حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا

2500 طلعة جوية كسرت شوكة الحوثيين وأعادت «الأمل» إلى اليمنيين.. والتوازن الإقليمي في المنطقة

حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا
TT

حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا

حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا

كان اليمن ينحدر نحو الهاوية بسرعة فائقة.. الحوثيون يبتلعون المدن والمحافظات الواحدة تلو الأخرى.. ليفرضوا بقوة السلاح توجهات الفصيل الواحد، بدعم وتواطؤ مع الرئيس السابق المخلوع علي عبد الله صالح، وبدعم من قوة إقليمية تحاول بث الصراع والعنف في الإقليم، هي إيران. لم يكتف الحوثي بالانقلاب على الشرعية، بالاستيلاء على صنعاء مركز السلطة، في سبتمبر (أيلول) الماضي، وخروج الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي، من قصره متخفيا إلى عدن، بل تسارعت خطواتهم لابتلاع اليمن، وتحركهم نحو العاصمة الثانية التي اتخذها هادي مقرا جديدا. لكن الأمور بدأت تتغير كثيرا في اتجاه عودة الشرعية، بعد رسالة وجهها الرئيس هادي إلى السعودية وقادة الخليج طالبا فيها التدخل لحماية اليمن، وسرعان ما جاء الرد عاجلا بإطلاق عاصفة الحزم في 26 مارس 2015. وتمكنت مقاتلات التحالف العربي التي تشكلت على عجل من السعودية والإمارات والكويت والبحرين وقطر والأردن والسودان ومصر والمغرب من السيطرة على الأجواء اليمنية خلال 15 دقيقة، إضافة إلى تأمين الحدود السعودية الجنوبية، وكذلك الموانئ اليمنية، عبر السفن السعودية والمصرية.
كانت البداية رسالة من الرئيس هادي، إلى قادة دول الخليج، يستنجد فيها بالتدخل العسكري من خلال قوات «درع الجزيرة» إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، وأتباع الرئيس المخلوع صالح، وكذلك تصريح من الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودية، خلال اجتماعه مع نظيره البريطاني فيليب هاموند في الرياض، يشير فيه إلى أن الرئيس اليمني يستطيع تنفيذ المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تعطي الدولة الحق في الدفاع عن نفسها في حال تدخل عسكري فيها. كلها دلائل تشير إلى بداية حملة عسكرية لحماية الشرعية والشعب اليمني من عدوان الحوثي وأعوانه. وكان اجتماع القيادات الخليجية في قصر العوجا بالرياض، قبل انطلاق عاصفة الحزم بأسبوع واحد، بمثابة اجتماع حرب.
وخلال 27 يوما حققت دول «عاصفة الحزم»، نتائج عسكرية باهرة على الأرض، واستطاعت شل حركة المتمردين، وقطع إمدادات السلاح والنفط التي تردهم من إيران، خصوصا بعد استيلائهم على القواعد العسكرية والطائرات الحربية، والصواريخ البالستية التي زودتهم بها طهران، عبر الموانئ البحرية، و14 رحلة جوية بين اليمن وإيران، جرى التوقيع عليها قبل الحرب بنحو شهر واحد. كما حققت نجاحات سياسية بتأييد قادة العالم للحملة وعلى رأسهم الرئيس الأميركي باراك أوباما، ونجاحات دبلوماسية بتأييد مجلس الأمن لعاصفة الحزم، ومنحها الشرعية من خلال إصدار قرار دولي تحت الفصل السابع يطالب الحوثيين بإعادة الشرعية للرئيس اليمني الشرعي، في مهلة محددة، قبل أن تطلق الحملة الاقتصادية «عاصفة الأمل» من أجل النهوض بالاقتصاد اليمني وإغاثة المنكوبين.
النجاحات العسكرية
واستعادة قاعدة العند
