ما بعد «عاصفة الحزم».. حقبة «تحالف المعتدلين»

ما بعد «عاصفة الحزم».. حقبة «تحالف المعتدلين»
TT

ما بعد «عاصفة الحزم».. حقبة «تحالف المعتدلين»

ما بعد «عاصفة الحزم».. حقبة «تحالف المعتدلين»

يحتاج الوضع العربي الراهن أمام تنامي التطرف الديني وأزمة تفكيك الدولة وانقسامية المجتمع، وما ينتجه كل هذا من حروب داخلية وإقليمية غير مباشرة في الشرق الأوسط إلى إعادة ترتيب قواه الداخلية والقيام بمبادرات فعالة لواجهة الأزمات الراهنة.
ولعل اضطرار الحلفاء من الدول العربية والإسلامية لـ«عاصفة الحزم» التي قادتها المملكة العربية السعودية، كرد فعل على أحداث الانقلاب على الشرعية في اليمن، يؤكد خطورة تدعيم الصراع السياسي بالمذهبية الدينية كما هو معمول به عند جماعة أنصار الله بزعامة عبد الملك الحوثي، من جهة؛ أو استعمال مقدرات الجيش الوطني بناء على اصطفاف قبلي تدميري للدولة من جهة أخرى، كما يفعل الرئيس السابق علي عبد الله صالح.

* الحفاظ على استقرار الدولة
* إن طبيعة المعركة الحربية، والسياسية، والتنموية، على الأراضي اليمنية يمكن اعتبارها نموذجا مفسرا لطبيعة النسق العام المشكل للدولة والمجتمع العربي الراهن؛ وما يحتويه هذا النسق من إمكانية كبيرة لتفجيره عبر الصراعات السياسية الداخلية المدعومة من القوى الإقليمية أو الدولية. ومن هنا تأتي حاجة الأمن القومي العربي لأن تلعب المملكة العربية السعودية دور القيادة العربية ذات الثقل الديني والقومي، بشكل يحافظ على حماية مكتسبات الدولة الوطنية، وفي نفس الوقت يلعب دور الحاضن لمختلف الفاعلين الوطنين المؤثرين، وخصوصا المعتدلين.
فمن الناحية السوسيولوجية، يعتبر تبادل التأثير بين العوامل المعرفية الدينية، مع ديناميكية المجتمع وخبرته السلوكية، وكذا مع نوعية المؤسسات الدستورية الجامعة له أمرا محسوما مع قيام الدولة الحديثة. وقد شكلت المملكة السعودية عبر تشكلها التاريخي الحديث، منذ سبتمبر (أيلول) 1932م، نموذجا ناجحا لانسجام تلك العناصر، كما كانت ساحة مستقبلة للمثقفين والكوادر الدينية المعتدلة التي عانت من الاضطهاد الناصري في الخمسينات من القرن الماضي وغيره.
وإذا كانت التطورات الراهنة عربيا، وفي اليمن خاصة، لا تترك مجالاً للمتشككين في قدرة المتطرفين الدينين الطائفيين على هدم النسق الجامع للجماعة الواحدة، خاصة مع ازدياد وتيرة استعمال العنف الديني والسياسي بين المكونات القطرية العربية الواحدة؛ فإن الخبرة السعودية على إدارة الوضع العربي وقيادته منذ بداية سبعينات القرن الماضي (القرن العشرين)، أثبتت قدرة فائقة للقيادة السياسية السعودية عبر حقب مختلفة، على تجاوز مثل هذه الأزمات العربية، سواءً تلك المتعلقة بالصراع العربي - العربي أو التدخلات الإقليمية التوسعية الإيرانية؛ أو تلك المتعلقة بالاستغلال السياسي للدين من طرف الجماعات الإرهابية الحاملة لراية «الجهاد» المزعوم.

