أُسدل الستار نهائياً على الحضور الفرنسي - الأوروبي العسكري في مالي بالإعلان رسمياً، أمس، في باريس عن قرار فرنسا والدول الأوروبية وكندا الانسحاب من مالي، ولكن من غير أن تعني هذه الخطوة الخروج كلياً من منطقة الساحل، وتركها تتخبط في مشكلاتها الأمنية وفي مواجهة التنظيمات الجهادية والإرهابية. ولأن باريس لا تريد أن يظهر قرار الانسحاب؛ الذي يجمع المعلقون على حسبانه «فشلاً» ذريعاً، على أنه «عمل فردي»، فقد دعا الرئيس إيمانويل ماكرون قادة الدول المعنية أفريقياً وأوروبياً، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي وكندا والولايات المتحدة والمنظمات الإقليمية، إلى قمة في قصر الإليزيه ليل أول من أمس لبلورة قرار جماعي تم الإعلان عنه أمس في مؤتمر صحافي صباحي. وقد شارك فيه، إلى جانب ماكرون، رئيس السنغال ماكي سال الذي يرأس الاتحاد الأفريقي حالياً ورئيس غانا نانا أكوفو أدو، ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال. كذلك أصدر المجتمعون بياناً مشتركاً يشرح دوافع القرار ويرسم بعض الخطوات والمهام اللاحقة التي ستقوم بها قواتهم ليس في مالي وإنماً في بلدان الساحل الأخرى بناء على رغبة كل طرف. كان قرار الانسحاب معروفاً سلفاً والسبب أن الظروف الضرورية لمواصلة عمل القوة الفرنسية المسماة «برخان» والقوة الأوروبية «تاكوبا» لم تعد متوافرة وهو ما يقوله البيان صراحة. وقد جاء فيه ما حرفه: ««نظراً للعقبات المتعددة التي تضعها السلطات الانتقالية المالية، ترى كندا والدول الأوروبية التي تعمل مع عملية برخان (الفرنسية) وداخل مجموعة (تاكوبا) الخاصة، أن الشروط لم تعد متوفرة لمواصلة مشاركتها العسكرية بشكل فعال في مكافحة الإرهاب في مالي، وقررت بالتالي بدء انسحاب منسق من الأراضي المالية لوسائلها العسكرية المخصصة لهذه العمليات». ولكن تجدر الإشارة إلى أن سلطات مالي الانتقالية لم تطلب قط بشكل رسمي انسحاب «برخان» ولا «تاكوبا» المشكلة من قوات كوماندوز أوروبية متعددة الجنسيات وقليلة العدد نسبياً (أقل من ألف شخص). بيد أن الأجواء الداخلية في مالي جعلت مواصلة الفرنسيين والأوروبيين مهامهم بالغة الصعوبة. ولتبرير الانسحاب، قال ماكرون في المؤتمر الصحافي المشترك إن فرنسا وشركاءها الأوروبيين لا يشاطرون المجموعة العسكرية الحاكمة في مالي استراتيجيتها ولا أهدافها الخفية، مضيفاً: «لا يمكننا أن نظل ملتزمين عسكرياً إلى جانب سلطات أمر واقع لا نشاطرها استراتيجيتها ولا أهدافها الخفية». حقيقة الأمر أن العلاقات بين باماكو وباريس وامتداداً للبلدان الأوروبية المشاركة في قوة «تاكوبا» قد تدهورت إلى حد أن دفعت