أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا

رئيس الوزراء البرتغالي يحتفظ بالسلطة رغم صعود اليمين المتطرف

أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا
TT

أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا

أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا

كانت القمة الأوروبية في أحرج مراحل المفاوضات حول تحديد قيمة المساعدات المالية التي ستخصص للدول الأعضاء المتضررة من جائحة «كوفيد - 19» وشروط الحصول عليها، ويومها كانت تلك المفاوضات تهدد بانفراط عقد الاتحاد المنقسم بين دول الشمال ودول الجنوب. في حينه، أطلق رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو كوستا، الذي كانت بلاده تتولّى الرئاسة الدورية للاتحاد، عبارته الشهيرة التي وصف فيها الموقف الهولندي بأنه «مثير للقرف»... وتوجّه إلى رئيس وزراء هولندا يسأله «هل تريد لبلادك أن تخرج من الاتحاد؟».
تلك كانت نقطة التحول في مسار القمة التي انتهت بالموافقة على أكبر حزمة مساعدات في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ولقد استفادت منها بشكل أساسي «دول الجنوب»، مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان، التي كانت الجائحة بدأت تجهد اقتصاداتها المنهكة، وتهدد بانفجارات اجتماعية وتداعيات سياسية بعيدة المدى. وبعد تلك القمة بأشهر ثلاثة قلّد الملك فيليبي، عاهل إسبانيا، رئيس الوزراء البرتغالي الاشتراكي أرفع وسام وطني إسباني تقديراً لجهوده في الدفاع عن القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي خلال الرئاسة الدورية للاتحاد.
يوم الأحد الفائت، للمرة الثالثة منذ بداية جائحة «كوفيد - 19»، ذهب البرتغاليون إلى صناديق الاقتراع بعد سقوط الحكومة التي يرأسها أنطونيو كوستا، إثر خروج حلفائه اليساريين من الائتلاف الحاكم اعتراضاً على مشروع الموازنة الذي كان أمام البرلمان.
وبينما كانت جميع استطلاعات الرأي ترجّح تكرار التوزيع البرلماني نفسه للقوى السياسية، أسفرت النتائج عن حصول الحزب الاشتراكي بقيادة كوستا على الغالبية المطلقة. وكانت هذه المرة الثانية التي يكسب الاشتراكيون الغالبية المطلقة منذ عودة الديمقراطية إلى البرتغال عام 1985 إثر سقوط ديكتاتورية أنطونيو سالازار أمام «ثورة القرنفل» التي قادها ضبّاط يساريون معظمهم خدم مع وحدات الجيش الذي كان منتشراً في المستعمرات البرتغالية السابقة في القارة الأفريقية.
هذا الفوز الساحق في البرتغال للاشتراكيين بقيادة كوستا، كان مبعث ارتياح واسع وجرعة منشطة للأوساط الاشتراكية الأوروبية التي تجهد منذ فترة لاستعادة موقعها في المشهد السياسي الأوروبي، حيث تتقدم راهناً الأحزاب الشعبوية والقوى اليمينية المتطرفة.

يهوى التحديات الصعبة
أنطونيو كوستا، للذين يعرفونه جيداً، رجل يهوى المعادلات والتحديات الصعبة والمعقدة، ويتمتع بقدرة خارقة على الصبر والمناورة في أحلك الظروف وأدقها. كذلك يقولون، إن هذه الصفات التي يتحلى بها رئيس الوزراء البرتغالي هي التي دفعته في العام 2015 إلى أول تجربة من نوعها في تاريخ البرتغال عندما اقترح تشكيل تحالف القوى اليسارية، تمكن من وضع الحزب الاشتراكي في موقع قيادة حكومة ائتلافية يدعمها الحزب الشيوعي، وكتلك حزب اليسار وحزب «الخضر».
يومذاك لم يراهن أحد على نجاح تلك التجربة، التي اعتبرها متابعون كثيرون ضرباً من المستحيل، ليس فقط لأنها حاولت أن تجمع بين أحزاب متضادة في مجالات عديدة، بل لأنها كانت أول مرة يتولّى فيها رئاسة الحكومة الحزب الذي لم يحصل على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات العامة. غير أن ما وصفته المعارضة اليمينية في حينه بعبارة «العمل الصبياني»، تحوّل إلى تجربة مثالية أثارت إعجاب الشركاء الأوروبيين واستحقت ثناءهم؛ إذ صمدت ست سنوات قبل أن ينفرط عقد الائتلاف بسبب من اعتراض الحلفاء اليساريين على مشروع الموازنة، الذي أسقط الحكومة وأدى إلى إجراء الانتخابات الأخيرة... التي أسفرت عن فوز ساحق للاشتراكيين بما يزيد على 42 في المائة من الأصوات.

