كل قصص الحرب حقيقية... فالخيال محدود وسط الجحيم

كتابات عن أبشع نزاع عسكري قُدرت ضحاياه بين مليون ومليوني شخص

فؤاد التكرلي  -  ميسلون هادي
فؤاد التكرلي - ميسلون هادي
TT

كل قصص الحرب حقيقية... فالخيال محدود وسط الجحيم

فؤاد التكرلي  -  ميسلون هادي
فؤاد التكرلي - ميسلون هادي

الجنود في الحروب جندي واحد. كانت الأم تودع ابنها في محطة القطار. قالت له: «اكتب لنا كثيراً. إننا نعلق رسائلك في صدر الغرفة. دفعت له سلة ملأى بالطعام، وحين التفتت إلى الجندي الجالس عند النافذة المجاورة، صاحت: يا إلهي، إنك تشبه ابني تماماً. لو لم أرَ ولدي الساعة لقلت إنك هو».
استمر النزاع الذي سُمي «الحرب العراقية - الإيرانية» 2888 يوماً، وكلف البلدين خسائر بلغت 1900 مليار دولار، وكان يمثل أطول نزاع عسكري في القرن العشرين، وقُورن بالحرب العالمية الأولى، وتراوحت تقديرات الضحايا بين مليون ومليوني شخص، مع عدد أكبر من الجرحى، وكانت السلطات تزود أهالي الجنود الذين غيبتهم الحرب بإحدى الهويات: «شهيد»، «أسير»، «مفقود»، وهناك فئة أخرى بلا هوية، وهم الذين يمكن أن ندعو واحدهم «الميت البديل»؛ الجندي الذي سيق إلى كهوف الأسر، ونتيجة للصدفة أو لسوء الحظ يتسلم ذووه جثة أخرى، ولأن آلة الحرب تدوس الوجوه وتطمسها، فلا يعرف كثيرون أبناءهم في الشكل، ويدفنونهم وينسونهم بعد مر السنين. ثم تتوقف الحرب، ويعود الجندي «الميت» إلى أهله، ويبدأ عندها فصل جديد لم يحدث في بقعة أخرى غير أرضنا.
كما أن هنالك الأسرى من الطرفين، الذين لم تتوفر إحصائية دقيقة لأعدادهم؛ لأنهم يصيرون بمرور السنين ورقة ضغط يحاول أن يؤثر بها البلدان المتحاربان كل على الآخر. وقد يطول الأسر إلى عقد من الزمان، وعقدين، ثم يعود الجندي إلى أهله، وتصعب الأمور حين يكون من ضمن «الميتين بالبدل». أما المفقودون؛ فبلغت أعدادهم مئات الآلاف، وهؤلاء لا يضمهم قبر؛ لأن ساعة موتهم حانت وهم في الأرض الحرام، وبعد شهر أو أكثر، وعندما تتوقف الهجمات، يتفق الطرفان المتحاربان على دفن هؤلاء، ولا يستدل أحد على هوياتهم بعد أن فعل الزمن وآفة الحرب فيهم، ويرسَلون عندها إلى مقابر صورية في تراب البلد الأم، مع شاهد واحد يحمل اسماً للجميع هو: «رفات شهيد». ويحدث أن ترص الزوجة حجراً على قلبها، وتختلق أكذوبة تمتص بها حزن أبنائها على فراق أبيهم المفقود، وتخبرهم بأنه سيعود قبل الصيف، وتنتقل الكذبة من لسانها إلى آذان الآخرين، وتدور لتعود بصورة «بشارة» تصدقها الزوجة قبل الجميع.
جميع القصص التي كُتبت عن الحرب حقيقية؛ فالخيال محدود وسط هذا الجحيم، ويبدو أن لا موهبة لها القدرة على صنع تيمة واحدة من تلك التي تكون فيها لفوضى الخيال يد طولى تكتب بها الفجائع.

- «النهاية الثانية»
هو عنوان قصة لفؤاد التكرلي تحكي عودة الجندي «عبد الكريم الحاج مهدي» إلى أهله، بعد أن قضى أكثر من ست عشرة سنة في الأسر، ذراعه اليسرى مشلولة، وكذلك ساقه، مع ثغرة في وجهه، وأخرى أعمق في صدغه، وشفة مندلقة وأنف مكسور. ما الذي تبقى من صورته الأولى عندما كان جندياً في الثامنة عشرة؟ عاد الأسير إلى الوطن ولم يعرف أحداً ولا عرفه أحد. لقد غيب الموت الجيران وجيران الجيران، وبعد رحلة طويلة وأسئلة تؤدي إلى أخرى، وحوارات مع من بقي حياً وذا ذاكرة سليمة، أخبروه أن أخاه «صادق» فار تنوره وتراكمت الأموال لديه دون حساب؛ ابن العائلة الفقيرة صار تاجراً يملك قصراً في أرقى أحياء بغداد، والأمر الأخطر هو أن أخاه تزوج «وديعة» زوجته. يأتي الأسير إلى بيت أخيه كي يعرف عن نفسه، ويشك أخوه في أمره، فهو ميت منذ زمن طويل، أنزلوه إلى القبر بأيديهم ودفنوه وأقاموا له مجلس العزاء، فما معنى هذا الهراء؟ يوجه الأخ أمره إلى
حارسه «رجب» بأن يرميه خارجاً:
«لم يسنح له الوقت كي ينبس بكلمة أخرى، فقد احتواه ذلك الرجب بشكل غريب ورفعه ثم حمله، كعصفور ميت، إلى الخارج، ولم يتركه إلا بعد عشرين متراً».
تبعاً لأدب القبور، فإن أرواحنا تخوض أهوالاً عدة بعد الموت، واختار التكرلي عنوان «النهاية الثانية» للقصة ليصور موتاً غير ذاك الذي يتجرع مرارته بنو البشر. كأن العالم كله تعاون من أجل أن يحوك بإتقان شديد أسباب نهاية الذين تتمسك بهم الحياة، وتبعدهم عن المغادرة إلى دهاليز الموت، ويا ليتها لم تفعل؛ لأن حياتهم الباقية أفضل منها الموت؛ بكثير.

- «العالم ناقصاً واحد»
هو عنوان رواية لميسلون هادي: تحطمت الطائرة المروحية، ونجا أحد الطيارين، بينما قضى الآخر نحبه. انتهت الحرب، وتسلم أهل الطيار المتوفى جثته التي تفسخت في أرض العدو. وتنمو في خاطر الأب بذرة شك تصير عزيزة على قلبه، وهي أن الجثة التي دفنها ليست لابنه. ويقصد في أحد الأيام أهل الطيار الثاني؛ الحي، وينفي هؤلاء أي اتصال بينهم وبين ابنهم الأسير؛ لأن الطيارين الأسرى يُسجنون في زنازين تحت الأرض، ولا يُبلغهم أحدٌ حتى موظفو الأمم المتحدة. يُخفي الأب عن هؤلاء شكه الذي صار بمرور الأيام يقيناً بأنه تسلم رفات ابنهم؛ لأن لباس الجثة الداخلي ليس ما يرتديه ابنُه. هذه القطعة التافهة من الثياب يدين الأب لها بالفضل لأنها دلته على بقاء ابنه حياً. أي قطعة ثمينة هي إذن؟! ثم يغادر الأب عائلة الطيار، ويتركهم هانئين لأنهم يعتقدون أن ابنهم حي، فما الذي يجنيه لو أنه جردهم من هذه النعمة؟! وتنتهي الرواية بالعذاب الجديد الذي صار يقاسيه الأب، وكان يخفي كل شيء من وساوسه عن زوجته؛ أم الفقيد، رفقاً بها وعطفاً عليها.

- «حسين أبو روحين»
كان هذا الرجل يقيم مأتماً لابنه المقتول في الحرب، وفي اليوم الثاني من مجلس العزاء جاءه عريف في الجيش يخبره بأنه تسلم الجثة عن طريق الخطأ، فالجندي الذي دفنه ليس ابنه:

- «ابنك جريح، ويرقد في مستشفى البصرة العسكري».
قال له العريف، وودعه. لم يخبر الأب أحداً من أهل بيته بالأمر، وكي يتأكد من الأمر زار المستشفى، وعثر على ابنه راقداً في الردهة الجراحية، أُجريت له عملية استخراج طلق ناري من ذراعه، وهو في حالة حسنة. اطمأن الأب، وعاد إلى قريته، وجمع أهل بيته وأخبرهم بالأمر. أُطلقت الزغاريد في الحال، لكنه أخرسها، وطلب منهم الاستمرار في مراسم العزاء ترحماً على روح الجندي الذي دفنه بيديه، فمن سيقيم العزاء عليه سواه؟! يروي الحكاية القاص والمترجم حسن ناصر في قصة قصيرة ضمن مجموعته «تجليات العابر». الحكاية حقيقية على الأغلب، ويذهب بنا الخيال كيف ظل يتردد صداها في المنطقة، وسيشتهر الأب بعد ذلك اليوم بهذا اللقب «حسين أبو روحين»، وأظن أن من ابتكره يمتلك خيالاً قادراً على إبداع صور وصفية فيها سحرٌ ما، نقرأه في كتب الأدب.

- «أوليس»
أختم المقال بقصة حقيقية عاش أبطالها في مدينتي، وكنت شاهداً على تفاصيل وأحداث جمعتُ تفاصيلها وصارت قصيدة نثر عنوانها «تفاهة»: جرى الأمر على هذا النحو: «بنيلوبي طلقت زوجها وهو في الأسْر. تزوجتْ أخاه، طالية أيامها بلُجين الفضة، بشراريف الذهب عاد (أوليس) من الأسر، وفتش أول ما فتش عن زوجته، عن بيته، وعن قوسه الشهيرة - قوس (أوليس) - ولم يعثر لها على أثر. أخوه صار حزبياً ذائع الصيت، وبنيلوبي تعمل عضوة عاملة في اتحاد نساء مدينة العمارة. جميعُ الأهل تنكروا لمحنة أوليس العظيمة... جميع الأصدقاء... جميع الأقارب، واختار (أوليس) أن يعمل حارساً. يقضي النهار في مقهى العمال، يدخن بشاربٍ أبيضَ، تغرق أقدامُه في رمل الحلم حتى الكاحل... حتى الركبتين، ويسبح في بحر الرمل كل يوم. لم يعد يكترث للقوس، إذا شاءت الصدفة العجيبة أن يلقى قوسَ أوليس الشهيرة؛ قوسَه، فسوف يرميها مثل النفاية، وكذلك خوذتَه، ومِجَنّه بنيلوبي أنجبتْ عشرة أبناء، آخرهم؛ آخر العنقود أسْمَتْهُ (أوليس)».



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.