ركز تحالف «عاصفة الحزم» منذ الساعات الأولى من بدء الحملة الجوية، على استهداف مدرج القواعد العسكرية، مثل قاعدة العند التي كانت الميليشيات الحوثية تسيطر عليها خلال الفترة الماضية، وذلك لمنع استخدامها، وقطع الطريق بين صعدة وصنعاء، من خلال استهداف أحد الجسور البرية، التي يستخدمها المتمردون خلال نقلها منصات صواريخ باليستية وعربات تموين، حيث حصلت القوات الجوية السعودية التي شاركت في الطلعات الأولى، على سيطرة جوية مطلقة وبدأت في تنفيذ جميع العمليات، إذ إن أي عملية جوية تتكون من عدد كبير من الطائرات منها الهجومية ومنها التزود بالوقود وطائرات الإنذار المبكر ومنها طائرات الاستطلاع والبحث والإنقاذ. ونجحت العاصفة في استعادة العند.
وحرص قوات التحالف، في المقام الأول على سلامة المواطنين اليمنيين، من دون أن يصاب أي أحد بأذى، إذ إن هناك عددا من المواقع مثل صواريخ البالستية، ومخزن أسلحة، عمل المتمردين على تخزينها بين المدنيين داخل المجمعات السكنية، حيث تتم مراقبة تلك المواقع على الأرض، الأمر الذي تعمل عليه الميليشيات الحوثية في استخدام اليمنيين كدروع بشرية، من أجل تلافي ضربات قوات التحالف، ولكن دقة إصابة الهدف من قبل القوات الجوية، ونوعية الأسلحة المستخدمة، التي تقلل من المخاطر.
وقامت طائرات تحالف «عاصفة الحزم»، بعد أكثر من 2500 طلعة جوية، انطلقت من جميع القواعد العسكرية بالسعودية، وكذلك بعض القواعد العسكرية في دول التحالف، برصد تحركات الميليشيات الحوثية، وأعوان الرئيس المخلوع، الذين يتنقلون عبر الألوية العسكرية التي انشقت عن الشرعية اليمنية، بين المدن اليمنية في الشمال والجنوب، حيث اقترب عدد منها نحو مدينة عدن، في محاولة منهم إلى الدخول هناك، إلا أن طائرات التحالف، تصدت لهم، ووجهت لهم عددا من الضربات استهدفت عددا من الألوية العسكرية، خصوصا وأن بعضها كان يقترب من نحو باب المندب.شاركت القوات الجوية السعودية 100 طائرة مقاتلة، فيما شاركت القوات الإماراتية بـ30 طائرة مقاتلة، والقوات الكويتية 15 طائرة مقاتلة، وسلاح الجو الملكي البحريني 15 طائرة مقاتلة، والقوات الجوية القطرية 10 طائرات مقاتلة، وسلاح الجو الملكي الأردني 6 طائرات مقاتلة، والقوات الجوية المغربية 6 طائرات مقاتلة، والقوات الجوية المصرية 16 طائرة مقاتلة، والقوات البحرية المصرية 4 سفن حربية وفرقاطة بحرية، والقوات الجوية السودانية 3 طائرات حربية.
حاولت مجاميع حوثية التوجه إلى شمال اليمن، نحو الحدود السعودية الجنوبية، حيث جرى استهدافهم في الأيام الأول من العمليات «عاصفة الحزم»، ثم بدأت في مناوشات متفرقة على الحدود، حيث أطلق المتمردون صواريخ الهاون على رجال القوات البرية، وحرس الحدود السعودي، وجرى تحديد مصدر النيران، والرد عليهم بالمدافع، وطائرات «الأباتشي»، خصوصا وأن قوات التحالف، رصدت عددا من الميليشيات الحوثية، يقومون بحفر الخنادق من أجل التمركز فيها، وتخزين الأسلحة كذلك.
فشلت الميليشيات الحوثية، وأتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، في محاولة إطلاق صاروخ بالستي في ضواحي العاصمة صنعاء، حيث سقط نتيجة فشل في الإطلاق، وعلى الفور جرى توجيه المقاتلات التحالف إلى مكان الصاروخ، وتدميرها على الفور، خصوصا وأن عمليات التحالف ترصد باستمرار منصات صواريخ البالستية، لأن بعضها متخفية، والبعض تتنقل بين المدن، حيث نجحت المقاتلات التحالف في استهدافها.
وتمكنت قوات التحالف، من تأمين الموانئ اليمنية، ومن السيطرة عليها، وذلك بعد فرض حظر بحري على السفن التي تعبر مضيق باب المندب، حيث يجري عملية تفتيش لتلك السفن، للتأكد من سلامتها، لا سيما وأن المتمردين عملوا على نهب الوقود من الموانئ. وتحركت حينها عدد من السفن الإيرانية بالقرب من الموانئ اليمنية، وحذرت في حينها قوات التحالف، من أن أي محاولة لإمداد الحوثيين بالسلاح، سيتم اتخاذ اللازم بتوجيه الطائرات المقاتلة للتصدي لها. وفتحت دول قوات التحالف الأجواء اليمنية، لإجلاء الرعايا العالقين لبعض الدول في اليمن، حيث جرى تحديد لجنة مشكلة بقيادة وزارة الدفاع السعودي، لجدولة رحلات بعض الدول التي تقدمت بطلبات إجلاء الرعايا.
