حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا

2500 طلعة جوية كسرت شوكة الحوثيين وأعادت «الأمل» إلى اليمنيين.. والتوازن الإقليمي في المنطقة

حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا
TT

حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا

حصاد «الحزم».. نجاحات استراتيجية ودبلوماسية واقتصادية في 27 يومًا

كان اليمن ينحدر نحو الهاوية بسرعة فائقة.. الحوثيون يبتلعون المدن والمحافظات الواحدة تلو الأخرى.. ليفرضوا بقوة السلاح توجهات الفصيل الواحد، بدعم وتواطؤ مع الرئيس السابق المخلوع علي عبد الله صالح، وبدعم من قوة إقليمية تحاول بث الصراع والعنف في الإقليم، هي إيران. لم يكتف الحوثي بالانقلاب على الشرعية، بالاستيلاء على صنعاء مركز السلطة، في سبتمبر (أيلول) الماضي، وخروج الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي، من قصره متخفيا إلى عدن، بل تسارعت خطواتهم لابتلاع اليمن، وتحركهم نحو العاصمة الثانية التي اتخذها هادي مقرا جديدا. لكن الأمور بدأت تتغير كثيرا في اتجاه عودة الشرعية، بعد رسالة وجهها الرئيس هادي إلى السعودية وقادة الخليج طالبا فيها التدخل لحماية اليمن، وسرعان ما جاء الرد عاجلا بإطلاق عاصفة الحزم في 26 مارس 2015. وتمكنت مقاتلات التحالف العربي التي تشكلت على عجل من السعودية والإمارات والكويت والبحرين وقطر والأردن والسودان ومصر والمغرب من السيطرة على الأجواء اليمنية خلال 15 دقيقة، إضافة إلى تأمين الحدود السعودية الجنوبية، وكذلك الموانئ اليمنية، عبر السفن السعودية والمصرية.
كانت البداية رسالة من الرئيس هادي، إلى قادة دول الخليج، يستنجد فيها بالتدخل العسكري من خلال قوات «درع الجزيرة» إلى المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، وأتباع الرئيس المخلوع صالح، وكذلك تصريح من الأمير سعود الفيصل، وزير الخارجية السعودية، خلال اجتماعه مع نظيره البريطاني فيليب هاموند في الرياض، يشير فيه إلى أن الرئيس اليمني يستطيع تنفيذ المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تعطي الدولة الحق في الدفاع عن نفسها في حال تدخل عسكري فيها. كلها دلائل تشير إلى بداية حملة عسكرية لحماية الشرعية والشعب اليمني من عدوان الحوثي وأعوانه. وكان اجتماع القيادات الخليجية في قصر العوجا بالرياض، قبل انطلاق عاصفة الحزم بأسبوع واحد، بمثابة اجتماع حرب.
وخلال 27 يوما حققت دول «عاصفة الحزم»، نتائج عسكرية باهرة على الأرض، واستطاعت شل حركة المتمردين، وقطع إمدادات السلاح والنفط التي تردهم من إيران، خصوصا بعد استيلائهم على القواعد العسكرية والطائرات الحربية، والصواريخ البالستية التي زودتهم بها طهران، عبر الموانئ البحرية، و14 رحلة جوية بين اليمن وإيران، جرى التوقيع عليها قبل الحرب بنحو شهر واحد. كما حققت نجاحات سياسية بتأييد قادة العالم للحملة وعلى رأسهم الرئيس الأميركي باراك أوباما، ونجاحات دبلوماسية بتأييد مجلس الأمن لعاصفة الحزم، ومنحها الشرعية من خلال إصدار قرار دولي تحت الفصل السابع يطالب الحوثيين بإعادة الشرعية للرئيس اليمني الشرعي، في مهلة محددة، قبل أن تطلق الحملة الاقتصادية «عاصفة الأمل» من أجل النهوض بالاقتصاد اليمني وإغاثة المنكوبين.
النجاحات العسكرية
واستعادة قاعدة العند
