كل قصص الحرب حقيقية... فالخيال محدود وسط الجحيم

كتابات عن أبشع نزاع عسكري قُدرت ضحاياه بين مليون ومليوني شخص

فؤاد التكرلي  -  ميسلون هادي
فؤاد التكرلي - ميسلون هادي
TT

كل قصص الحرب حقيقية... فالخيال محدود وسط الجحيم

فؤاد التكرلي  -  ميسلون هادي
فؤاد التكرلي - ميسلون هادي

الجنود في الحروب جندي واحد. كانت الأم تودع ابنها في محطة القطار. قالت له: «اكتب لنا كثيراً. إننا نعلق رسائلك في صدر الغرفة. دفعت له سلة ملأى بالطعام، وحين التفتت إلى الجندي الجالس عند النافذة المجاورة، صاحت: يا إلهي، إنك تشبه ابني تماماً. لو لم أرَ ولدي الساعة لقلت إنك هو».
استمر النزاع الذي سُمي «الحرب العراقية - الإيرانية» 2888 يوماً، وكلف البلدين خسائر بلغت 1900 مليار دولار، وكان يمثل أطول نزاع عسكري في القرن العشرين، وقُورن بالحرب العالمية الأولى، وتراوحت تقديرات الضحايا بين مليون ومليوني شخص، مع عدد أكبر من الجرحى، وكانت السلطات تزود أهالي الجنود الذين غيبتهم الحرب بإحدى الهويات: «شهيد»، «أسير»، «مفقود»، وهناك فئة أخرى بلا هوية، وهم الذين يمكن أن ندعو واحدهم «الميت البديل»؛ الجندي الذي سيق إلى كهوف الأسر، ونتيجة للصدفة أو لسوء الحظ يتسلم ذووه جثة أخرى، ولأن آلة الحرب تدوس الوجوه وتطمسها، فلا يعرف كثيرون أبناءهم في الشكل، ويدفنونهم وينسونهم بعد مر السنين. ثم تتوقف الحرب، ويعود الجندي «الميت» إلى أهله، ويبدأ عندها فصل جديد لم يحدث في بقعة أخرى غير أرضنا.
كما أن هنالك الأسرى من الطرفين، الذين لم تتوفر إحصائية دقيقة لأعدادهم؛ لأنهم يصيرون بمرور السنين ورقة ضغط يحاول أن يؤثر بها البلدان المتحاربان كل على الآخر. وقد يطول الأسر إلى عقد من الزمان، وعقدين، ثم يعود الجندي إلى أهله، وتصعب الأمور حين يكون من ضمن «الميتين بالبدل». أما المفقودون؛ فبلغت أعدادهم مئات الآلاف، وهؤلاء لا يضمهم قبر؛ لأن ساعة موتهم حانت وهم في الأرض الحرام، وبعد شهر أو أكثر، وعندما تتوقف الهجمات، يتفق الطرفان المتحاربان على دفن هؤلاء، ولا يستدل أحد على هوياتهم بعد أن فعل الزمن وآفة الحرب فيهم، ويرسَلون عندها إلى مقابر صورية في تراب البلد الأم، مع شاهد واحد يحمل اسماً للجميع هو: «رفات شهيد». ويحدث أن ترص الزوجة حجراً على قلبها، وتختلق أكذوبة تمتص بها حزن أبنائها على فراق أبيهم المفقود، وتخبرهم بأنه سيعود قبل الصيف، وتنتقل الكذبة من لسانها إلى آذان الآخرين، وتدور لتعود بصورة «بشارة» تصدقها الزوجة قبل الجميع.
جميع القصص التي كُتبت عن الحرب حقيقية؛ فالخيال محدود وسط هذا الجحيم، ويبدو أن لا موهبة لها القدرة على صنع تيمة واحدة من تلك التي تكون فيها لفوضى الخيال يد طولى تكتب بها الفجائع.