الحكومة الفرنسية إلى التساؤل حول فائدة وجدوى البقاء في مالي، والقشة التي قصمت ظهر البعير، تمثلت بقرار مالي طرد السفير الفرنسي بشكل مهين احتجاجاً على تصريحات كبار المسؤولين الفرنسيين التي نددت بشرعية السلطات الانتقالية، وبعمل باريس من وراء الستار لدفع مجموعة دول غرب أفريقيا الاقتصادية لفرض عقوبات خانقة على باماكو، لحنثها بوعد إجراء لانتخابات عامة نهاية الشهر الحالي هدفها إعادة السلطة للمدنيين بعد الانقلابين العسكريين اللذين عرفتهما صيف عام 2020 وربيع عام 2021. كذلك، فإن الأوروبيين لم يغفروا للعسكر وللحكومة التي عينوها التقارب مع ميليشيا المجموعة الروسية «فاغنر» وتجاهل باماكو تحذيراتهم. وفاضت الكأس أيضاً بعد أن رفضت الحكومة نشر قوة دنماركية في إطار «تاكوبا» بحجة عدم حصولها على ضوء أخضر مسبق. وكانت النتيجة المباشرة أن كوبنهاغن سحبت وحداتها بالتوازي مع إعلان السويد عدم رغبتها في تمديد مشاركتها وتبعتها النرويج بقرار صرف النظر عن الانضمام إلى القوة المشتركة. وقال الرئيس الفرنسي أمس إن المهمة الحقيقية لقوات «فاغنر» ليست محاربة الإرهاب بل «ضمان أمن» المجلس العسكري الحاكم وتسخير موارد مالي لمصلحتها الاقتصادية. وفي أي حال، يتخوف الغربيون من أساليب عمل «فاغنر» وهمجيتها، مستدلين على ذلك بما تقوم به في جمهورية أفريقيا الوسطى. وتؤكد باريس أن «فاغنر» منتشرة في العديد من البلدان الأفريقية وهي تمثل الذراع الضاربة لروسيا رغم تأكيد الرئيس بوتين أنها «شركة أمنية خاصة لا علاقة للحكومة بها».
ما الذي سيحدث من الناحية العملية؟ ثمة ثلاثة أمور مؤكدة: الأول أن باريس والعواصم الغربية المعنية تخطط لانسحاب منتظم وبالتنسيق مع السلطات المالية والقوة الدولية «مينوسما» بحيث لا يشبه بأي حال انسحاب القوات الأميركية المهين من أفغانستان والفوضى والمشاهد المؤلمة التي رافقته. والثاني أن خروج قوة «برخان» من مالي سيستغرق ما بين 4 و6 أشهر. وبحسب المعلومات التي وزعتها قيادة الأركان الفرنسية أمس، فإن 2400 جندي فرنسي مع معداتهم منتشرون اليوم في مالي، بينما يبلغ عديد القوة الفرنسية في كل منطقة الساحل والصحراء 4600 رجل. وبعد نهاية العملية، سيبقى لفرنسا ما لا يزيد على 2500 رجل. وتجدر الإشارة إلى أن لباريس قواعد عسكرية رئيسية أخرى واحدة في النيجر، حيث القوة الجوية المساندة لـ«برخان» قريباً من مطار نيامي المدني، والثانية في جامينا (تشاد) حيث قيادة «برخان» معطوفة على حضور للطيران العسكري الفرنسي الذي يوفر الخدمات اللوجيستية لتأطير منطقة عمليات مساحتها 5 ملايين كيلومتر مربع أي ما يساوي 10 مرات مساحة فرنسا.