ركز تحالف «عاصفة الحزم» منذ الساعات الأولى من بدء الحملة الجوية، على استهداف مدرج القواعد العسكرية، مثل قاعدة العند التي كانت الميليشيات الحوثية تسيطر عليها خلال الفترة الماضية، وذلك لمنع استخدامها، وقطع الطريق بين صعدة وصنعاء، من خلال استهداف أحد الجسور البرية، التي يستخدمها المتمردون خلال نقلها منصات صواريخ باليستية وعربات تموين، حيث حصلت القوات الجوية السعودية التي شاركت في الطلعات الأولى، على سيطرة جوية مطلقة وبدأت في تنفيذ جميع العمليات، إذ إن أي عملية جوية تتكون من عدد كبير من الطائرات منها الهجومية ومنها التزود بالوقود وطائرات الإنذار المبكر ومنها طائرات الاستطلاع والبحث والإنقاذ. ونجحت العاصفة في استعادة العند.
وحرص قوات التحالف، في المقام الأول على سلامة المواطنين اليمنيين، من دون أن يصاب أي أحد بأذى، إذ إن هناك عددا من المواقع مثل صواريخ البالستية، ومخزن أسلحة، عمل المتمردين على تخزينها بين المدنيين داخل المجمعات السكنية، حيث تتم مراقبة تلك المواقع على الأرض، الأمر الذي تعمل عليه الميليشيات الحوثية في استخدام اليمنيين كدروع بشرية، من أجل تلافي ضربات قوات التحالف، ولكن دقة إصابة الهدف من قبل القوات الجوية، ونوعية الأسلحة المستخدمة، التي تقلل من المخاطر.
وقامت طائرات تحالف «عاصفة الحزم»، بعد أكثر من 2500 طلعة جوية، انطلقت من جميع القواعد العسكرية بالسعودية، وكذلك بعض القواعد العسكرية في دول التحالف، برصد تحركات الميليشيات الحوثية، وأعوان الرئيس المخلوع، الذين يتنقلون عبر الألوية العسكرية التي انشقت عن الشرعية اليمنية، بين المدن اليمنية في الشمال والجنوب، حيث اقترب عدد منها نحو مدينة عدن، في محاولة منهم إلى الدخول هناك، إلا أن طائرات التحالف، تصدت لهم، ووجهت لهم عددا من الضربات استهدفت عددا من الألوية العسكرية، خصوصا وأن بعضها كان يقترب من نحو باب المندب.شاركت القوات الجوية السعودية 100 طائرة مقاتلة، فيما شاركت القوات الإماراتية بـ30 طائرة مقاتلة، والقوات الكويتية 15 طائرة مقاتلة، وسلاح الجو الملكي البحريني 15 طائرة مقاتلة، والقوات الجوية القطرية 10 طائرات مقاتلة، وسلاح الجو الملكي الأردني 6 طائرات مقاتلة، والقوات الجوية المغربية 6 طائرات مقاتلة، والقوات الجوية المصرية 16 طائرة مقاتلة، والقوات البحرية المصرية 4 سفن حربية وفرقاطة بحرية، والقوات الجوية السودانية 3 طائرات حربية.
حاولت مجاميع حوثية التوجه إلى شمال اليمن، نحو الحدود السعودية الجنوبية، حيث جرى استهدافهم في الأيام الأول من العمليات «عاصفة الحزم»، ثم بدأت في مناوشات متفرقة على الحدود، حيث أطلق المتمردون صواريخ الهاون على رجال القوات البرية، وحرس الحدود السعودي، وجرى تحديد مصدر النيران، والرد عليهم بالمدافع، وطائرات «الأباتشي»، خصوصا وأن قوات التحالف، رصدت عددا من الميليشيات الحوثية، يقومون بحفر الخنادق من أجل التمركز فيها، وتخزين الأسلحة كذلك.
فشلت الميليشيات الحوثية، وأتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، في محاولة إطلاق صاروخ بالستي في ضواحي العاصمة صنعاء، حيث سقط نتيجة فشل في الإطلاق، وعلى الفور جرى توجيه المقاتلات التحالف إلى مكان الصاروخ، وتدميرها على الفور، خصوصا وأن عمليات التحالف ترصد باستمرار منصات صواريخ البالستية، لأن بعضها متخفية، والبعض تتنقل بين المدن، حيث نجحت المقاتلات التحالف في استهدافها.
وتمكنت قوات التحالف، من تأمين الموانئ اليمنية، ومن السيطرة عليها، وذلك بعد فرض حظر بحري على السفن التي تعبر مضيق باب المندب، حيث يجري عملية تفتيش لتلك السفن، للتأكد من سلامتها، لا سيما وأن المتمردين عملوا على نهب الوقود من الموانئ. وتحركت حينها عدد من السفن الإيرانية بالقرب من الموانئ اليمنية، وحذرت في حينها قوات التحالف، من أن أي محاولة لإمداد الحوثيين بالسلاح، سيتم اتخاذ اللازم بتوجيه الطائرات المقاتلة للتصدي لها. وفتحت دول قوات التحالف الأجواء اليمنية، لإجلاء الرعايا العالقين لبعض الدول في اليمن، حيث جرى تحديد لجنة مشكلة بقيادة وزارة الدفاع السعودي، لجدولة رحلات بعض الدول التي تقدمت بطلبات إجلاء الرعايا.