- «النهاية الثانية»
هو عنوان قصة لفؤاد التكرلي تحكي عودة الجندي «عبد الكريم الحاج مهدي» إلى أهله، بعد أن قضى أكثر من ست عشرة سنة في الأسر، ذراعه اليسرى مشلولة، وكذلك ساقه، مع ثغرة في وجهه، وأخرى أعمق في صدغه، وشفة مندلقة وأنف مكسور. ما الذي تبقى من صورته الأولى عندما كان جندياً في الثامنة عشرة؟ عاد الأسير إلى الوطن ولم يعرف أحداً ولا عرفه أحد. لقد غيب الموت الجيران وجيران الجيران، وبعد رحلة طويلة وأسئلة تؤدي إلى أخرى، وحوارات مع من بقي حياً وذا ذاكرة سليمة، أخبروه أن أخاه «صادق» فار تنوره وتراكمت الأموال لديه دون حساب؛ ابن العائلة الفقيرة صار تاجراً يملك قصراً في أرقى أحياء بغداد، والأمر الأخطر هو أن أخاه تزوج «وديعة» زوجته. يأتي الأسير إلى بيت أخيه كي يعرف عن نفسه، ويشك أخوه في أمره، فهو ميت منذ زمن طويل، أنزلوه إلى القبر بأيديهم ودفنوه وأقاموا له مجلس العزاء، فما معنى هذا الهراء؟ يوجه الأخ أمره إلى
حارسه «رجب» بأن يرميه خارجاً:
«لم يسنح له الوقت كي ينبس بكلمة أخرى، فقد احتواه ذلك الرجب بشكل غريب ورفعه ثم حمله، كعصفور ميت، إلى الخارج، ولم يتركه إلا بعد عشرين متراً».
تبعاً لأدب القبور، فإن أرواحنا تخوض أهوالاً عدة بعد الموت، واختار التكرلي عنوان «النهاية الثانية» للقصة ليصور موتاً غير ذاك الذي يتجرع مرارته بنو البشر. كأن العالم كله تعاون من أجل أن يحوك بإتقان شديد أسباب نهاية الذين تتمسك بهم الحياة، وتبعدهم عن المغادرة إلى دهاليز الموت، ويا ليتها لم تفعل؛ لأن حياتهم الباقية أفضل منها الموت؛ بكثير.

- «العالم ناقصاً واحد»
هو عنوان رواية لميسلون هادي: تحطمت الطائرة المروحية، ونجا أحد الطيارين، بينما قضى الآخر نحبه. انتهت الحرب، وتسلم أهل الطيار المتوفى جثته التي تفسخت في أرض العدو. وتنمو في خاطر الأب بذرة شك تصير عزيزة على قلبه، وهي أن الجثة التي دفنها ليست لابنه. ويقصد في أحد الأيام أهل الطيار الثاني؛ الحي، وينفي هؤلاء أي اتصال بينهم وبين ابنهم الأسير؛ لأن الطيارين الأسرى يُسجنون في زنازين تحت الأرض، ولا يُبلغهم أحدٌ حتى موظفو الأمم المتحدة. يُخفي الأب عن هؤلاء شكه الذي صار بمرور الأيام يقيناً بأنه تسلم رفات ابنهم؛ لأن لباس الجثة الداخلي ليس ما يرتديه ابنُه. هذه القطعة التافهة من الثياب يدين الأب لها بالفضل لأنها دلته على بقاء ابنه حياً. أي قطعة ثمينة هي إذن؟! ثم يغادر الأب عائلة الطيار، ويتركهم هانئين لأنهم يعتقدون أن ابنهم حي، فما الذي يجنيه لو أنه جردهم من هذه النعمة؟! وتنتهي الرواية بالعذاب الجديد الذي صار يقاسيه الأب، وكان يخفي كل شيء من وساوسه عن زوجته؛ أم الفقيد، رفقاً بها وعطفاً عليها.

- «حسين أبو روحين»
كان هذا الرجل يقيم مأتماً لابنه المقتول في الحرب، وفي اليوم الثاني من مجلس العزاء جاءه عريف في الجيش يخبره بأنه تسلم الجثة عن طريق الخطأ، فالجندي الذي دفنه ليس ابنه:

- «ابنك جريح، ويرقد في مستشفى البصرة العسكري».
قال له العريف، وودعه. لم يخبر الأب أحداً من أهل بيته بالأمر، وكي يتأكد من الأمر زار المستشفى، وعثر على ابنه راقداً في الردهة الجراحية، أُجريت له عملية استخراج طلق ناري من ذراعه، وهو في حالة حسنة. اطمأن الأب، وعاد إلى قريته، وجمع أهل بيته وأخبرهم بالأمر. أُطلقت الزغاريد في الحال، لكنه أخرسها، وطلب منهم الاستمرار في مراسم العزاء ترحماً على روح الجندي الذي دفنه بيديه، فمن سيقيم العزاء عليه سواه؟! يروي الحكاية القاص والمترجم حسن ناصر في قصة قصيرة ضمن مجموعته «تجليات العابر». الحكاية حقيقية على الأغلب، ويذهب بنا الخيال كيف ظل يتردد صداها في المنطقة، وسيشتهر الأب بعد ذلك اليوم بهذا اللقب «حسين أبو روحين»، وأظن أن من ابتكره يمتلك خيالاً قادراً على إبداع صور وصفية فيها سحرٌ ما، نقرأه في كتب الأدب.