وحققت العملية العسكرية التي قادتها السعودية في اليمن أهدافها، وأصبحت بمثابة، مثالا لتحالفات عربية أخرى مستقبلا. ومع إعلان انتهاء عملية «عاصفة الحزم»، بدأت عملية جديدة اسمها «إعادة الأمل»، شريطة ألا يعني ذلك توقف استمرار العمليات العسكرية ضد الميليشيات الحوثية إذا تطلب الأمر، وتضمنت العملية تصدي قوات التحالف، تمدد نفوذ إيران في المنطقة التي أسهمت ودربت وسلحت ومولت عناصر الحوثيين في اليمن.
وأكدت قوات التحالف في حينها، أن مصير الحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله سيكون مثل المتمردين الحوثيين، في عمليات القصف الجوي التي تنفذها دول التحالف، في حال وجودهم بين صفوف الميليشيات الحوثية الذين يتلقون تدريباتهم من الإيرانيين واللبنانيين. وأوضح الدكتور علي القحطاني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الملك سعود لـ«الشرق الأوسط»، أن إنجازات عمليات تحالف «عاصفة الحزم»، كونت لدى السعودية القدرة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، على أخذ زمام المبادرة وموازنة الصعود الإيراني والتهديد الفارسي في المنطقة خلال الفترة الماضية، حيث بدأت السعودية تلعب دورًا، كان المأمل عليها في وقت سابق، إذ إن قرار تكوين التحالف بقيادة السعودية، هو شجاع، ويحسب للسياسة الخارجية السعودية، وكذلك المحلية. وقال الدكتور القحطاني، إن كل أفراد الشعب السعودي، اصطفوا خلف قرار القيادة وتكوين التحالف العربي، ليصب في مصلحة المملكة والعالم العربي والأمة الإسلامية في ظل تمدد الفارسي المتطرف، إذ إن تحالف «عاصفة الحزم» الذي استمر 27 يومًا، غير الكثير من قوى التوازن في الداخل اليمني، لصالح القوات التي تدعم الشرعية، وأصبحت المدن الشمالية والجنوبية في اليمن، في موقف الهجوم، وليس الدفاع بما كان عليه سابقًا.
وأضاف «بعد تدخل التحالف، استجابة لرسالة الرئيس اليمني لدول الخليج، غيرت المفاهيم، وأصبح وضع القوى السياسية اليمنية، ومفاوضاتهم مع الميليشيات الحوثية، أو أتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، ستكون من واقع قوة، من دون الرضوخ إلى تهديدات الحوثي وغيرهم».
وكان بريت ماجيريك، نائب المبعوث الأميركي لقوات التحالف، أكد مساندة الولايات المتحدة لجهود التحالف الذي تقوده السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ضد الحوثيين، مشيرا إلى أن واشنطن ستحارب بكل قوتها من يعتدي على السعودية. وقال ماجيريك إن «الحوثيين كانوا بتصرفاتهم السبب وراء التحرك العسكري ضدهم».
فيما دارت اتصالات واجتماعات سياسية على ضوء بدء العملية السياسية العسكرية، ابتداء من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي تلقى الكثير من الاتصالات من رؤساء قادة الدول التحالف، وغيرهم وكان آخرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وزار قادة وزراء الدفاع في دول التحالف، الرياض خلال عمليات «عاصفة الحزم»، والتقوا بالأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، وزير الدفاع السعودي، وتباحثوا حول مشاركة قوات التحالف في عملية رد العدوان ضد الميليشيات الحوثية.
انتصار مجلس الأمن