وحققت العملية العسكرية التي قادتها السعودية في اليمن أهدافها، وأصبحت بمثابة، مثالا لتحالفات عربية أخرى مستقبلا. ومع إعلان انتهاء عملية «عاصفة الحزم»، بدأت عملية جديدة اسمها «إعادة الأمل»، شريطة ألا يعني ذلك توقف استمرار العمليات العسكرية ضد الميليشيات الحوثية إذا تطلب الأمر، وتضمنت العملية تصدي قوات التحالف، تمدد نفوذ إيران في المنطقة التي أسهمت ودربت وسلحت ومولت عناصر الحوثيين في اليمن.
وأكدت قوات التحالف في حينها، أن مصير الحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله سيكون مثل المتمردين الحوثيين، في عمليات القصف الجوي التي تنفذها دول التحالف، في حال وجودهم بين صفوف الميليشيات الحوثية الذين يتلقون تدريباتهم من الإيرانيين واللبنانيين. وأوضح الدكتور علي القحطاني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الملك سعود لـ«الشرق الأوسط»، أن إنجازات عمليات تحالف «عاصفة الحزم»، كونت لدى السعودية القدرة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، على أخذ زمام المبادرة وموازنة الصعود الإيراني والتهديد الفارسي في المنطقة خلال الفترة الماضية، حيث بدأت السعودية تلعب دورًا، كان المأمل عليها في وقت سابق، إذ إن قرار تكوين التحالف بقيادة السعودية، هو شجاع، ويحسب للسياسة الخارجية السعودية، وكذلك المحلية. وقال الدكتور القحطاني، إن كل أفراد الشعب السعودي، اصطفوا خلف قرار القيادة وتكوين التحالف العربي، ليصب في مصلحة المملكة والعالم العربي والأمة الإسلامية في ظل تمدد الفارسي المتطرف، إذ إن تحالف «عاصفة الحزم» الذي استمر 27 يومًا، غير الكثير من قوى التوازن في الداخل اليمني، لصالح القوات التي تدعم الشرعية، وأصبحت المدن الشمالية والجنوبية في اليمن، في موقف الهجوم، وليس الدفاع بما كان عليه سابقًا.
وأضاف «بعد تدخل التحالف، استجابة لرسالة الرئيس اليمني لدول الخليج، غيرت المفاهيم، وأصبح وضع القوى السياسية اليمنية، ومفاوضاتهم مع الميليشيات الحوثية، أو أتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، ستكون من واقع قوة، من دون الرضوخ إلى تهديدات الحوثي وغيرهم».
وكان بريت ماجيريك، نائب المبعوث الأميركي لقوات التحالف، أكد مساندة الولايات المتحدة لجهود التحالف الذي تقوده السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ضد الحوثيين، مشيرا إلى أن واشنطن ستحارب بكل قوتها من يعتدي على السعودية. وقال ماجيريك إن «الحوثيين كانوا بتصرفاتهم السبب وراء التحرك العسكري ضدهم».
فيما دارت اتصالات واجتماعات سياسية على ضوء بدء العملية السياسية العسكرية، ابتداء من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي تلقى الكثير من الاتصالات من رؤساء قادة الدول التحالف، وغيرهم وكان آخرها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وزار قادة وزراء الدفاع في دول التحالف، الرياض خلال عمليات «عاصفة الحزم»، والتقوا بالأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، وزير الدفاع السعودي، وتباحثوا حول مشاركة قوات التحالف في عملية رد العدوان ضد الميليشيات الحوثية.
انتصار مجلس الأمن
وصدر قرار مجلس الأمن رقم 2216 حول اليمن، بتأييد 14 عضوا بمجلس الأمن لصالحه وامتناع روسيا عند التصويت، بطلب الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي من مجلس التعاون وجامعة الدول العربية التدخل العسكري لحماية اليمن من عدوان الحوثيين وإلى قرار مؤتمر القمة 26 لجامعة الدول العربية، الذي أكد على ضرورة استئناف عملية الانتقال السياسي بمشاركة جميع الأطراف اليمنية وفقا لمبادرة مجلس التعاون الخليجي، مع ضرورة الالتزام بوحدة اليمن وشرعية الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي ويكرر دعوته لكل الأطراف بالامتناع عن اتخاذ أي تدابير من شأنها تقويض وحدة اليمن ويعرب عن قلقه من تدهور الأوضاع الإنسانية وضرورة توصل المساعدات الإنسانية ويحذر من هجمات تنظيم القاعدة وقدرته على استغلال تدهور الأوضاع.
ويؤكد القرار على ضرورة العودة لتنفيذ مبادرة مجلس التعاون الخليجي وصياغة دستور جديد وتنظيم الانتخابات في اليمن، من دون التصعيد العسكري الذي يقوم به الحوثيون في محافظات تعز ومأرب والبيضاء واستيلائهم على الأسلحة بما في ذلك منظومات القذائف من المؤسسات العسكرية والأمنية اليمنية ويدين بأقوى العبارات الإجراءات الأحادية للحوثيين ويطالبهم بتنفيذ قرارات مجلس الأمن السابقة بسحب قواتهم والإفراج عن المعتقلين والتوقف عن تقويض عملية الانتقال السياسي في اليمن.
وتتضمن الشروط، الكف عن استخدام العنف، وسحب قواتهم من جميع المناطق التي استولوا عليها بما في ذلك العاصمة صنعاء، والتخلي عن جميع الأسلحة التي استولوا عليها من المؤسسات العسكرية والأمنية بما في ذلك منظومات القذائف، والتوقف عن جميع الأعمال التي تندرج ضمن نطاق سلطة الحكومة الشرعية، والامتناع عن الإتيان بأي استفزازات أو تهديدات للدول المجاورة، والإفراج عن وزير الدفاع محمود الصبيحي وعن جميع السجناء السياسيين وجميع الأشخاص رهن الإقامة الجبرية، وإنهاء تجنيد الأطفال وتسريح جميع الأطفال المجندين في صفوفهم.
فيما أكد الدكتور عبد الله العسكر، عضو مجلس الشورى السعودي لـ«الشرق الأوسط»، أن العملية السياسية مستمرة للأوضاع التي تعاني منها اليمن خصوصا بعد تدخل دول قوات التحالف في العملية العسكرية، مشيرًا إلى أن العملية السياسية ستتجه إلى أفق أوسع من ذلك، على أن تكون طاولة الحوار اليمنية اليمنية، تبدأ مما انتهت إليه، المبادرة الخليجية التي وقعت في الرياض، وكذلك الحوار الوطني اليمني.
وأضاف «عملية بدء الحوار، تجرنا إلى صراع، إذ إن إيران تريد أن تبدأ من الصفر في الحوار، لأن مصلحة اليمن والسلم، ليست من أولوياتها، بل يهمها زرع البذرة ونمو الميليشيات الحوثية فيها، وأن المنطقة ليست بحاجة إلى لبنان أخرى، وعلى الجميع إذا أرادوا الحوار، أن يتركوا السلاح قبل الجلوس على طاولة الحوار».
وأشار الدكتور العسكر إلى أن العملية السياسية، أصعب من العملية العسكرية التي تعرف متى تبدأ، ومتى تنتهي، حيث يبدو أن ما يجري على الأراضي اليمنية هو التحكم في اتجاهات السياسية، إذ إن هناك أطرافا محلية لها مصالح مثل الميليشيات الحوثية، وأتباع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، وكذلك الشرعية اليمنية المتنفذة في الحكومة والأحزاب السياسية، وهناك أطراف خليجية هم دول مجلس التعاون، وطرف إقليمي إيران، وكذلك دولي من حيث تحكم السفن في المضيق الحيوي الذي يعبر من خلاله 16 في المائة من نفط الخليج، فالعملية السياسية لن تأخذ مجراها الطبيعي، فينبغي أو يتوقع التحالف بأن الأرض لا تزال بين المقاومة والحوثيين، وسيحاول كل طرف الكسب أكثر كمية من الأرض بحيث إذا بدأت الحالة السياسية يكون له صوت أعلى بكثير.
وأضاف «استبق الدكتور رياض ياسين، وزير الخارجية اليمني المكلف، في تصريح له بأن الحكومة الشرعية تسيطر على 70 في المائة، وهو يحاول أن يستبق الأحداث، وهذا معناه أن الأطراف الأخرى الذين ثاروا على الشرعية، وحاولوا الاستيلاء على اليمن كلها، فقدوا الأرض ومن عليها من السكان ومن التأيد الشعبي، وبالتالي ضربة قوية ضد المتمردين».



رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
TT

رؤساء لبنان تفرضهم المتغيّرات الإقليمية

 جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)
جوزيف عون ... رئيساً (رويترز)

لم يكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية في لبنان بعد أكثر من سنتين على الشغور ليحصل راهناً لولا المتغيرات الكبرى التي شهدتها المنطقة منذ سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ إن «الثنائي الشيعي»، المتمثل في حركة «أمل» و«حزب الله»، تمسّك بمرشحه رئيس تيار «المرَدة»، سليمان فرنجية، طوال الفترة الماضية، بينما امتنع رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، وزعيم «أمل»، عن الدعوة لأي جلسة انتخاب لعام كامل رابطاً أي جلسة جديدة بحوار وتفاهم مسبق. غير أن الوضع تغيّر، عندما ترك «الثنائي» تشدده الرئاسي جانباً بعد الحرب القاسية التي شنتها إسرائيل على «حزب الله»، وأدت لتقليص قدراته العسكرية إلى حد كبير، كما حيدّت قادته الأساسيين وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصر الله. ثم أتى سقوط نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الحليف الأساسي لـ«حزب الله» وإيران ليقطع «طريق طهران - بيروت» التي كانت الطريق الوحيدة لإمداد الحزب برّاً بالسلاح والعتاد، ليؤكد أن النفوذ الإيراني في المنطقة اندحر... ما اضطر حلفاء طهران في بيروت إلى إعادة حساباتهم السياسية. ولعل أول ما خلُصت إليه حساباتهم الجديدة، التعاون لانتخاب قائد الجيش، المدعوم دولياً، رئيساً للبلاد.

لدى مراجعة تاريخ لبنان المستقل، يتبيّن أن التدخل الخارجي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية ليس أمراً طارئاً على الحياة السياسية في البلاد، بل هو طبع كل المسار التاريخي للاستحقاقات الرئاسية اللبنانية.

ويشير جورج غانم، الكاتب السياسي الذي واكب عن كثب الأحداث اللبنانية، إلى أن «الخارج، منذ أيام بشارة الخوري، الرئيس الأول بعد استقلال لبنان عام 1943، كانت له الكلمة الأساسية في اختيار الرؤساء في لبنان وفرضهم. ويضيف: «الانتخابات لا تحصل بتوافقات داخلية... بل يبصم مجلس النواب على قرارات خارجية».

ويشرح أن الخوري انتُخب في مرحلة كان فيها التنافس البريطاني الفرنسي في أوجه، وكان البريطانيون يحاولون جاهدين وضع حد لنفوذ باريس في المشرق. ولذا، تعاونوا مع «الكتلة الوطنية» في سوريا والحكم الهاشمي في العراق والحكم في مصر ومع «الكتلة الدستورية» في لبنان، عندما كانت المنافسة على الرئاسة الأولى محتدمة بين إميل إده المدعوم فرنسياً، وبشارة الخوري المدعوم بريطانياً ومن حلفائهم العرب، وبما أن فرنسا كانت دولة محتلة وخسرت الحرب، نجح المرشح الرئاسي اللبناني الذي يريده البريطانيون الذين سيطروا يومذاك على منطقة الشرق الأوسط.

انتخاب كميل شمعون

ويلفت غانم، الذي حاورته «الشرق الأوسط»، إلى أنه بعد هزيمة الجيوش العربية في «حرب فلسطين» عام 1948، برز تنافس أميركي - بريطاني للسيطرة على المنطقة، فبدأت تسقط أنظمة سواء في مصر أو سوريا، وتبلور محور مصري - سعودي في وجه محور أردني - عراقي مدعوم بريطانياً. وفي ظل الاضطرابات التي كانت تشهدها المنطقة وإصرار الخوري على الحياد في التعامل مع سياسة الأحلاف، سقط الخوري، وانتُخب كميل شمعون بدعم بريطاني - عربي، وتحديداً أردني - عراقي. ومن ثَمَّ، إثر انكفاء بريطانيا بعد «حرب السويس» عام 1956، دخلت الولايات المتحدة في منافسة شرسة مع الاتحاد السوفياتي. وفي تلك الفترة كانت الموجة الناصرية كاسحة ما جعل شمعون يواجه بثورة كبيرة انتهت بتفاهم مصري - أميركي على انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً.

من فؤاد شهاب... إلى سليمان فرنجية

الواقع أن شهاب انتُخب عام 1958 بتوافق مصري - أميركي نشأ بعد انكفاء البريطانيين ونضوج التنافس الأميركي - السوفياتي وصولاً إلى عام 1964. عند هذه المحطة حين انتُخب شارل حلو، المحسوب أساساً على «الشهابيين»، رئيساً، في المناخ نفسه، ولكن هذه المرة برضىً فاتيكاني - فرنسي مع نفوذ مستمر أميركي - مصري.

ويضيف غانم: «بعد حرب 1967 انكفأت (الناصرية) وضعُفت (الشهابية) وانتشر العمل الفدائي الفلسطيني... وتلقائياً قوِيَ الحلف المسيحي في لبنان المدعوم غربياً، وفي ظل حضور فاقع لإسرائيل في المنطقة. وبعد اكتساح «الحلف الثلاثي» الماروني اليميني السواد الأعظم من المناطق المسيحية في الانتخابات، جاء انتخاب سليمان فرنجية عام 1970، بفارق صوت واحد، تعبيراً عن هذا المناخ وعن ميزان القوى الجديد في المنطقة».

الاجتياح الإسرائيلي و«اتفاق 71 أيار

ويتابع جورج غانم سرده ليقول: «انتخاب إلياس سركيس رئيساً عام 1976 جاء بتفاهم سوري - أميركي حين كان النفوذ والدور السوريين يومذاك في أوجه... وقد دخلت حينها قوات الردع السورية والعربية إلى لبنان». أما انتخاب بشير الجميل عام 1982 فأتى بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان وفي ظل دعم أميركي وأطلسي مطلق. وانسحب هذا المناخ على انتخاب أمين الجميل مع فارق وحيد هو أن المسلمين المعتدلين في لبنان الذين لم يؤيدوا بشير، أيدوا انتخاب شقيقه أمين.

لاحقاً، عام 1984، حصلت «انتفاضة 6 شباط» الإسلامية، فتراجعت إسرائيل وألغي «اتفاق 17 أيار» الذي فرضته تل أبيب بالقوة. وهكذا، بحلول عام 1988 لم يكن ميزان القوى المرتبك يسمح بانتخاب رئيس للبنان، فكانت النتيجة الشغور الرئاسي الذي استمر لمدة سنتين تخللتهما «حرب التحرير» والحرب بين الجيش و«القوات اللبنانية»... وانتهى بتوقيع «اتفاق الوفاق الوطني في الطائف» عام 1989، وهو اتفاق عربي - دولي أنتج انتخاب رينيه معوض، ثم مباشرة بعد اغتياله، انتخاب إلياس الهراوي. وظل لبنان يعيش في ظل هيمنة سورية، شهدت انتخاب العماد إميل لحود عام 1998 وتمديد ولايته حتى عام 2007.

ميشال سليمان وميشال عون

ويتابع جورج غانم السرد فيشير إلى أنه «في عام 2004، وبعد اجتياح العراق قامت معادلة جديدة في المنطقة، فتمدّدت إيران إلى العراق وازداد نفوذ (حزب الله) في لبنان، وخصوصاً بعد انسحاب الجيش السوري عام 2005»، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. ومع انتهاء ولاية إميل لحود الثانية، لم يتمكن اللبنانيون من انتخاب رئيس حتى عام 2008 حين كان هناك صعود قطري - تركي في المنطقة. وهكذا، جاء «اتفاق الدوحة» الذي أوصل العماد ميشال سليمان إلى سدة الرئاسة بموافقة سعودية - مصرية بعد «أحداث 7 مايو/ أيار» التي كرّست نفوذ «حزب الله».

وأردف: «لكن اتفاق الدوحة سقط عام 2011 بعدما اندلعت الأزمة السورية، فضرب الشلل عهد الرئيس سليمان، وقد سلّم قصر بعبدا للفراغ عام 2014. وفي ظل التوازن السلبي الذي كان قائماً حينذاك، عاش لبنان فراغاً رئاسياً ثانياً طال لسنتين ونصف السنة في أعقاب تمسك (حزب الله) بمرشحه العماد ميشال عون. ولم تتغير التوازنات إلا بعد وصول الجيش الروسي إلى سوريا عام 2015، و(تفاهم معراب) بين عون ورئيس حزب (القوات اللبنانية) سمير جعجع، وأيضاً تفاهم عون مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري. وكانت هذه التفاهمات قد تزامنت مع حياد أميركي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران وعشية انتهاء ولاية الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما... ما أدى إلى انتخاب عون رئيساً عام 2016».

غانم يلفت هنا إلى أنه «مع انطلاق عهد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بدأ التشدد تجاه إيران والتصعيد ضد (حزب الله)، ولذا بدأ عهد عون يخبو... حتى بدأ يحتضر مع أحداث 17 أكتوبر 2019». ثم يضيف: «ومع انتهاء ولاية عون ترسّخ توازن سلبي بين (حزب الله) وحلفائه من جهة، والقوى المناوئة له من جهة أخرى، الأمر الذي منع انتخاب رئيس خلال العامين الماضيين. لكن هذا التوازن انكسر بالأمس لصالح خصوم إيران السياسيين، وهكذا أمكن انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً جديداً للبلاد».

جوزيف عون

البرلمان اللبناني انتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي بـ99 صوتاً من أصل 128 بعد سنتين وشهرين وعشرة أيام من الفراغ الرئاسي. وحمل «خطاب القسم» الذي ألقاه الرئيس المنتخب عون مضامين لافتة، أبرزها: تأكيده «التزام لبنان الحياد الإيجابي»، وتجاهله عبارة «المقاومة»، خلافاً للخطابات التي طبعت العهود السابقة. كذلك كان لافتاً تأكيده العمل على «تثبيت حق الدولة في احتكار حمل السلاح». ولقد تعهد عون الذي لاقى انتخابه ترحيباً دولياً وعربياً، أن تبدأ مع انتخابه «مرحلة جديدة من تاريخ لبنان»، والعمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للبنان.