* مشروع الاعتدال في مواجهة التطرف
* إن زيادة الطلب بهذا الشكل «الاستعمالي» للدين الإسلامي، من الزاوية الطائفية والسياسية، دفع بالوضع العام ليحتل فيه الدين والطائفية الصدارة من حيث كونهما موضوعين للنزاع، وفي نفس الوقت سلاحا بيد التطرف العَلماني والديني على السواء؛ في صورة يمكن اعتبارها أكبر تهديد داخلي تواجهه الجماعة والمجتمع والدولة؛ خاصة بعد ازدياد منسوب استعمال الفتوى لتكريس الفرقة المذهبية الدينية، والاقتتال الطائفي.
لقد كان من الطبيعي أن يبرز التطرف على السطح، وتنتعش مصادر استنباته الدينية، خاصة بتكاثف عوامل موضوعية أهمها الاستبداد السياسي، والانغلاق الديني، وكذا مع ظهور ظاهرة مستحدثة عالميا، تتمثل في استعمال بعض القوى العالمية للمتطرفين كفاعلين في العلاقات الدولية وصراعاتها الجيو - استراتيجية، المتعلق بالممرات المائية الدولية، أو تلك المتعلقة بموارد الطاقة، والمواد الأولية.
ومع تراجع المؤسسات الأهلية والشعبية الدينية، وتخلف بعض من يدعون الفقه عن مستجدات عصرهما، ظهر رد فعل متطرف موازٍ مثل محاولة احتكارية من نوع جديد، قادته الجماعات المتطرفة الإرهابية. وهدفت المحاولة سحب حق المجتمع الجماعة في الانتماء الإسلامي، فيما حكمت على الدولة المستبدة بالكفر، وواجهتها، بالقوة العسكرية في محاولة منها لإحلال محلها في التربع على عرش احتكار الدين، وتقزيم دور المجتمع وسلطته على الدولة والمؤسسة الدينية.
ومع قدرة «النموذج الاحتكاري» على تجديد نفسه والتكيف مع الظروف التاريخية التي يعيش فيها، بالاستناد على البعد الطائفي، أصيب الاعتدال الإسلامي الرسمي والشعبي، وتقاليده المعروفة والمغروسة في المجتمع والدولة بمتغيرين سلبيين:
الأول، تجسد في الخلل القائم بين الوظيفة الدعوية للجماعة المجتمعية، والدور الإنساني للشرعية القانونية التي تتمتع بها مؤسسة الدولة. فمع تغول هذه الأخيرة، تراجعت فعالية القيم الدينية الوسطية، وانتشر «التدين الانفعالي» والطائفي، وانتظم بشكل احتجاجي مخاصم للوجدان الجماعي ومدركاته الذاتية؛ وهو ما أثر على مساحات وظيفة الفقيه الدعوية وشرعيته المعنوية في قيادة المجتمع معرفيًا، بينما ربح التطرف مساحات جديدة على المستوى الشعبي.
وإذا استدعينا السوسيولوجية مجددا، يمكن القول، إنه من الطبيعي أن يكون اعتدال الفقيه والمؤسسة الدينية جزءا من مسار تصويب وتجديد المعرفة المجتمعية وتحويلها لتقاليد مرعية، ومبثوثة في الثقافة الشعبية والمؤسسات الأهلية الوسيطة بين المجتمع والدولة. كما أن تطرف المؤسسة الدولتية المعاصرة باسم الدين، أو باسم حماية الدولة المدنية، يحول الصيرورة المجتمعية نحو بناء وحدات فرعية معرفية تستمد مرجعيتها من اجتهاد متحزب معرفيا وطائفيا وتدينيا؛ مما يفسح المجال للأطراف الخارجية ذات الأهداف التوسعية للتلاعب بالاستقرار والجغرافية الوطنية للدولة العربية المعاصرة. وتضافر هذه العوامل كافة وسع حدة التصادم بين الجماعة بوصفها مجتمعا كاملا، والطائفة الفرعية بوصفها «فرقة ناجية» ممثلة للدولة المدنية العَلمانية، أو ناطقة وموقعة باسم الإسلام.
ثانيا، رغم أن أكثر المشكلات التي يواجهها الاعتدال الديني الإسلامي ناتجة عن عوامل محيطة بالجسم الديني للمؤسسة التقليدية العربية، فإن جزءا هاما من تفكيك التطور والتجديد الواقع للدين والتدين ناتج عن تحويل المعرفة الدينية المعاصرة من معرفة ربانية للعالمين، موحدة للأمة الواحدة والجماعة الجامعة (الشعب الواحد)، إلى كونها مجرد رسالة تنظم العلاقات الشاملة للفرد والجماعة، داخل طائفة ومذهب معين.
وللأسف، فإن هذا التوجه وتطبيقه منذ الاستقلال، أديا في عموم هذه التجارب إلى تحويل الدين الإسلامي إلى آيديولوجية تؤجّج الصراع السياسي المتطرف وتقسم الجماعة داخل الدولة، بشكل طائفي سني شيعي، أو بين متدينين وعلمانيين، أو هذا كله.
من هنا وجدت الأفكار العنيفة والمتطرفة ضالتها في الآيديولوجية الدينية الطائفية، وفي مزاعم العَلمانية المادية. وطرحت مختلف النخب الليبرالية، والقومية، والإسلامية أفكارا سياسية ارتكزت الغالبية منها على التجربة التاريخية للصراع السياسي حول الجماعة الجامعة وتمثيل الشعب؛ بل أكثر من ذلك توالت منذ الخمسينات محاولات فرض المرجعية المتحزبة على المجتمع تارة باسم الحداثة والمدنية، والأمن القومي، وتارة باسم الحفاظ على بيضة الدين والشريعة الإسلامية.
ومن ثم أصبحت المؤسسة الدينية التقليدية كالأزهر وجامعة القرويين، والزيتونة.. أمام واقع لا يؤهلها للعب دورها التاريخي في تعزيز الاعتدال الإسلامي، وصناعته من خلال تجديد الوعي الديني للنخبة الدينية، وتوجيه الرأي العام المتدين. وهو ما أدى بدوره لتعطل مسيرة وفعالية المعرفة الدينية المعتدلة، وتراجعت النخب الممثلة للوسطية مع تراجع دور المؤسسات التقليدية المشرفة على تخريج القيادات الدينية الرسمية والشعبية المعتدلة.
صحيح أن الوضع الراهن للعلاقة بين الدولة والمجتمع والجماعة، أصيب بكثير من الأزمات بعضها ذات طابع معرفي، وأخرى لم تعد تتحكم فيها لا الدولة ولا المجتمع لارتباطها بالواقع الدولي المعاصر، وصراعاته ذات الطابع الهيمني الغربي والإيراني؛ إلا أنه من الثابت أن حضور الدين في المجتمع الإسلامي صاحبته تاريخيًا عملية تجديد، اعترف لها عبر الزمن الممتد بأنها حركة إصلاحية، وهذا ما يعزز الأمل في إمكانية النجاح في المعركة القائمة حاليا بين الاعتدال والتطرف خاصة الديني الطائفي منه.