وصدر قرار مجلس الأمن رقم 2216 حول اليمن، بتأييد 14 عضوا بمجلس الأمن لصالحه وامتناع روسيا عند التصويت، بطلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من مجلس التعاون وجامعة الدول العربية التدخل العسكري لحماية اليمن من عدوان الحوثيين وإلى قرار مؤتمر القمة 26 لجامعة الدول العربية، الذي أكد على ضرورة استئناف عملية الانتقال السياسي بمشاركة جميع الأطراف اليمنية وفقا لمبادرة مجلس التعاون الخليجي، مع ضرورة الالتزام بوحدة اليمن وشرعية الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي ويكرر دعوته لكل الأطراف بالامتناع عن اتخاذ أي تدابير من شأنها تقويض وحدة اليمن ويعرب عن قلقه من تدهور الأوضاع الإنسانية وضرورة توصل المساعدات الإنسانية ويحذر من هجمات تنظيم القاعدة وقدرته على استغلال تدهور الأوضاع.
ويؤكد القرار على ضرورة العودة لتنفيذ مبادرة مجلس التعاون الخليجي وصياغة دستور جديد وتنظيم الانتخابات في اليمن، من دون التصعيد العسكري الذي يقوم به الحوثيون في محافظات تعز ومأرب والبيضاء واستيلائهم على الأسلحة بما في ذلك منظومات القذائف من المؤسسات العسكرية والأمنية اليمنية ويدين بأقوى العبارات الإجراءات الأحادية للحوثيين ويطالبهم بتنفيذ قرارات مجلس الأمن السابقة بسحب قواتهم والإفراج عن المعتقلين والتوقف عن تقويض عملية الانتقال السياسي في اليمن.
وتتضمن الشروط، الكف عن استخدام العنف، وسحب قواتهم من جميع المناطق التي استولوا عليها بما في ذلك العاصمة صنعاء، والتخلي عن جميع الأسلحة التي استولوا عليها من المؤسسات العسكرية والأمنية بما في ذلك منظومات القذائف، والتوقف عن جميع الأعمال التي تندرج ضمن نطاق سلطة الحكومة الشرعية، والامتناع عن الإتيان بأي استفزازات أو تهديدات للدول المجاورة، والإفراج عن وزير الدفاع محمود الصبيحي وعن جميع السجناء السياسيين وجميع الأشخاص رهن الإقامة الجبرية، وإنهاء تجنيد الأطفال وتسريح جميع الأطفال المجندين في صفوفهم.
فيما أكد الدكتور عبد الله العسكر، عضو مجلس الشورى السعودي لـ«الشرق الأوسط»، أن العملية السياسية مستمرة للأوضاع التي تعاني منها اليمن خصوصا بعد تدخل دول قوات التحالف في العملية العسكرية، مشيرًا إلى أن العملية السياسية ستتجه إلى أفق أوسع من ذلك، على أن تكون طاولة الحوار اليمنية اليمنية، تبدأ مما انتهت إليه، المبادرة الخليجية التي وقعت في الرياض، وكذلك الحوار الوطني اليمني.
وأضاف «عملية بدء الحوار، تجرنا إلى صراع، إذ إن إيران تريد أن تبدأ من الصفر في الحوار، لأن مصلحة اليمن والسلم، ليست من أولوياتها، بل يهمها زرع البذرة ونمو الميليشيات الحوثية فيها، وأن المنطقة ليست بحاجة إلى لبنان أخرى، وعلى الجميع إذا أرادوا الحوار، أن يتركوا السلاح قبل الجلوس على طاولة الحوار».
وأشار الدكتور العسكر إلى أن العملية السياسية، أصعب من العملية العسكرية التي تعرف متى تبدأ، ومتى تنتهي، حيث يبدو أن ما يجري على الأراضي اليمنية هو التحكم في اتجاهات السياسية، إذ إن هناك أطرافا محلية لها مصالح مثل الميليشيات الحوثية، وأتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، وكذلك الشرعية اليمنية المتنفذة في الحكومة والأحزاب السياسية، وهناك أطراف خليجية هم دول مجلس التعاون، وطرف إقليمي إيران، وكذلك دولي من حيث تحكم السفن في المضيق الحيوي الذي يعبر من خلاله 16 في المائة من نفط الخليج، فالعملية السياسية لن تأخذ مجراها الطبيعي، فينبغي أو يتوقع التحالف بأن الأرض لا تزال بين المقاومة والحوثيين، وسيحاول كل طرف الكسب أكثر كمية من الأرض بحيث إذا بدأت الحالة السياسية يكون له صوت أعلى بكثير.
وأضاف «استبق الدكتور رياض ياسين، وزير الخارجية اليمني المكلف، في تصريح له بأن الحكومة الشرعية تسيطر على 70 في المائة، وهو يحاول أن يستبق الأحداث، وهذا معناه أن الأطراف الأخرى الذين ثاروا على الشرعية، وحاولوا الاستيلاء على اليمن كلها، فقدوا الأرض ومن عليها من السكان ومن التأيد الشعبي، وبالتالي ضربة قوية ضد المتمردين».



إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)
TT

إضاءة على تراجع تأثير سياسة فرنسا الخارجية

جنود فرنسيون  في مالي (سلاح الجو الأميركي)
جنود فرنسيون في مالي (سلاح الجو الأميركي)

بعد عقود من الحضور القوي للدبلوماسية الفرنسية في العالم، ورؤية استراتيجية وُصفت «بالتميز» و«الانفرادية»، بدأ الحديث عن تراجع في النفوذ، بل وإخفاقات وانتكاسات، في خضم صراعات جيوسياسية متحركة وأجواء شديدة التأزم في أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط. ماذا، إذن، حلّ بالسياسة الخارجية الفرنسية التي كانت مشاركتها الفاعلة داخل المجتمع الدولي تعبيراً عن صوت «حر» غير منحاز حتى تتراجع بهذا الشكل؟

جرى الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية عن «تقليد للدبلوماسية الفرنسية» هو النهج الذي اختاره قادة فرنسا لإدارة علاقاتهم الخارجية مع دول العالم، ولقد اتسمّ هذا النهج بـ«الاتزان» و«التميز»، وكان بالفعل حاضراً بقوة في المحافل الدولية، وبالأخص، في قضايا الشرق الأوسط والعالم العربي.

نهجا ديغول وميتران

ذلك ما عُرف فيما بعد بـ«سياسة فرنسا العربية» التي رسم الرئيس التاريخي الأسبق الجنرال شارل ديغول ملامحها في خطاب نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 في أعقاب نكسة يونيو (حزيران) 1967، ومعها اعتمد ديغول أساساً الانفتاح على العالم العربي وتوطيد العلاقات بينه وبين فرنسا على مختلف الصعد.

في المقابل، منذ تلك الفترة طغى على العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية جو من البرود إلى غاية وصول اليسار إلى الحكم في حقبة الثمانينات، فيومذاك أعاد الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران «تفعيل العلاقات» عام 1982، منتهجاً سياسة أكثر انحيازاً لإسرائيل حتى لُقّب بـ«صديق إسرائيل الكبير».

ولاحقاً، كانت حادثة رشق الطلاب الفلسطينيين لرئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان بالحجارة عام 2000، بعد مشاهد الاستقبال الحار الذي لقيه الرئيس الراحل جاك شيراك في شوارع رام الله عام 1996، تجسيداً قوياً للاعتقاد السائد بأن اليمين الفرنسي أكثر مساندة وتأييد للمواقف العربية من اليسار.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون

ضعف الإرادة السياسية

هنا يوضح باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (إيريس) ومؤلف كتاب «هل يسُمح بانتقاد إسرائيل؟» الأمر، فيقول: «على الرغم مما قيل عن اليسار وزعيمه ميتران، الحقيقة هي أن الإرادة السياسية للتأثير في الأوضاع كانت قوية في تلك الفترة من تاريخ فرنسا». ويضيف: «علينا ألا ننسى أن زعيم الاشتراكيين كان أول من ذكّر في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1982 بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى استقباله الزعيم الراحل ياسر عرفات في باريس عام 1989».

وزيرة الخارجية الأسبق كاترين كولونا

لا فوارق ظاهرة اليوم

بونيفاس يتابع من ثم «اليوم لا نكاد نرى فارقاً بين اليمين التقليدي (الجمهوري أو الديغولي) واليسار الاشتراكي، علاوة على أن ديناميكية السياسة الداخلية تغيّرت بظهور حزب الرئيس إيمانويل ماكرون الذي يضم عناصر من اليمين واليسار والمجتمع المدني، ومعظمهم يفتقر إلى الخبرة السياسية، ناهيك عن ضعف الروح النقدية، بما في ذلك عند الجهات الفاعلة في الدبلوماسية... التي لم تعد تعبّر كما كان الوضع في الماضي عن مواقف فرنسا باعتبارها امتداداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان والحريات».

جدير بالذكر، أن الإعلام الفرنسي كان قد عّلق مطوّلاً على «تواضع الخبرة السياسة» لوزراء خارجية ماكرون، مثل ستيفان سيجورنيه، الذي فضح الإعلام أخطاءه اللغوية الكثيرة وقلة إتقانه اللغة الإنجليزية. وما يتّضح اليوم من خلال تداعيات العدوان على غزة ولبنان هو أن الأصوات التي تناهض العدوان على غزة ولبنان لا تنتمي إلى اليمين الجمهوري، بل إلى أقصى اليسار الذي نظّم حركات احتجاج واسعة في البرلمان والشارع للضغط على الرئيس ماكرون من أجل التدخل.

وزير الخارجية السابق ستيفان سيجورنيه

هذا الأمر أكدّه رونو جيرار، الإعلامي المختص في السياسة الخارجية، الذي ذكّر أن السياسة الخارجية الفرنسية «فقدت استقلاليتها وفرادتها مع الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي - وهو آخر من مثّل اليمين الجمهوري في السلطة –». ويشرح: «حصل هذا حين قرّر ساركوزي إعادة فرنسا إلى المنظمة العسكرية المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 2009، ثم المشاركة في التدخل العسكري في ليبيا. وكانت هاتان الخطوتان خطيئتين كبريين لأنهما وضعتا حداً للتقليد الديغولي الجمهوري الذي يقضي بأن تحترم فرنسا جميع التحالفات، لكن من دون التماهي مع الولايات المتحدة، ذلك ملخصه في العبارة الشهيرة (حليفة... ولكن غير منحازة)...».

وهنا يضيف الباحث توماس غومارت، مدير معهد العلاقات الدولية (إيفري): «لنكن واقعيين، صوتنا ما عاد مسموعاً كما كان الحال في السابق، والشعور بأن المجتمع الدولي عاجز أمام الهيمنة الأميركية ملأ النخب السياسة بالتشاؤم، وبالتالي غدت سبل الضغط المتاحة لدينا اليوم محدودة».

ماكرون: سياسة خارجية متناقضة...بالنسبة للرئيس ماكرون، فإنه فور وصوله إلى الحكم بدأ في تقديم الخطوط العريضة لسياسته الخارجية والتوجهات الجديدة للدبلوماسية الفرنسية، حين أجرى لقاءً صحافياً مع ثمانٍ من كبريات الجرائد والمجلات الأوروبية («لوفيغارو» الفرنسية، و«لوسوار» البلجيكية، و«لو تون» السويسرية، و«الغارديان» البريطانية، و«سودويتشه تسايتونغ» الألمانية، و«كورييري ديلا سيرا» الإيطالية، و«إل باييس» الإسبانية و«غازيتا فيبورتا» البولندية). وفي هذا اللقاء أكد ماكرون أن أولوية سياسته الخارجية محاربة «الإرهاب الإسلامي»، والتنسيق مع جميع القوى الكبرى من أجل ذلك.

وزير الخارجية الحالي جان نويل بارو

ثم، في جولته الأولى لأفريقيا أعلن في «خطاب واغادوغو» ببوركينا فاسو (مايو/أيار 2017) أن فرنسا ستسعى جاهدة للتعاون مع الدول الأفريقية في إطار شراكة متكافئة، كما ستكون حاضرة للمساهمة في السلام كـ«رمانة» لميزان القوى العالمية؛ ما رفع بعض الآمال في أن تكون الحقبة الرئاسية لماكرون أفضل من غيرها، لا سيما، وأن طبيعة الحكم (الرئاسي) في فرنسا تجعل من الرئيس المسؤول الأول والأخير عن السياسة الخارجية.