- «أوليس»
أختم المقال بقصة حقيقية عاش أبطالها في مدينتي، وكنت شاهداً على تفاصيل وأحداث جمعتُ تفاصيلها وصارت قصيدة نثر عنوانها «تفاهة»: جرى الأمر على هذا النحو: «بنيلوبي طلقت زوجها وهو في الأسْر. تزوجتْ أخاه، طالية أيامها بلُجين الفضة، بشراريف الذهب عاد (أوليس) من الأسر، وفتش أول ما فتش عن زوجته، عن بيته، وعن قوسه الشهيرة - قوس (أوليس) - ولم يعثر لها على أثر. أخوه صار حزبياً ذائع الصيت، وبنيلوبي تعمل عضوة عاملة في اتحاد نساء مدينة العمارة. جميعُ الأهل تنكروا لمحنة أوليس العظيمة... جميع الأصدقاء... جميع الأقارب، واختار (أوليس) أن يعمل حارساً. يقضي النهار في مقهى العمال، يدخن بشاربٍ أبيضَ، تغرق أقدامُه في رمل الحلم حتى الكاحل... حتى الركبتين، ويسبح في بحر الرمل كل يوم. لم يعد يكترث للقوس، إذا شاءت الصدفة العجيبة أن يلقى قوسَ أوليس الشهيرة؛ قوسَه، فسوف يرميها مثل النفاية، وكذلك خوذتَه، ومِجَنّه بنيلوبي أنجبتْ عشرة أبناء، آخرهم؛ آخر العنقود أسْمَتْهُ (أوليس)».



هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين
TT

هل يمكن للترجمة أن تستعيد ما فقدته الجغرافيا؟

هيثم حسين
هيثم حسين

رغم أن الأكراد هم أكبر مجموعة عرقية تعيش في محيط عربي نابض بالثقافة، وتشترك معه في الدين والتاريخ والجغرافيا، فإن التفاعل والتبادل الثقافي بين الجانبين ظلَّ محدوداً، ومسكوناً بهاجس الهويات ونزاعاتها.

ومع أن الكُرد شعبٌ يسكن مناطق متفرقة في عدة دول، فإنهم حافظوا على تراثهم الأدبي عبر القرون، وعلى لغتهم التي يتحدث بها أكثر من 30 مليون شخص. وتمتلك هذه اللغة تاريخاً أدبياً غنياً، وتُعد جسراً طبيعياً بين الثقافات في المنطقة.

لقد طُرحت مشاريع عدة لتقريب الثقافتين العربية والكردية؛ لكنها أُجهضت، فقد عملت السياسة كعنصر تخريب للتواصل الثقافي؛ بل أسهمت مشاريع التهميش من جانب والانغلاق من جانب آخر في توسيع الشقة حتى بين أبناء البلد الواحد.

إدراكاً لهذا الواقع المؤسف، أخذت دار «رامينا» التي يديرها الكاتب والروائي الكردي السوري، المقيم في بريطانيا، هيثم حسين، على عاتقها إصدار أو ترجمة عدد من الكتب الكردية إلى اللغة العربية، أو ترجمة الكتب العربية إلى الكردية، في مسعى يهدف «لبناء الجسور بين شعوب المنطقة، وبناء قيم التسامح ونبذ الكراهية والتطرف والعنف، في سياق أدبي إنساني رحب»، كما تقول الدار في نشرة التعريف عن نفسها، على الموقع الإلكتروني. وتضيف أنها تركز «على ثقافات الأقليات والمجتمعات المهمشة في جميع أنحاء العالم، وذلك ضمن الفضاء الثقافي والحضاري والإنساني الأرحب».

الترجمة كجسر للتواصل

يقول صاحب الدار لـ«الشرق الأوسط»: إن هذا المشروع يستهدف إنشاء منطقة تواصل حقيقي: «نحن نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له، وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه. إن تجربة دار النشر (رامينا) هي محاولة لاستعادة ما فقدته الجغرافيا من قدرة على جمع البشر. لقد بدأتُ في تأسيس الدار حين شعرت بأن العلاقة بين العربية والكردية تحتاج إلى عناية تُنقذها من التباعد التاريخي، وبأن الأدب قادر على أداء هذا الدور إذا أُتيح للنصوص أن تنتقل بحرية بين الضفتين».

انطلقت «رامينا» إلى الترجمة بوصفها عملاً يتجاوز التقنية، ولم تبحث عن «نقل الكلمات»، إنما عن نقل التجارب والمخيلات والوجدان، كما يقول مؤسسها. وكانت القفزة الأهم حين عملت -بدعم من مبادرة «ترجم» وبالتعاون مع وكالة «كلمات»- على مشروع ترجمة كتب عدة من الإبداعات السعودية إلى الكردية، وهو حدث يتحقق للمرة الأولى في تاريخ الأدبين العربي والكردي.

لقد قدَّمت «رامينا» للقارئ الكردي نصوصاً عربية خليجية وسورية وعُمانية وبحرينية، مترجمة إلى لغته الأم. وكذلك قدَّمت للقارئ العربي نصوصاً كردية بأصوات متنوعة تمثِّل جغرافيات كردية متعددة، وأعادت فتح نافذة على الأدب السرياني ضمن سلسلة النشر السريانية التي خصصتها لإحياء هذا الإرث الموشَّى بالروحانية والشعر، وهو من أعمق طبقات تاريخ المنطقة، كما أطلقت شراكات ترجمة إلى الإنجليزية، لحاجة الأدب الكردي والعربي إلى هذا الأفق العالمي كي لا يبقى أسير لغته أو مكانه.

من الأعمال التي شكَّلت نقطة تحول في هذا المشروع: سلسلة الإبداعات السعودية المترجمة إلى الكردية؛ وهو مشروع غير مسبوق فتح باباً واسعاً لفهم جديد بين القارئ الكردي والمشهد السعودي، فقد نقلت «رامينا» للقارئ الكردي أعمالاً لأدباء ونقاد سعوديين، منهم: سعد البازعي، ويوسف المحيميد، وأميمة الخميس، وأمل الفاران، وطارق الجارد، وعزيز محمد، وغيرهم.

والثاني، مشروع الترجمات العُمانية والبحرينية، مثل رواية «بدون» ليونس الأخزمي و«الطواف حيث الجمر» لبدرية الشحي؛ و«دخان الورد» لأحمد الحجيري، وهي نصوص أدخلت القارئ الكردي إلى سرديات لم يكن يصل إليها.

والثالث، مشروع الترجمة من الكردية إلى العربية، الذي قدَّم للعربي أصواتاً كردية ذات حساسية عالية، تنقل الهويات المتعددة والمعاناة المتراكمة في كردستان سوريا والعراق وتركيا وإيران؛ حيث تُرجمت إلى العربية عشرات الأعمال الكردية لكُتَّاب كُرد، مثل: عبد القادر سعيد، وسيد أحمد حملاو، وصلاح جلال، وعمر سيد، وكوران صباح... وغيرهم.

وأما الرابع فهو مشروع النشر السرياني، الذي يعيد الاعتبار لطبقة ثقافية مهمَّشة، ولغة أصيلة من تراث منطقتنا، ويمنحها موضعها الطبيعي داخل المشهد الأدبي.

والخامس، إطلاق الترجمات إلى اللغة الإنجليزية.

يقول هيثم حسين إنه «بهذه الحركة المتبادلة، صار مشروع الترجمة في (رامينا) مشروعاً لإعادة النسج بين لغتين، وتأسيس حوار ثقافي طال غيابه».

«نريد للقارئ الكردي أن يجد في العربية امتداداً له وللقارئ العربي أن يرى في الكردية مرآة تعكس جزءاً من روحه»

هيثم حسين

التراث الأدبي المشترك

وردّاً على سؤال لـ«الشرق الأوسط» عما يمكن أن يضيفه هذا المشروع إلى التراث الأدبي المشترك، يقول هيثم حسين إن مشروع التواصل الأدبي الذي تقوم به «رامينا»، يضيف ما يشبه «الخيط المفقود»، فالتراث العربي والكردي والسرياني ظلَّ متجاوراً دون أن يتشابك بما يكفي.

ويضيف: «الآن، حين يقرأ كردي نصاً سعودياً بلُغته، أو يقرأ عربي رواية كردية، أو قارئ إنجليزي عملاً مترجماً من هذه البيئات، تظهر طبقة جديدة من التراث؛ طبقة عابرة للغات والانتماءات، ترى الإنسان قبل كل شيء. نحن لا ندَّعي أننا بصدد صنع أو تصدير تراث بديل، إنما نحاول أن نعيد توزيع الضوء على تراث موجود، ولكنه كان منسياً في الظلال والهوامش».

أما الثيمات التي تتكرر في إصدارات «رامينا»، فهي تكاد تتقاطع حول هوية تبحث عن مكانها في عالم مضطرب: الذاكرة، بصفتها محاولة لمقاومة النسيان. الكتابات السيرية الذاتية والغيرية. المنفى، باعتباره إعادة تكوين للذات. اللغة، بما تحمله من فجيعة وحماية في آن واحد. الهوامش التي تتحول إلى مركز حين يُكتب عنها بصدق. الأمكنة المحروقة والقرى المطموسة والطفولة المهددة بالمحو. وهذه الثيمات امتداد لتجارب الكُتاب أنفسهم: كرداً، وعرباً، وسرياناً، ومهاجرين.

وعن الحركة الأدبية الكردية في سوريا، يقول هيثم حسين: «إن القوة الأدبية الكردية في سوريا نابعة من صدق التجربة وعمق الجرح. هناك كُتَّاب يمتلكون لغة عربية متماسكة، وأخرى كردية راسخة، ما يجعل أصواتهم قادرة على الوصول إلى جمهورَين. من خلال الترجمة والتوزيع في كردستان العراق، ومن خلال النشر في لندن، أصبح لهذه الأصوات مسار يصل بها إلى مَن لم يكن يسمعها. أرى أن هذا الامتداد عابر للحدود، وأن الكتابة الكردية السورية مرشَّحة لأن تكون أحد أهم أصوات الأدب القادم من المنطقة».

ورداً على سؤال بشأن كيفية تقديم التراث الكردي والهوية الكردية للآخرين، قال مؤسس «رامينا»: «إن الدار قدَّمت التراث عبر نصوصه؛ لا عبر خطاب خارجي عنه. فحين يقرأ قارئ عربي أو إنجليزي أو كردي نصاً مترجماً أو أصلياً، يكتشف مفردات الهوية الكردية كما تعيش في الحياة اليومية: في الأغاني، في اللغة، في القرى، في القصص العائلية، وفي تفاصيل الفقد والحنين. بهذا يصبح التراث الكردي جزءاً من المشهد الثقافي العام، لا معزولاً ولا مؤطَّراً. كما أن النصوص الأدبية تثبت العناصر المشتركة بين الثقافات؛ حيث تكشف النصوص أن الألم واحد، والحنين واحد، وأسئلة الإنسان واحدة. وتُظهر أن الاختلافات اللغوية لا تزيل جوهر التجربة الإنسانية؛ بل توسِّعها. حين يتجاور الأدب الكردي والعربي والسرياني والإنجليزي في سلسلة نشر واحدة، تتكوَّن منطقة مشتركة؛ بلا حدود، يتقاطع فيها الإنسان مع الإنسان. وهذا هو جوهر المشروع الذي أردتُ لـ(رامينا) أن تكون منصته».


«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة
TT

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

«ثلاث نساء في غرفة ضيقة»... قصص عن الحزن والعزلة

عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، صدرت المجموعة القصصية «ثلاث نساء في غرفة ضيقة» للكاتبة هناء متولي، التي تضم 22 نصاً يهيمن عليها الحضور الأنثوي في فضاءات واقعية تتراوح بين المدينة والقرية على خلفية عوامل من القهر والإحباط التي تجعل من حواء لقمة سائغة في فم وحش الوحدة والعزلة والشجن والحنين.

تعتمد المجموعة تقنيات سردية تستكشف كذلك قضايا الوجود والهوية والاختيارات الصعبة والأحزان العميقة عبر أعمال تمزج بين أشكال مختلفة من السرد مثل السيناريو والمونتاج والفلاش باك والمشهدية البصرية بهدف تسجيل لحظات نسائية خاصة، عبر تجربة أدبية تجمع بين العمق الإنساني والتجريب الفني.