وفي أفريقيا الغربية، تشغل فرنسا قاعدة رئيسية في ساحل العاج (أبيدجان) وأخرى في الغابون (لكنها أقل أهمية) قريباً من مطار العاصمة ليبرفيل. وأخيراً، تستضيف بوركينا فاسو، قريباً من العاصمة واغادوغو، مقر قيادة «قوة سابر» التي تعني «السيف» والمختصة في عمليات ملاحقة قادة وكوادر التنظيمات الإرهابية العليا، وتنسب إليها النجاحات التي حققتها فرنسا في هذا المجال. وأهمية هذه القواعد أنها ستخدم الخطط الفرنسية الجديدة التي كشف ماكرون بعض الغطاء عنها وهي تقديم المساعدة والدعم العسكريين لشركاء فرنسا الراغبين بذلك في ميدان محاربة الإرهاب، ولكن بصيغة مختلفة تماماً عما كان عليه الأمر في مالي. وإذ أكد ماكرون أن الحرب على الإرهاب سوف تستمر في منطقة الساحل، فإن باريس تتخوف من تمدد الإرهاب إلى بلدان خليج غينيا وأفريقيا الغربية (بينين وساحل العاج وغينيا وتوغو). وامتنع ماكرون عن تعيين الأماكن التي ستنسحب إليها القوة الفرنسية التي ستغادر مالي. بيد أن السؤال الذي لم تجب عنه أي جهة فرنسية يتمثل في معرفة كيفية الاستمرار في ملاحقة التنظيمات الإرهابية في مالي بعد انسحاب «برخان» و«تاكوبا». وذكر الرئيس الفرنسي أن المساعدة يمكن أن تكون في سياق توفير المعدات والتدريب وحتى دعم عمليات مكافحة الإرهاب.
أما الأمر الثالث فيتناول مصير «تاكوبا». والثابت وفق ماكرون أن الأطراف الغربية لا تريد أن تترك الساحل يواجه وحده التنظيمات الإرهابية وأهمها المجموعات المرتبطة بـ«القاعدة» والأخرى بـ«داعش». ولذا، فإن بعض وحدات «تاكوبا» التي لم يعينها سوف تنتقل إلى النيجر. ولكن لم يعرف ما إذا كان الخروج من مالي يعني عملياً ورسمياً حل «تاكوبا» التي جاهدت باريس لإنشائها لتكون تعبيراً عن انخراط الأوروبيين إلى جانبها في الساحل وليكون الرد على الإرهاب جماعياً. وأمس، قال رئيس السنغال إن مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل «لا يمكن أن تكون من شأن الدول الأفريقية وحدها»، مضيفاً أنه «يسعدنا تجديد الالتزام بالبقاء في المنطقة وإعادة تنظيم القوات».
يبقى أن انسحاب «برخان» و«تاكوبا» من مالي ستكون له تداعيات على مجمل المشهد الأمني في هذا البلد وتحديداً على مصير القوة الأوروبية التي تدرب القوات المالية المسلحة وعلى استمرار وجود قوة السلام الدولية «مينوسما».
وجاءت تصريحات «وزير» الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل، ووزيرة الدفاع الألمانية، أمس، في بروكسل، لافتة؛ إذ أعلن الأول أنه «أوفد بعثة إلى مالي للتحقق مع السلطات المالية بأي شروط وبأي ضمانات سنتمكن من التفكير في احتمال إبقاء أو عدم إبقاء عمل بعثة التدريب»، مضيفاً أن «الرد سيأتي في الأيام المقبلة». أما كريستيانه لامبرشت؛ فقد عبرت عن «شكوكها» لجهة استمرار مشاركة القوة الألمانية المشكلة من 1385 رجلاً؛ بينهم ألف رجل في القوة الدولية، والآخرون في بعثة التدريب الأوروبية، بعد الانسحاب الفرنسي. وينتظر أن ينظر «البوندستاغ» في مسألة تمديد الوجود الألماني أو وضع حد له في مايو (أيار) المقبل. هكذا تتداعى أحجار الدومينو الفرنسية - الغربية في مالي والساحل. وأمس، رفض الرئيس ماكرون الحديث عن «فشل» مهمة القوة الفرنسية. إلا إن المحللين كافة لا يخفون الخيبة من النتيجة النهائية لحضور عسكري يعود إلى عام 2013 وينتهي برحيل من غير أن يحقق أهدافه الكبرى في محاربة الإرهاب.
قرار فرنسي ـ أوروبي بالانسحاب العسكري من مالي مع مواصلة محاربة الإرهاب في منطقة الساحل
قرار فرنسي ـ أوروبي بالانسحاب العسكري من مالي مع مواصلة محاربة الإرهاب في منطقة الساحل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة