من المؤكد أن الأطفال المحاطين بالحب والحنان والمرح يتمتعون بطفولة سعيدة تحافظ عليهم أسوياء وتحميهم من الأمراض النفسية المختلفة.
وأشارت أحدث دراسة طولية تناولت تأثير فترة الطفولة على الصحة النفسية والعضوية، إلى ارتباط النمو الإدراكي بالطفولة السعيدة. وأوضحت أنهما يؤثران كلاهما على الآخر خلال مرحلتي الطفولة والمراهقة.
- الطفولة والتكوين النفسي
وكشفت الدراسة التي نشرت في «مجلة علم النفس الإكلينيكي (the journal Clinical Psychological Science)» عن احتمالية أن تؤدي الطفولة التعيسة والحالة النفسية السيئة للأطفال إلى مخاطر على المستوى النفسي والعضوي؛ من أهمها العلاقة السيئة مع الوالدين، وما يترتب عليها من أمراض نفسية أخرى.
رغم أن الإدراك والحالة النفسية لا يبدو أنهما مرتبطان بشكل واضح، فإن الدراسات الحديثة تشير إلى ارتباطهما سواء بالسلب وبالإيجاب. وهناك بعض النظريات تشير إلى أن الحالة النفسية السيئة تضعف الإدراك، فمثلاً الطالب الذي يعاني من الاكتئاب نتيجة للتنمر على الطريقة التي ينطق بها حروفاً معينة، لا يستطيع طرح الأسئلة على المعلم لتوضيح معلومة ما، نظراً لخوفه من سخرية الأقران، وبالتالي يؤثر ذلك بالضرورة على تنمية معلوماته ومهارته المعرفية (Cognitive skills) حتى لو كان يتمتع بمستوى ذكاء مرتفع، والعكس صحيح.
وفي المقابل؛ يمكن للقدرات الذهنية أن تحسن من الحالة النفسية، فعلى سبيل المثال الأطفال الذين عانوا من أحداث مؤسفة يمكن أن يتحولوا إلى مبدعين لاحقاً ويكون النجاح محفزاً لهم على الهروب من السخرية، ويتبع ذلك تحسن الصحة النفسية.
ولكن تكمن مشكلة الطفولة في أنها فترة التكوين النفسي، ويحتاج جميع الأطفال إلى التشجيع والدعم النفسي، وإذا لم يتوفر ذلك، فإن الطفل يفقد الثقة بالنفس ويعاني من «تدني الصورة الذاتية (poor self – image)».
وكانت الدراسة التي قام بها علماء من «جامعة الملك بلندن (King’s College London)» بالمملكة المتحدة مهتمة بشكل أساسي بالبحث عن الآليات المختلفة التي تربط بين الإدراك والصحة النفسية الجيدة والحياة الاجتماعية الناجحة في مرحلة الطفولة. ولذلك حلل الباحثون بيانات من دراسة أميركية كبيرة سابقة استمرت من عام 1991 حتى عام 2007، وركزوا على عينة شملت 1136 من الأطفال والمراهقين الذين كانت أعمارهم تتراوح بين 6 و7 سنوات عند بداية الدراسة والذين كانوا بعمر 15 عندما انتهت الدراسة.
وشملت المقاييس المحددة للقدرات الإدراكية 3 مجالات: علم الرياضيات، والمفردات اللغوية، والتخطيط. وشملت المقاييس المحددة للصحة النفسية 3 مجالات؛ ما يطلق عليها «الأعراض الداخلية للاكتئاب (internalizing symptoms)» مثل الانطواء والانعزال، و«الأعراض الخارجية للاكتئاب (externalizing symptoms)» مثل العدوانية، وكذلك الوحدة والفشل الاجتماعي.
- قدرات معرفية
أظهرت النتائج الارتباط بين الحالة الجيدة والقدرات المعرفية، وهذا الارتباط في كلا الاتجاهين وبشكل «محدد»، بمعنى أن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و7 سنوات الذين عانوا من حالة نفسية سيئة كانت لديهم أيضاً قدرات معرفية أقل؛ حيث كان الذين عانوا من الأعراض الخارجية للاكتئاب في عمر 6 - 7 أقل قدرة على التخطيط، مما يعني أن المشكلات السلوكية يمكن أن تظهر قبل النقص في القدرات الإدراكية بشكل واضح. وفي المرحلة العمرية نفسها كان الأطفال الذين تميزوا بمفردات لغوية أكثر، لديهم احتمالات أقل للشعور بالوحدة.
أكد الباحثون أن ارتباط الحالة النفسية الجيدة بالنمو المعرفي موضوع معقد وتتحكم فيه عوامل عدة. وعلى سبيل المثال؛ فإن الأطفال أصحاب المفردات اللغوية الأكثر تنوعاً كان لديهم أصدقاء أكثر بمرور الوقت (ربما لزيادة القدرة على التواصل)، ولكن ذلك لا يؤكد بالضرورة أنهم سعداء أو أنهم بصحة نفسية جيدة؛ لأن هناك العديد من العوامل الأخرى التي توفر الإحساس بالتوازن النفسي أهمها العلاقة الجيدة مع الآباء والتمتع بالدعم النفسي.
أيضاً كان الأطفال الذين يعانون من أعراض خارجية أسوأ للاكتئاب (مثل التهور والعدوانية) أقل قدرة على التخطيط، وكانت علاقتهم بالآباء سيئة وغير مستقرة. وكذلك كان الأطفال الأضعف في المهارات الحسابية الذين عانوا من زيادة الشعور بالوحدة أقل تقارباً مع الآباء وكان لديهم وضع اجتماعي واقتصادي أقل من أقرانهم وحياة اجتماعية أسوأ في المحيط الدراسي، مما يوضح قيمة الدعم الاجتماعي في المدرسة وتكوين الصداقات، ومعظمهم وصل إلى البلوغ في عمر مبكر عن الآخرين، مما يشير إلى أن النضج المبكر يمكن أن يؤدي إلى نتائج معرفية أضعف وحالة نفسية أسوأ نتيجة لعدم الاستعداد النفسي لحدوثه.
أوضح الباحثون أن النمو الإدراكي لكل طفل يختلف عن الآخر، ورغم وجود أدلة في الدراسة تشير إلى ارتباطه بالصحة النفسية، فإن ذلك لا يعني أن كل طفل يعاني من صعوبات في تعلم المفردات اللغوية ومهارات التواصل سوف يعاني من الوحدة بالضرورة، والعكس صحيح أيضاً، ولكن يجب أن توضع هذه النتائج في الحسبان في العملية التعليمية لتنمية مهارات الأطفال والحفاظ على صحتهم النفسية.
تبعاً لنتائج الدراسة، يمكن معالجة المشكلات النفسية المتعلقة بالسلوك (مثل العدوانية والغضب) من خلال تنمية القدرات المعرفية للطفل، مثل المهارات اللفظية. ويمكن أن يشمل العلاج الدعم النفسي من خلال المدرسة وتشجيع الطالب الذي يعاني من تراجع في القدرات الذهنية على اكتساب صداقات وتنمية الحصيلة اللغوية له، وأيضاً يجب أن توفر الأسرة الدعم النفسي غير المشروط للطفل.
- استشاري طب الأطفال