تتأهب فرنسا وشريكاتها الأوروبيات لقلب صفحة الانخراط العسكري في مالي الذي يعود بالنسبة للقوات الفرنسية للعام 2013 وبداية عام 2014 ولعام 2020 بالنسبة للأوروبيين. باريس بدأت بما سُميت «عملية سيرفال» التي أنقذت في عام 2013 العاصمة باماكو من السقوط بأيدي التنظيمات المسلحة والانفصالية، ثم عدّلتها لتتحول إلى عملية «برخان» المتخصصة بمحاربة التنظيمات المشار إليها في عدة بلدان في منطقة الساحل. وسعت فرنسا لإقناع الأوروبيين لاحقا بالانضمام إليها في إطار قوة «تاكوبا»، وهو ما تحقق لها مع بدء عام 2020. وفي عز الانتشار الفرنسي، وصل عديد القوة إلى 5300 رجل، فيما بقيت «تاكوبا» متواضعة. لكن مع تغير الأوضاع في مالي عقب انقلابين عسكريين في 2020 و2021 توترت العلاقات بين السلطات الانتقالية في باماكو وبين باريس ومعها الأوروبيون لسببين رئيسيين: الأول، رفض السلطات الانتقالية الالتزام ببرنامج محدد لإعادة السلطة إلى المدنيين من خلال تنظيم انتخابات عامة، والآخر استدعاؤها ميليشيا «فاغنر» الروسية التي يرفض الأوروبيون الوجود إلى جانبها في مالي.
ورغم التحذيرات الفرنسية والأوروبية المتكررة، فإن باماكو واصلت استفزازاتها مثل الحد من حرية الطيران لقوة «مينوسما» الدولية، وطرد قوة دنماركية وصلت إلى مالي للانضمام إلى «تاكوبا»، وطرد السفير الفرنسي، ناهيك باتهامات لباريس برغبتها في استعادة الهيمنة الاستعمارية وتأجيج الشعور المعادي لها شعبياً واعتبار أنها «تعمل لتقسيم البلاد»... وفي المقابل، فإن تساؤلات كثيرة طُرحت في فرنسا حول مستقبل الحضور العسكري في مالي والساحل الذي يكلف الخزينة مليار يورو في العام إضافة إلى خسارة فرنسا 53 جندياً بينهم عدة ضباط.
بعد أسبوعين من المشاورات والاجتماعات على مستويات مختلفة منها لوزراء الخارجية والدفاع للدول الأوروبية المنخرطة عسكرياً في الساحل، بدا للجميع واضحاً أن استمرار العمل في مالي لم يعد ممكناً وأن الحل الوحيد المتبقي هو الرحيل عن هذا البلد. ولهذا الغرض، فإن الرئيس الفرنسي دعا إلى قمة موسعة مساء هذا اليوم في قصر الإليزيه لتبادل الرأي واتخاذ قرار نهائي بالرحيل. وستضم القمة 14 بلداً أوروبياً الذي يساهمون أو يخططون للمساهمة في قوة الكوماندوس الأوروبية أو يساهمون بشكل أو بآخر في بعثة التدريب الأوروبية للقوات المالية أو في القوة الدولية.
ثمة ثلاثة أمور أكدتها هذه المصادر: الأول، أن ظروف استمرار الانخراط العسكري «على حاله» في مالي، إنْ لقوة «برخان» أو لقوة «تاكوبا»، لم تعد متوافرة، وبالتالي فإن القمة ستسعى إلى توفير توافق حول الخطوات القادمة علماً بأن باريس تريد أن يكون القرار جماعياً وليس فرنسياً فقط. ولكن لا أحد يغامره الشك في أن القرار النهائي سيكون الخروج من مالي. والأمر الثاني أنه لا باريس ولا العواصم الأوروبية عازمة على التخلي عن محاربة الإهاب في منطقة الساحل التي تعد الجوار المباشر للاتحاد الأوروبي وهو ما سمّاها الإليزيه «رغبة جماعية في البقاء في الساحل». والأمر الثالث أن التهديد الإرهابي آخذ بالتحول والتمدد إلى مناطق ودول جديدة خصوصاً باتجاه جنوب الساحل وبلدان خليج غينيا، وبالتالي يتعين على الأوروبيين، وفق مصادر قصر الإليزيه، «التأقلم مع المعطيات الجديدة وإطلاق مرحلة جديدة وبأشكال جديدة من العمل العسكري الأوروبي». ولذا، فإن الخروج من مالي لا يعني الخروج من منطقة الساحل.