تتنوع النماذج التي تدعو للتأمل في المجموعة القصصية من الخالة التي تجلس وقت الغروب تمضغ التبغ وهى تزعم أن الموتى يبعثون برسائل عبرها كوسيطة، إلى المصابات بالاكتئاب السريري، وليس انتهاء بالأديبة الشابة التي تواجه أديباً شهيراً اعتاد السخرية من الكتابات النسوية.

تميزت عناوين المجموعة بوقع صادم يعبر عن فداحة ما تتعرض له المرأة في المجتمعات الشرقية، بحسب وجهة نظر المؤلفة، مثل «السقوط في نفق مظلم»، «نزع رحم»، «يوميات امرأة تشرب خل التفاح»، «الناس في بلاد الأفيون»، «البكاء على حافة اليقظة».

ولم يكن قيام هناء متولي بإهداء العمل إلى الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث، التي ماتت منتحرة عام 1963 عن 30 عاماً، فعلاً عشوائياً، حيث سبق انتحار الأديبة الشهيرة سنوات طويلة من الاضطرابات النفسية والاكتئاب السريري وهو ما يبدو ملمحاً أساسياً من ملامح المجموعة.

وجاء في الإهداء:

«إلى سيلفيا بلاث... التي عرفتْ جيداً كيف يبدو الألم حين يصبح مألوفاً، أستمعُ إلى صدى كلماتك بين همسات الوحدة وأصوات الكتابة، كأنك تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء».

ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ:

«شروق خجل للشمس بعد ليلة ممطرة، تهرول سناء في عباءتها الصوفية وشالها القطني الطويل، تقترب من البيت المطل على الترعة وحيداً ورغم أنه قد شُّيد من طوب لبن ومعرش بسقيفة من القش فإنه يشع دفئاً في وجه الزمن. تنادي بصوت مترقب: يا خالة، فتطل عليها المرأة قصيرة القامة ذات الجسد المنكمش بعينين يقظتين لتكرر على مسامعها جملتها المعتادة: لا رسائل لك.

تعاود الهرولة وقد أحكمت الشال حول كتفيها العريضتين وقوست قامتها الطويلة، يهاجمها البرد بقسوة ليزيد جفاف قلبها. تعود سناء إلى بيتها... تتكور في فراشها... تحاذر أن تلمس جسد زوجها السابح في النوم، لئلا توقظه برودتها فينكشف سرها.

في ليلة حناء شقيقتها، ارتدت سناء فستاناً بنفسجياً من القطيفة وحجاباً زهرياً خفيفاً، كانت تعجن الحناء وتراقب الرقص والتصفيق بعينين شاردتين، تفاجئها موجة جديدة من حزن كثيف يتلبس روحها ويقبض على قلبها بقسوة. تهرب وتحبس نفسها في مخزن الغلال لتغرق في بكاء لاينتهي. يرغمها والدها على تناول قطعة صغيرة من حلوى العروس وبمجرد ابتلاعها تتقيأ».


«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد
TT

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

«مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة» لعماد فؤاد

عن دار «ديوان للنشر» بالقاهرة، صدر حديثاً العمل الشِّعري السابع للشَّاعر المصري عماد فؤاد تحت عنوان «مُعْجَمُ الحَواسِّ النَّاقِصَة».

جاء الديوان في 176 صفحة، مقسّمة إلى ثمانية فصول: «ما قبلَ»، ثم: «الصَّوت»، «الصُّورة»، «الرَّائحة»، «اللَّمس»، «الطَّعْم»، و«الألم»، «ما بعدَ».

جاء في كلمة الناشر أن «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة» يبدأ من لحظة التّأسيس الأسطوريّة الأولى؛ «المُصادفة» التي جعلتْ «الغابة» تلتهم «جَبلاً». كأنّه بالأحرى «سِفر تكوين» مكثَّف لـ«العلائق» بين الذَّكر والأنثى، التي تتجاوز الثنائيّات التقليديّة للقوّة والضعف، منذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا.