وحقاً، كثّف الرئيس الفرنسي من حراكه الدبلوماسي على مسارات عدة، كما ضاعف بكثير من الحماسة المبادرات والتصريحات الطموحة، لكنها بمعظمها كانت متناقضة، وتفتقد المنهجية والرؤية الواضحة... وفق بعض التقارير. جيرار جيرار (الإعلامي في «لوفيغارو») يعيد إلى الأذهان أن ماكرون كان متناقض المواقف في غير مناسبة، منها «حين حاول أولاً التفاوض مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين بخصوص الحرب في أوكرانيا، ثم تحوّل متبنياً لهجة عدائية صريحة إلى حد التهديد بإرسال قوات مسلّحة للدفاع عن أوكرانيا... ما أثار حفيظة الفرنسيين والشركاء الأوروبيين». وأردف جيرار: «وكأن هذا لم يكن كافياً، طلب الرئيس ماكرون المشاركة في قمة (بريكس) مع أن الكّل يعلم بأنها فكرة بوتين. فهل كان يعتقد فعلاً أن الدول التي تجمّعت في هذه المنظمة للتحّرر من الهيمنة الغربية تريد أن تلتقي به أو تصغي لما يقوله؟».

سياسة باريس الأفريقية

عودة إلى الشأن الأفريقي، بعد الآمال الكبيرة التي أثارها «خطاب واغادوغو» عام 2017 بتصحيح صورة «فرنسا الاستعمارية» والتعاون مع الأفارقة كشركاء، جاءت خيبات الأمل. ففي المغرب العربي، أولاً، فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر في سياق جيوسياسي كثير التقلبات. ثم مع باقي الدول فشلت أيضاً في التخلص من «صورة القوة الاستعمارية السابقة» بسبب أخطاء عدّة ارتكبها ماكرون، أولها احتكاره جميع ملفات السياسة الخارجية، وهو ما لخصّته مجلة الـ«موند أفريك» في مقال بعنوان «كاترين كولونا خيبة أمل أفريقية» بالعبارة التالية «للأسف السيدة كولونا ودبلوماسيوها لم يتمكنوا من التأثير بسبب قرارات الإليزيه العديمة المعنى...».

وهنا، كما ذكر أنطوان غلاسير، الباحث المختص في الشؤون الأفريقية، على موقعه على منّصة «يوتيوب»: «حين تولى ماكرون زمام السلطة، وعد الدول الأفريقية بقطيعة نهائية مع الماضي وبتوازن في العلاقات، لكن ما حدث وما قيل أكد استمرار الممارسات القديمة، بدايةً مع المماطلة في سحب الجيوش الفرنسية من مالي، ثم عبر التصريحات الاستفزازية بخصوص الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وأكثر منها... التلويح باستعمال قوات «الإيكواس/ السيدياو» (المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا) للتدخل في النيجر، ثم التراجع عن تلك التصريحات».

وحسب غلاسير، كان على ماكرون أن يلتزم الصمت: «فبأي صفة يقرّ ما هو شرعي وما هو غير شرعي؟». وكل هذه الأخطاء السياسية كرَّست الانحدار السياسي لماكرون وانكماش الدور الفرنسي في أفريقيا.

الشرق الأوسط: حصيلة هزيلة...

أما في الشرق الأوسط، وخلال ولايتين رئاسيتين وسبع سنوات من تولي ماكرون السلطة، ثمة شبه إجماع على أن الإخفاق كان سيد الموقف في مساعي السلام التي حاولت فرنسا إطلاقها والإشراف عليها.

في لبنان، الذي تجمعه بفرنسا روابط تاريخية وثقافية قوية، لم تكن الإرادة ولا حسن النية هما المشكلة عند ماكرون. إذ كان أول المسؤولين العالميين تحركاً، حين زار لبنان بعد تفجير ميناء بيروت عام 2022، ووعد بإصلاحات سياسية داخلية لإخراج البلاد من الأزمة، لكن وعوده لم تتجسد على أرض الواقع. وفي موضوع بعنوان «ماكرون مسؤول عن تدهور الاوضاع في لبنان» نقلت صحيفة «كورييه أنترناتيول» عن نظيرتها الأميركية «الفورين بوليسي» تحليلاً يقول التالي إن «إحجام فرنسا عن محاسبة النخب السياسية (اللبنانية) بحزم، والاكتفاء بمطالبتهم باتخاذ إجراءات كان تصرفاً ساذجاً بشكل مربك. فبعد أشهر طويلة من التهديد بفرض عقوبات على الشخصيات المسؤولة عن الجمود السياسي، أعلنت باريس أنها ستفرض قيوداً على دخول الأراضي الفرنسية، لكنها كانت خفيفة جداً لدرجة انها لم تؤثر على أحد».