وترجح المصادر الرئاسية أن تكون النيجر، التي زارتها الثلاثاء الماضي وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، هي المرشحة لتكون المحطة التي تستقبل القوات المنسحبة من مالي. والأمر المتعارف عليه أن انسحاب «برخان» سيؤدي حكماً إلى انسحاب «تاكوبا». بيد أن المصادر الرئاسية ركزت في مداخلاتها أمس على التنبيه إلى أن الخروج من مالي لا يعني استنساخ طرق العمل التي كانت متّبعة في هذا البلد في أماكن الانتشار الجديدة. والتركيز على النيجر سببه أن سلطات نيامي «تطالب بمزيد من المشاركة الأوروبية» في محاربة التنظيمات الإرهابية وتريد دعماً وحضوراً أوروبياً على أراضيها. بيد أن «أشكال الانتشار وطرق العمل» هي اليوم موضع بحث وتشاور ولن تكون بالضرورة تحت مسمى «تاكوبا». وما تريده باريس هو التخفيف من بصماتها العسكرية في البلدان التي ستداوم العمل فيها أو ستدخل إليها وهي تريد هذه البصمة أوروبية - دولية. وحسب باريس، فإن إعادة الانتشار لا تعني بالضرورة إقامة قواعد بل السعي للتأقلم مع الحاجات العسكرية والأمنية ووفق التهديد الإرهابي. وترى باريس أن العمل العسكري - الأمني يجب أن تواكبه جهود مكثفة على المستويات التنموية الاقتصادية والاجتماعية. وقال الوزير غبريال أنتال، الناطق باسم الحكومة، إنه سيتم الإعلان عن القرارات الجديدة «سريعاً»ن ما يعني عملياً أن عملية إعادة الانتشار لـ«برخان» و«تاكوبا» لن تتأخر. ووفق خبراء عسكريين، فإن أمراً كهذا لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها بل يحتاج إلى أسابيع وربما لأشهر. وإذا كان مصير هاتين القوتين محسوماً، فإن المشاورات ستتناول أيضاً مصير بعثة التدريب الأوروبية للقوات المالية وأيضاً مصير القوة الدولية المنتشرة في مالي وهي الأكبر للأمم المتحدة في العالم. وتعد ألمانيا من المساهمين الأوروبيين الكبار فيها، إذ لديها ألف رجل في القوة الدولية ونحو 300 في بعثة التدريب. وسبق لوزيرة الدفاع الألمانية أن أشارت إلى أنه سيحين الوقت قريباً للنظر في مستقبل وجود هذه القوة في مالي.
يبقى أن انسحاب «برخان» و«تاكوبا» يعكس فشلاً ذريعاً للجهود الفرنسية والأوروبية رغم تأكيد الاستمرار في محاربة الإرهاب في الساحل. وثمة سؤال يُطرح: هل ستُترَك مالي لميليشيا «فاغنر» للوقوف بوجه التنظيمات الإرهابية إذ سيكون من المستحيل القيام بعمليات عسكرية في هذا البلد من الخارج ومن غير موافقة سلطاته إن كانت انتقالية أو غير انتقالية؟
«قمة باريس» تقرر مصير الانخراط العسكري في الساحل
«قمة باريس» تقرر مصير الانخراط العسكري في الساحل
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة