تداهم الأزمة الأوكرانية حالياً كل شؤون الحياة المختلفة. روسيا تقضم أوكرانيا، واضعة العالم على حافة حرب كبرى. خلال ذلك لا يعرف اختصاصيو الاقتصاد ما الذي سيحدث بالتحديد لأسواق التجارة العالمية وأسواق البورصة ومصير الدولار واليورو والجنية الإسترليني. كلام كثير حول النتائج المحتملة وكله سلبي ينذر بمضاعفات عديدة تضرب ما بقي من استقرار في هذا العالم.
- وقد تضرب السينما أيضاً
في تقرير نشره أكثر من موقع، تشعر هوليوود بأن التداعيات قد تصيبها، ليس لأنها ستخسر السوق الروسية والأوكرانية معاً (كلاهما ليسا من الأسواق النشطة تجارياً لها) بل نتيجة تحوّلات في سياسة العروض الصينية تصاحب الوضع الأوروبي الحالي. للتحديد، وحسب المتداول في هوليوود اليوم، هناك خوف من أن تخسر السينما الأميركية الترحيب الذي صاحبها منذ عقدين في الصين، بحيث ازداد اتكال هوليوود على سوقها الضخمة والأرباح المجناة منها.
إذا ما قررت الصين إغلاق السوق أمام الإنتاجات الأميركية، ولو بنسبة 50 في المائة، فإن النتيجة ستكون وخيمة على صناعة السينما التي ما زالت تعاني من جرّاء وباء «كورونا».
- ألمانيا العدوّة
الحرب بين روسيا والغرب قائمة على الشاشة منذ زمن بعيد. ليس كل الغرب بل الولايات المتحدة على وجه التحديد، كون سينماها هي الأكثر ثراءً وتنوعّاً ونجاحاً، من ناحية، ولأسباب محض تجارية من ناحية أخرى. تحليل هذين الجانبين مرتبط بحقيقة أن معاداة شعب أو حكومة أو عرق ما، يعتمد على الرياح السياسية التي يشعر بها الأميركيون أكثر من سواها. تفسير ذلك بسيط: الجمهور (في كل مكان) هو سواد من الناس تدفعه العاطفية لتبني المواقف. وما يتبناه أكثر من سواه هو الموقف الرسمي لبلاده خصوصاً عندما يكون النزاع سياسياً أو وطنياً.
إذا شاء الجمهور، في ثلاثينات القرن الماضي وحتى الخمسينات، السخرية من الحياة العربية آنذاك، كان له ما أراد. لن يكون هناك واعز ضد استخدام الشخصية العربية وما يصدر عنها، وربطها بالمجتمع ككل، وتصويره على النحو الذي نعتبره، نحن، مشوّهاً وعدائياً. نحن لسنا في الصورة إلا كوسيلة للترفيه الجماهيري.
وهناك حالات متعددة تكشف ارتباط منهج هوليوود السينمائي بالموقف السياسي. خلال احتلال اليابان للصين، كانت هناك أفلام تتحدّث عن بطولة الصينيين ومساندة «أبطال» أميركيين لهم ضد عدو مشترك.
الموقف حيال ألمانيا لم يختلف عن هذا المنهج كثيراً، فحتى من بعد وصول أدولف هتلر إلى الحكم وارتفاع نغمة المعاداة لليهود في ألمانيا في منتصف الثلاثينات، استمرت هوليوود بإغداق هداياها من الأفلام تلبية لحاجتها للسوق الألمانية. فقط عندما نشبت الحرب العالمية الثانية سنة 1939 بدأنا نرى أفلاماً أميركية تتحدّث عن هذا العدو الجديد للعالم الديمقراطي، فتم إنتاج أفلام تدين النازيين كما حال «اعترافات جاسوس نازي» لأناتولي ليتفاك سنة 1939 وعشرات الأفلام الحربية التي تناولت مواضيع تتدرّج من إرسال كتائب وراء خطوط العدو إلى اجتياح القوات الأميركية أوروبا انطلاقاً من نورماندي
أحداث «اعترافات جاسوس نازي» بقيت داخل البيت الأميركي وهو سبق بعام واحد جهد تشارلي تشابلن «الديكتاتور العظيم» (1940). في العام ذاته قامت ألمانيا بتحقيق أفلام مناوئة عبر ذراعها الإعلامي. وبينما كان تشابلن يعكس تعاطفه مع مصير اليهود، أنتجت البروباغاندا الألمانية «اليهودي الخالد» (The Eternal Jew) لفريتز هيبلر الذي برر موقف الدولة الألمانية حيال اليهود.
- روسيا الحليفة
حين انتهت الحرب العالمية الثانية استمرّت السينما الأميركية في إطلاق أفلامها الحربية ضد العدوّين المتلازمين: الألمان واليابانيين وبنجاح تجاري كبير غالباً كون الجمهور أقبل عليها تعبيراً عن تأييد وطني لها. الحال مستمر على النحو ذاته كلما رغبت هوليوود في إنتاج فيلم حربي آخر عن الفترة كما فعل كونتن تارنتينو في «أوغاد بلا مجد» (nglourious Basterds).
العلاقة الروسية - الأميركية انبثقت بدورها من ثنايا تلك الحرب. فخلالها كان من المتاح تقديم عدد من الأفلام التي آزرت الجهود الروسية (أو السوفييتية بالأحرى). فيلمان في هذا الاتجاه بدآ هذا التوجه سنة 1942 هما «جبهتنا الروسية» للمخرجين لويس مايلستون (أنجز فيلماً ضد الحرب، أي حرب، في مطلع الثلاثينات بعنوان «كله هادئ على الجبهة الغربية») ويوريس إيفنز. الفيلم الثاني هو «الآنسة في من موسكو» وهو فيلم جاسوسي يظهر تعاون الأميركيين والروس ضد الألمان.
في عام 1943 ارتفع عدد الأفلام الأميركية المؤيدة لروسيا إلى خمسة: «النجمة الشمالية»، فيلم آخر للويس مايلستون و«مهمّة إلى موسكو” حول حياة السفير الأميركي جوزف دايڤيز في روسيا التي أحب (حققه مايكل كورتيز) و«ثلاث فتيات روسيات» (مقتبس عن فيلم روسي بعنوان «فتاة ليننغراد» وأخرجه هنري كسلر وفيودود أوتسب)، و«معركة روسيا» لفرانك كابرا (وهو اسم آخر كبير) و«صبي ليننغراد» لسيدني سالكوف.
استمر هذا المد للعام التالي بثلاثة أفلام أشهرها «أيام المجد»، الذي صور عمليات النضال الروسي ضد الاحتلال الألماني. أخرجه جاك تورنور وكان أول أفلام الممثل غريغوري بك.
لم يستمر شهر العسل لأكثر من ذلك. شوكة اليسار الأميركي كانت أخذت تثير انتباه الأف بي آي والحكومة وأدت إلى الفترة المعروفة بالكارثية، حيث وجد عدد كبير من السينمائيين في هوليوود أنفسهم في مواجهة تحقيق يريد إثبات انتمائهم اليساري. طبعاً كان من بينهم شيوعيون لكن كان من بينهم من تناولته الشبهة من دون إثبات.
في هذه المرحلة (النصف الثاني من الأربعينات) انقلب الروس إلى أعداء لأميركا والعالم الحر عبر أفلام مثل «ما وراء الستار الحديدي» لويليام أ. ولمان و«مذنب بالخيانة» لفيلكس فيست و«الانتشال الكبير» (The Big Lift) لجورج سيتون من تلك الأعمال التي تحدثت مباشرة عن الخطر الشيوعي ووجوب يقظة الأميركيين حيال مخططاته.
- بلا نهاية
الخمسينات تحديداً كانت مجالاً كبيراً لصراع الأفكار. من ناحية شاهدنا الحرب الباردة تستعر مجسدة في أفلام الخيال العلمي يتصدّرها «غزو ناهشي الجسد» لدون سيغال (1956) و«حرب العالمين» (The War of the Worlds) لبايرون هاسكن (1953). في الأول يهدف الغزاة لاحتلال أبدان الأميركيين لتغيير مفاهيمها وآيديولوجيّتها. في الثاني الهجوم آت من كوكب يجابهه المؤمنون باللجوء إلى الكنيسة وينتصرون.
لكن تداول مواضيع تنتمي إلى الحرب الباردة في تلك الآونة وما بعدها، لم يكن حكراً على نوع واحد من الأفلام. نراها مثلاً في فيلمين بوليسيين هما «إيقاف في ساوث ستريت» (Pickup in South Street) لسام فولر و«قبلني للموت» (Kiss Me Deadly) لروبرت ألدريتش وكلاهما يجسدان صراع الطرفين للاستيلاء على أسرار خطيرة.
درامياً يمكن إضافة فيلم إيليا كازان «على جبهة الماء» (أو «المرفأ»، On the Water Front) إلى تلك الأعمال التي تداولت الصراع بين آيديولوجية يسارية (عمّال المرفأ المنتمين إلى النقابة) والآخرون المعادون لهم. كازان كان نجماً من بين الذين انضموا للحزب الشيوعي ثم وشوا برفاقهم مقابل العفو عنه.
إلى أن حط فيلم ستانلي كوبريك «دكتور سترانجلوف: أو كيف تعلمّت حب القنبلة والتوقف عن القلق» (1964) كان هناك خوف من الإقدام على فيلم يسخر من الحرب الباردة والنزاع العسكري. كوبريك كسر هذا الخوف.
على أن العداء لم يتوقف ما بين الروس (الذين قدّموا العديد من الأفلام المعادية للغرب والرأسمالية)، والغرب ممثلاً بالولايات المتحدة. المجال لا يتّسع لقائمة من الأفلام التي انطلقت في تلك الفترة واستمرت حتى اليوم. لكن ثلاثة منها قادرة على توفير الصورة بوضوح: «فجر أحمر» (1984) لجون ميليوس (الروس غزوا أميركا) و«رامبو 3» (1988) الذي يحرر فيه سلفستر ستالون أفغانستان بمفرده و«صيد الكتوبر الأحمر» (1990) لجون مكتيرنن حيث يلجأ كابتن روسي إلى الغرب مثيراً السؤال حول نياته المبيّتة.