خشّان: كل رؤساء لبنان يأتون بقرار خارجي ويكتفي البرلمان بالتصديق عليهم

دولة ناعمة

الدكتور هلال خشّان، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، رأى في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ليس خافياً على أحد أن «كل الرؤساء في لبنان يأتون بقرار خارجي، ويكتفي البرلمان اللبناني بالتصديق على هذا القرار بعملية انتخابهم»، ويضيف أن «لبنان عبارة عن دولة ناعمة تعتمد على الخارج، وهي مكوّنة من مجموعة طوائف تحتمي بدول عربية وغربية».

وتابع خشّان أن «مفهوم الدولة ركيك وضعيف في لبنان، والقسم الأكبر من اللبنانيين لا يشعرون بالانتماء للبلد. والمستغرب هنا انتخاب رئيس من دون تدخلات خارجية وليس العكس... لأنه واقع قائم منذ الاستقلال». ويشرح: «فرنسا كانت للموازنة الأم الحنون، والسُّنّة كانوا يرون مرجعيتهم جمال عبد الناصر ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومن ثم المملكة العربية السعودية. أما الشيعة فمرجعيتهم الأساسية إيران».

هزيمة «حزب الله»

وفق خشّان، «هزيمة (حزب الله) العسكرية نتج عنها هزيمة سياسية، وخصوصاً بعد سقوط نظام الأسد وفصل لبنان عن إيران جغرافياً، أضف إلى ذلك أن الحزب يتوق إلى إعادة إعمار مناطقه المدمّرة، ويدرك أنه لا يستطيع ذلك دون مساعدة خارجية... لقد استدارت البوصلة اللبنانية 180 درجة نحو أميركا ودول الخليج، كما سيكون هناك دور أساسي تلعبه سوريا، تحت قيادتها الجديدة، في المرحلة المقبلة».

وهنا تجدر الإشارة، إلى أن لبنان شهد منذ 17 سبتمبر (أيلول) الماضي تطوّرات وأحداثاً استثنائية قلبت المشهد فيه رأساً على عقب. وبدأ كل شيء حين فجّرت إسرائيل أجهزة «البيجر» بعناصر وقياديي «حزب الله» ما أدى إلى قتل وإصابة المئات منهم. ثم عادت وفجّرت أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي ممهِّدة لحربها الواسعة. ويوم 23 سبتمبر باشرت إسرائيل حملة جوية واسعة على جنوب لبنان، تزامنت مع سلسلة عمليات اغتيال خلال الأيام التي تلت وطالت قياديي ومسؤولي «حزب الله» وتركزت في الضاحية الجنوبية لبيروت. وبدأت الاغتيالات الأكبر في 27 سبتمبر مع اغتيال حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، وتلاه اغتيال رئيس المجلس التنفيذي للحزب، هاشم صفي الدين، في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. كما أنه في يوم 1 أكتوبر بدأت تل أبيب عملياتها العسكرية البرّية جنوباً قبل أن تطلق يوم 30 من الشهر نفسه حملة جوية مكثفة على منطقة البقاع (شرقي لبنان).

وتواصلت الحرب التدميرية على لبنان نحو 65 يوماً، وانتهت بالإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار يوم 27 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولقد سمح هذا الاتفاق للجيش الإسرائيلي بمواصلة احتلال قرى وبلدات لبنانية حدودية على أن ينسحب منها مع انتهاء مهلة 60 يوماً.

ولكن، خارج لبنان، تواصلت الصفعات التي تلقاها المحور الذي تقوده إيران مع بدء فصائل المعارضة السورية هجوماً من إدلب فحلب في 28 أكتوبر انتهى في ديسمبر (كانون الأول) بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد.

وعلى الرغم من إعلان أمين عام «حزب الله» الحالي، الشيخ نعيم قاسم، أن حزبه سيساند النظام في سوريا، فإنه صُدم بسرعة انهيار دفاعات الجيش السوري، ما أدى إلى سحب عناصره مباشرة إلى الداخل اللبناني، وترك كل القواعد التي كانت له منذ انخراطه في الحرب السورية في عام 2012.

وأخيراً، في منتصف ديسمبر، أعلن قاسم صراحة أن «حزب الله» فقد طرق الإمداد الخاصة به في سوريا... أي آخر انقطاع طريق بيروت - دمشق.