بهذا المعنى، فإن «المُعْجَم» الذي يبنيه عماد فؤاد هنا مشدودٌ بين قُطبي الكمال والنُّقصان، المرأة والرّجل، الإيروتيكيّة والصوفيّة، ما قبلَ.. وما بعدَ. لكنّه ليس بسيطاً كما يبدو من الوهلة الأولى، إنّه كون شاسع ومركّب. عالم معقّد تتعدّد أبعاده وتتراكم طبقاته الفلسفيّة والدّينية صفحة بعد صفحة، وقصيدة بعد أخرى... لذلك: تأبى لغة عماد فؤاد الاكتفاء بأداء مهمّتها الرئيسية، فتكون مجرَّد لغة هدفها «الإيصال» فحسب. لا... اللّغة هنا مثل شاعِرها؛ طامعة في أكثر من الممكن، في أكثر حتّى ممّا يستطيع الشِّعر أن يستخرجه من اللّغة نفسها، هذه ليست قصائد عن «الحواسِّ النَّاقصة» كما يدَّعي العنوان، بل قصائد كُتبتْ بـ«الحواسِّ النَّاقصة»، ستجد حروفاً لا تُرى.. بل تُلمَسْ. وكلماتٍ لا تُقال.. بل تُشَمّ. وجُمَلاً لا تُنْطَق.. بل «تُسْتطْعم». وقصائد لا تُقرأ.. بل تخترق اللحم كأسنّة الخناجر.

يعتبر عماد فؤاد أحد شعراء جيل التسعينات المصري، ومن أعماله الشِّعرية: «تقاعد زير نساء عجوز»، و«بكدمة زرقاء من عضَّة النَّدم»، و«حرير»، و«عشر طُرق للتّنكيل بجثَّة» و«أشباحٌ جرّحتها الإضاءة».

ومن كتبه الأخرى، «ذئب ونفرش طريقه بالفخاخ: الإصدار الثاني لأنطولوجيا النّص الشِّعري المصري الجديد»، وكان الإصدار الأول تحت عنوان «رعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضاً»، و«على عينك يا تاجر، سوق الأدب العربي في الخارج... هوامش وملاحظات»، كما صدرت له مختارات شعرية بالفرنسية تحت عنوان «حفيف» (Bruissement) عام 2018.

من قصائد «مُعْجَم الحَواسِّ النَّاقِصَة»:

في البدْءِ كانت المُصادفةُ

كأنْ تُمْسِكَ طفلةٌ لاهيةٌ بالجبلِ في يدِهَا اليُمنى، وبالغابةِ في يدِهَا اليُسرى، وتمدَّ ذِراعيْها عن آخرهِمَا ناظرةً إلى أُمِّها في اعتدادٍ. فتنْهَرُها الأمُّ:

لماذا تُباعدين بينهُما؟

وتستغربُ الطِّفلةُ: «هذه صَحْراءُ.. وهذه غابةْ»!

المُصادفةُ وحْدها جعلتْ عينَ الأمِّ تنظرُ إلى الجَبَلِ، فتراهُ وحيداً، لا يُحِدُّهُ شَمالٌ أو جَنوبٌ، تُشرقُ الشَّمسُ فيعرفُ شرْقَهُ مِنْ غَرْبِهِ، لكن لا أحد علَّمَهُ ماذا يفعلُ كي لا يكونَ وحيداً.

علىٰ بُعْدِ نَظَرِه الكلِيْلِ، كان يرى نُقطةً خضراءَ فوقَها سُحُبٌ وأَبْخِرَةٌ وضَبابٌ، حينَ تُمْطرُ يعلوها قوسُ قُزَحٍ لامعٌ، لا تدْخلُ ألوانُهُ في عيْنيْهِ، إلَّا ويَرى دموعَهُ تَسيلُ على صُخُورِه، حتَّى أنَّها سمعتْهُ يتمتمُ مَرَّةً في نومِهِ:

«لو أنَّ جَبلاً.. ائْتَنَسَ بغابةْ»!

في البَدْءِ كانت المُصادفةُ

التي جعلتْ الطِّفلةَ تنظرُ بعيْنَيْها إلى الغابَةِ، فتجدُها مُكْتفيةً بذاتِها، مُدَوَّرةً ومَلْفُوفَةً وعندها ما يكفي مِن المَشاكِلِ والصِّراعاتِ الدَّاخليةِ، تنْهَبُها الحوافرُ والفُكُوكُ

قانونُها القوَّةُ وخَتْمُها الدَّمُ:

«فكيفَ يا ماما تَقْوى الغابةُ على حَمْلِ ظِلِّ جَبَلٍ مثل هذا؟».

لم تُجِبْ الأمُّ

وحدَها الغابةُ كانت تُفكِّرُ:

«نعم؛ ماذا لو أنَّ غابةً..

التهمتْ جَبَلاً؟».