وبالفعل، لم تتمكّن فرنسا - السلطة الانتدابية السابقة في لبنان - من تحقيق أي اختراق على خط أزمات البلد الذي يعاني انقسامات سياسية وطائفية عميقة حالت حتى الآن دون انتخاب رئيس للجمهورية على الرغم من شغور المنصب منذ سنتين.

وللعلم، كانت تقارير إعلامية كثيرة قد نشرت شهادات لمقرّبين من محيط جان إيف لودريان، المبعوث الخاص للبنان، دافعوا فيها عن نشاطه وتنقلاته الستّة إلى بيروت، بحجة «أن الدبلوماسية تتطلب وقتاً»، وأن النتائج كانت ستظهر لولا ظروف الحرب في غزة التي خلطت كل الأوراق. والمصادر ذاتها لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى الأطراف اللبنانية، معتبرة أن «الجمود السياسي مسؤولية اللبنانيين».

أيضاً، انتقدت أنياس لوفالوا، الباحثة في معهد الأبحاث والدراسات حول دول المتوسط والشرق الأوسط، «عجز الدبلوماسية الفرنسية عن إسماع صوتها مقابل تنامي النفوذ الأميركي في بلاد الأرز». ورأت أن السبب يعود إلى المنهجية التي يتبعها ماكرون الذي احتكر منذ البداية كل الملفات، ثم ضاع في تفاصيلها بسبب نزعته إلى السيطرة على كل شيء ورفضه الاستعانة بخبرة الدبلوماسيين المحنّكين.

الموقف الفرنسي من العدوان على غزة أيضاً اتسم بالعديد من التناقضات. وبعدما ظّل في حالة جمود لأشهر طويلة رغم مشاهد القتل والدمار، تحرّك في الأسابيع الأخيرة بعد سلسلة من التصريحات أطلقها الرئيس ماكرون نتجت منها مشاحنات كلامية شديدة اللّهجة بينه وبين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو انتهت بتحميل ماكرون مسؤولية التصريحات لبعض الوزراء «الذين نقلوا تصريحات مزيفة...» و«لصحافيين كرّروها دون أن يتأكدوا من صحتّها...». هذا الموقف الذي اعتبره البعض تهرّباً من المواجهة يعكس العجز التي يميز حالياً الموقف الفرنسي. وهنا، تمنى السفير السابق جيرار آرو لو أن ماكرون «التزم الصمت... أو التكلم بالتنسيق مع الشركاء الأوربيين كي يكون لمبادرته تأثير أكبر».

«صورة فرنسا»... مشكلة!

في أي حال، يرى رونو جيرار أن صوت فرنسا ما عاد مسموعاً في المحافل الدولية «لأنها لم تعد تثير الإعجاب، ولم تعد ذلك النموذج الذي يعكس الإشعاع الثقافي والتطور الاقتصادي وحقوق الإنسان». ويشرح على صفحات مجلة «كونفلي جيو بوليتك» قائلاً: «عندما تكون فرنسا وراء فكرة معايير ماستريخت بينما تعُد أكثر من 3000 مليار يورو من الديون و5 ملايين عاطل عن العمل، فلن يكون لصوتها تأثير كبير... نحن البلد الأوروبي الذي فيه أعلى نسبة ضرائب حكوماته لم تعد قادرة على توفير الحّد الأدنى لمواطنيها». ثم يذكّر بأن شارل ديغول اهتم أولاً بأوضاع فرنسا الداخلية، وبالأخص الوضع الاقتصادي، قبل أن يبدأ جولته الأولى خارج البلد عام 1964.

أما السفيرة السابقة سيلفي بيرمان، فرأت خلال حوار مع «لو فيغارو»، تحت عنوان «هل ما زالت فرنسا تملك الأدوات لتحقيق طموحها؟»، أن التوتر السياسي الداخلي أثَّر سلباً على صورة فرنسا في العالم. وأعطت الاحتجاجات الشعبية والإضرابات المتواصلة العالم الانطباع بأننا فقدنا السيطرة على الأوضاع، فكيف نقنع غيرنا إن لم نعد نمثل القدوة الحسنة؟ في المغرب العربي فشلت فرنسا في الحفاظ على علاقات متوازنة بين الرباط والجزائر