* إعادة الاعتبار للمعتدلين
* التطرف في المجتمع العربي الإسلامي اليوم أقلية قليلة، معرفيا، وعمليا، مؤسساتيا، وتنظيميا؛ كما أن إمكانية «ترميم» العلاقة بين الأنظمة السياسية العربية الشرعية، ومختلف النخب والقوى الدينية السلمية، أمر في غاية الأهمية حاليًا؛ سواء على المستوى السياسي الداخلي، أو الخارجي. ومن هنا ضرورة تفعيل دور المؤسسات الدينية التقليدية الرسمية، ومحضها مزيدًا من الدعم، ومنحها حرية أكبر من الناحية الفكرية، ومجالات الاشتغال، وطبيعة المواضيع التي يجب طرحها؛ كما أصبح من اللازم الاعتراف بالمؤسسات الدينية المعتدلة السلمية الشعبية، أي غير الرسمية، وتمتعها هي كذلك بكل حقوقها في العمل داخل المجتمع، وتأطيره دينيا وسياسيا، طبقا لقانون يؤسس للحرية الحقة وينظمها.
الواقع العربي الحالي يفرض إطلاق دورة تاريخية جديدة، يمكن أن نطلق عليها «حقبة تحالف المعتدلين»؛ وأن يكون الاعتدال الديني ركيزة، ومقدمة صلبة لمواجهة التطرف المسلح بكل أشكاله. فالتجربة العراقية واليمنية الحالية، تفرضان على النظام السياسي العربي حماية مكتسبات المجتمع والجماعة والدولة عبر توسيع دائرة الشراكات الداخلية في كل قطر عربي بين الجماعة والمجتمع والدولة؛ ولمَ لا قيام «تحالف جديد» بين كل القوى المدنية الدينية والإسلامية المعتدلة السلمية مع الأنظمة السياسية العربية الشرعية.
ولم يبقَ أمام العقلاء من النخب الحاكمة في النظام السياسي العربي، سوى البحث عن المشترك المجتمعي مع المعتدلين الدينين والمدنيين قبل الانفراط الكامل لعقد الجماعة الدولة، كما هو واقع بالعراق واليمن ولبنان وسوريا وأفغانستان. ولعل مبادرة إعادة الأمل بشأن الوضع الحالي لليمن، هي بداية الطريق لإعادة الاعتبار لمسار من المصالحات العربية، المفروضة بحكم الواقع الإقليمي والدولي.

* المملكة السعودية وقيادة الاعتدال العربي
* ولعل الدور الإقليمي والدولي للمملكة العربية السعودية، ومكانتها الدينية، جعلا منها قيادة حقيقية قادرة على جمع، واحتواء، مختلف القوى الفاعلة الشعبية والرسمية في الساحة العربية، لمواجهة مختلف الأخطار المهددة للدولة الوطنية، كما كانت منذ عهد الملك فيصل (رحمه الله). وأن خوض معركة «عاصفة الحزم»، ومن بعدها «إعادة الأمل»، ودفاعها عن الشرعية في اليمن، وما يرمز إليه ذلك من حرص شديد على إبعاد استعمال القوة العسكرية في التنافس السياسي، وقيادتها لمشروع تحقيق التنمية الاقتصادية والبشرية في محيطها الإقليمي والعربي؛ هو مؤشر جديد على إمكانية نجاح هذه القيادة في جمع مختلف الفاعلين المعتدلين، وتجاوز الأخطار المحدقة بالأمن الجماعي العربي الراهن الذي تهدده الاستراتيجية الإيرانية والميليشيات الطائفية العاملة وفق أجندتها.

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.