وحدها، دفعت القوات المسلحة الأوكرانية إلى زج 450 دبابة وزرع ألغام في قطاعات واسعة على خط المواجهة.
في وقت سابق، دفعت الولايات المتحدة وحلفاؤها (أولاً وقبل كل شيء، بريطانيا العظمى وتركيا وبولندا ودول البلطيق) بكل طريقة ممكنة قيادة كييف لشن عملية عسكرية واسعة النطاق في دونباس. وهذه الأطراف لم تكتفِ بتشجيع كييف عبر الدعم السياسي وحده، بل قامت بتزويدها بطرازات مختلفة من الأسلحة والذخيرة الحديثة، كما أرسلت إلى أوكرانيا مدربين ومستشارين.
كانت روسيا قلقة للغاية بشأن إمكانية انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وما يمكن أن تلي ذلك من تدابير لنشر قواعد عسكرية أميركية على أراضي أوكرانيا. فضلاً عن أن هذا تزامن مع رفض واشنطن الكامل، مناقشة الضمانات الأمنية مع موسكو على أساس مبادئ الأمن غير القابل للتجزئة. علاوة على ذلك، في مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير، أعلن رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي أنه سيبدأ العمل لعقد اجتماع للدول المشاركة في مذكرة بودابست (1994) من أجل مراجعة قرار تخلي أوكرانيا عن وضعها كقوة نووية.
إن الإمكانات العلمية والتكنولوجية المتاحة في أوكرانيا، يمكن أن تسمح لكييف ليس فقط بتطوير أسلحة نووية في وقت قياسي، ولكن أيضاً لإنشاء وسائل حديثة لإيصالها باستخدام الصواريخ الباليستية. هذا، إلى جانب حقيقة وقوع كارثة إنسانية في دونباس؛ حيث يعيش ما لا يقل عن 700 ألف من مواطني الاتحاد الروسي، دفع الرئيس بوتين إلى اتخاذ قراره بإطلاق عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا.
مع انقضاء اليوم الثالث للعملية، كان الجيش الروسي قد دمر 975 منشأة تابعة للبنى التحتية العسكرية في أوكرانيا، بما في ذلك 23 مركزاً للقيادة والاتصالات للقوات المسلحة و31 نظاماً صاروخياً مضاداً للطائرات من طرازات «إس 300» و«بوك» و«أوسا» و48 محطة رادار. وأسقط الجنود الروس 8 طائرات مقاتلة و7 طائرات هليكوبتر و11 طائرة من دون طيار، ودمّروا صاروخين تكتيكيين لمجمع من طراز «توتشكا». كما تم تدمير 223 دبابة ومدرعات أخرى، و39 قاذفة صواريخ متعددة، و86 قطعة مدفعية ميدانية من طراز «هاون»، و143 مركبة عسكرية على الأرض.
ومنذ بداية العملية العسكرية الخاصة، تقدمت الكتائب الشعبية في لوغانسك بدعم ناري من القوات المسلحة الروسية، إلى عمق 52 كيلومتراً وسيطرت على 7 مدن وبلدات جديدة. وتقدمت قوات دونيتسك نحو 10 كيلومترات أخرى في اتجاه بتروفسكوي واستولت على 3 بلدات جديدة. كما تقدمت القوات إلى مدينة ماريوبول من الشمال وتدريجياً من الشرق، برغم قيام الكتائب القومية الأوكرانية المنسحبة بتفجير المحطات الكهربائية الفرعية والجسور عبر الأنهار.

                                                                   جانب من تدريب مدنيين على القتال في كييف (أ.ب)

أيضاً، تقدمت مجموعة القرم التابعة للقوات المسلحة الروسية من الجنوب؛ خصوصاً على طول بحر آزوف. وبدا واضحاً أن الهدف يتمثل في تطويق القوات الأوكرانية في دونباس من الجنوب والغرب.
من المهم بشكل أساسي أن القوات المسلحة الروسية لا تسعى إلى اقتحام المدن الأوكرانية الكبيرة، بل تحاصرها فقط. في الوقت الحاضر، تم تنفيذ ذلك فيما يتعلق بخيرسون وخاركوف وتشرنيغوف وسومي وكونوتوب وبيرديانسك، وجزئياً فيما يتعلق بكييف. يتم ذلك لتقليل عدد الضحايا بين المدنيين والحفاظ على البنية التحتية. من ناحية أخرى، تعمد القوات المسلحة الأوكرانية إلى نشر المدفعية في المناطق السكنية في المدن، وتوزيع الأسلحة على نطاق واسع ومن دون رقابة. وقد أدى هذا التصرف إلى انتشار أعمال قطع الطرق ونهب المحلات التجارية في كييف. هناك معطيات عن وقوع اشتباكات بين القوات المسلحة الأوكرانية والحرس الوطني والكتائب القومية.
يتجلى ميل الجانب الروسي إلى السلام في حقيقة أنه بعد ظهر يوم 25 فبراير، انتظاراً لاحتمال إطلاق مفاوضات مع القيادة الأوكرانية، تم تعليق تقدم القوات الرئيسية للقوات الروسية. ومع ذلك، في اليوم التالي تم استئناف العمليات الخاصة في أوكرانيا بسبب رفض كييف للتفاوض. كان من المفترض إجراء هذه المفاوضات في مينسك، وتم تشكيل الوفد الروسي لهذا الغرض. وفي البداية، عرض الجانب الأوكراني إجراء محادثات في وارسو. ولكن بعد ذلك، بناءً على نصيحة من رعاتهم الأميركيين، تراجع الأوكرانيون عن المشاركة في محادثات.
في الأثناء، واصل الغرب وأوكرانيا إطلاق العنان لحرب إعلامية ضد روسيا. في هذا الإطار، يكفي لفت الأنظار إلى حدث وقع في 26 فبراير عندما استسلم 82 من حرس الحدود الأوكرانيين في جزيرة الثعبان، وتم نقلهم إلى سيفاستوبول. في وقت قالت فيه سلطات كييف إن الجنود الروس أطلقوا النار عليهم، بل تم منحهم جميعاً لقب أبطال أوكرانيا.
وأثناء إجلاء الأسرى الأوكرانيين، حاول 16 قارباً من القوات البحرية باستخدام «تكتيكات السرب» مهاجمة السفن الروسية التي تنقل الأسرى، كان الغرض واضحاً؛ تأكيد كذب رواية أعداد المجموعة. واللافت أنه تم تنسيق تحرك الزوارق الأوكرانية من قبل الطائرات الاستراتيجية الأميركية من دون التي قامت في ذلك الوقت بطلعات في المنطقة، ونقلت معطيات عن تحرك السفن الروسية إلى الجانب الأوكراني المهاجم.
في هذا الإطار، علينا التذكير بأن الرئيس الأوكراني زيلينسكي وأركان قيادته تركوا كييف تحت رحمة القدر. هم الآن في لفيف (توضيح من «الشرق الأوسط»: بعد تلقي المقال، أكّدت الرئاسة الأوكرانية وجود زيلينسكي وأفراد من حكومته في كييف، ونشروا مقطعاً مصوراً له في شوارعها).
على ما يبدو، في إطار العملية الخاصة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي، هناك مستويان للأهداف الموضوعة. الأول هو هدف «الحد الأدنى» من المهمة، ويتركز في فصل أوكرانيا عن مناطق «روسيا الجديدة» التي يغلب على سكانها الناطقون بالروسية (تم انتهاك حقوقهم المدنية باستمرار). وضمن هذه المناطق، تقع دونيتسك ولوغانسك وخرسون ونيكولاييف وأوديسا وزابوروجي ودنيبروبتروفسك وخاركوف. فضلاً عن مدينة كييف. في هذه الحالة، تفقد أوكرانيا عملياً إمكاناتها الصناعية وجزءاً كبيراً من السكان.
بهذه الطريقة، أوكرانيا سوف تغدو أقل خطورة بكثير بالنسبة إلى روسيا، لكن التهديد الناتج عنها سوف يعود إلى الازدياد تدريجياً.
تلك المناطق، يمكن أن تحصل على سبيل المثال على وضع دونيتسك ولوغانسك الحالي، أي تغدو كيانات معترفاً بها جزئياً مع قيام الاتحاد الروسي بإبرام اتفاقيات حول الصداقة والتعاون المتبادل معها. عملياً سيؤدي هذا إلى إنشاء منطقة عازلة، من شأنها أن تبعد الناتو عن روسيا، لكن هذا السيناريو لن يسمح بنزع السلاح في أوكرانيا بأكملها.
أما الحد الأعلى، أو المهمة القصوى، للعملية العسكرية فهو يشمل السيطرة على كل أوكرانيا. ومن المحتمل تماماً أن يتم تقسيم البلاد إلى نوفوروسيا (روسيا الجديدة)، التي تتكامل بشكل كبير مع الاتحاد الروسي، وبقية أوكرانيا، التي يحكمها، على سبيل المثال، فيكتور ميدفيدشوك، رئيس المجلس السياسي لمنصة المعارضة «من أجل الحياة».
مجلس الدوما الروسي يرى في ميدفيدشوك مفاوضاً مقبولاً في إطار وفد أوكراني يمكن أن يحاور روسيا بدلاً من الرئيس زيلينسكي، الذي لا تبدو عنده استقلالية كاملة في صنع القرار. وتجدر الإشارة هنا إلى أن عودة رجل الأعمال الثري رينات أحمدوف أخيراً إلى أوكرانيا لا تبدو مصادفة على الإطلاق. قد يحذو حذوه آخرون من رجال المال والأعمال الذين يرغبون في المحافظة على مصالحهم في أوكرانيا.
إذا تم التعامل على المستوى الأقصى للمهمة في أوكرانيا، فسوف تظهر لدى المناطق الغربية من أوكرانيا مشكلة خطيرة؛ خصوصاً أن لدى سكان هذه المناطق مشاعر سلبية للغاية تجاه موسكو. إذا تم منحهم الاستقلال، فإن موسكو عملياً سوف تعزز خطط وارسو، التي سيكون لها نفوذ قوي بالفعل على هذه المنطقة. هذا ينسحب جزئياً على مناطق أخرى، بينها مثلاً ترانسكارباثيان؛ حيث تعيش أقلية من أصول مجرية. عموماً سيؤدي هذا إلى تخفيف ضغط الغرب بشكل كبير، لكنه سيخلق حتماً بؤرة توتر جديد مع الاتحاد الروسي في المستقبل. لإضعاف تأثير هذا العامل، ينبغي أن يتم ضم بقية أوكرانيا في إطار اتحاد فيدرالي أو كونفدرالي.
في الحالين، يتم تنفيذ العملية العسكرية في أوكرانيا بحذر شديد. ليس فقط بهدف تقليص الخسائر بين السكان المدنيين، ولكن أيضاً بين القوات المسلحة لأوكرانيا، وبهدف الحفاظ على البنية التحتية المدنية. والأكيد أن موسكو لا تسعى إلى ضم أي أراضٍ أوكرانية. أمامها هدف واحد؛ نزع السلاح ونقل السلطة في أوكرانيا.
* خبير عسكري رئيس قسم في معهد بلدان رابطة الدول المستقلة



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