مفاوض ماهر ومنفتح
يشتهر أنطونيو كوستا، في الواقع، بمهارة عالية في التفاوض كانت سلاحه الأمضى طوال الفترة التي تولّى خلالها رئاسة الحكومة. في مستهل تلك الفترة أعلن، أن في طليعة أهدافه الرئيسية: توفير الاستقرار حتى نهاية الولاية التشريعية، ورفض التوصل إلى اتفاقات مع الأحزاب والقوى اليمينية، والفوز في الانتخابات العامة التالية. وكانت السنوات الست المنصرمة، التي قاد كوستا خلالها الحكومة الائتلافية، أول مرة يتوحد فيها اليسار البرتغالي وبالتالي يتولّى الحكم... الذي ظلت تتناوب عليه القوى اليمينية والوسطية منذ 47 سنة.
من جهة ثانية، وعلى الرغم من أن نتائج الانتخابات الأخيرة تضمن لكوستا حريّة التحرك من دون اللجوء إلى تحالفات أو تفاهمات مع القوى البرلمانية الأخرى، حملت تصريحاته الأولى دعوة صريحة إلى الحوار. إذ قال «إن الغالبية المطلقة ليست سلطة مطلقة ولا تفرّداً بالحكم، بل هي مسؤولية تقتضي الحكم من أجل جميع المواطنين. هذه الغالبية ستكون للحوار مع جميع القوى السياسية»، إلا أنه استثنى من الحوار المقترح حزب «شيغا» اليميني المتطرف.
الجدير بالذكر هنا، أنه بعد سنتين من ظهور جائحة «كوفيد - 19»، وسقوط حكومته إثر رفض مشروع الموازنة الذي قدمته في البرلمان، وأيضاً بعد حملة انتخابية معقّدة ذهبت بعض الاستطلاعات حد التوقع بفوز الأحزاب اليمينية، يخرج أنطونيو كوستا من هذه المعركة الطويلة بصورة «الاشتراكي الذي لا يُقهر» والزعيم القادر على انتزاع الغالبية المطلقة في أخطر مراحل التشرذم الحزبي الذي تعيشه البرتغال... ومن ثم، يتولّى رئاسة الحكومة لأطول فترة منذ انتصار «ثورة القرنفل».

بطاقة هوية
ولد أنطونيو كوستا يوم 17 يوليو (تموز) من عام 1961 لعائلة مسيّسة ومثقفة. فوالدته الصحافية المعروفة ماريّا أنطونيا بايّا، ووالده الكاتب أورلاندو كوستا - المولود في موزامبيق والمتحدر من أصول هندية - . وكان الوالد من أشد المعارضين لديكتاتورية سالازار. ولقد اعتقلته الشرطة السياسية مرات عدة بسبب نشاطه في الحزب الشيوعي، الذي كان أحد قادته في المستعمرات البرتغالية. مع الإشارة إلى أن والدته كانت ناشطة يسارية أيضاً... ولكن في صفوف الحزب الاشتراكي.
ومن ثم، كان من الطبيعي في هذه الأجواء التي نشأ عليها كوستا، أن يقرّر الانتساب إلى الحزب الاشتراكي وهو ما زال في الرابعة عشرة من عمره... وأن يردّد في مناسبات عديدة جملته الشهيرة «ولدت يساريّاً».
المقرّبون من الزعيم الاشتراكي، يقولون، إن كوستا كان دائماً أكثر اعتدالاً من والده، الذي كان ينخرط معه في نقاشات سياسية طويلة «إلا أنها لم تكن نقاشات بين أب وابنه، بل بين شيوعي واشتراكي»، كما يقول عمّه خورخي سانتوس الناشط هو أيضاً في الحزب الشيوعي.
وبمرور الأيام تدرّج كوستا في مواقع قيادية عديدة داخل الحزب الاشتراكي، كان آخرها - قبل توليه رئاسة الحكومة - منصب رئيس بلدية العاصمة لشبونة من العام 2007 إلى العام 2015، والحقيقة أن ولايته في الحكم المحلي كانت محط ثناء حتى من خصومه اليمينيين. وقبل تلك المحطة، كان كوستا نائباً في البرلمان الأوروبي، ثم عيّن وزيراً للداخلية في العام 2005 ضمن حكومة جوزيه سوكراتيش (سقراط) الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي، ووزيراً للعدل والشؤون البرلمانية في حكومة أنطونيو غوتيرّيش، الأمين العام الحالي للأمم المتحدة.

البدايات... والذكريات
يذكر كوستا في إحدى مقابلاته الصحافية، أن أول نشاط سياسي قام به في الثالثة عشرة من عمره غداة «ثورة 25 أبريل (نيسان)» عندما أقيلت مديرة المعهد الذي كان يدرس فيه. وحينذاك، بادر مع رفاقه إلى تنظيم حركة احتجاجية ضد القرار، واضطرت قوة عسكرية إلى التدخل بعدما احتلّ الطلاب سطح المعهد وراحوا يرمون الجنود بالحجارة.
وبعد إنهائه دراسته الثانوية، التحق أنطونيو كوستا بكلية الحقوق في جامعة لشبونة، حيث انخرط في الحركة الطلابية التي أصبح من قادتها البارزين مطلع ثمانينات القرن الماضي. وبعدما أنهى دراسته الجامعية، مارس المحاماة إلى جانب العمل السياسي لسنوات قبل أن يتفرّغ كلياً للسياسة اعتباراً من العام 1993.
وفي مضمار السياسة، يؤكد معاونوه وأصدقاؤه، أنه مثابر وحازم وماهر في إدارة المفاوضات، لكنه أحياناً «مندفع حد التهور»، ويجد صعوبة في التكيّف مع نتائج الحوار التي لا تكون حسب رغبته أو ضمن توقعاته.
مع هذا، اعتاد كوستا منذ شبابه على التعايش مع الآراء المتباينة في محيطه العائلي...بدءاً من النقاشات الحادة مع والده الشيوعي إلى الخلاف مع والدته الصحافية التي كانت ضد سياسة حكومة سوكراتيش - التي كان هو يشغل وزارة الداخلية فيها - وإلى زوجته التي خرجت غير مرة لتتظاهر ضد حكومة غوتيرّيش التي كان أيضاً وزيراً فيها. ولقد استمرّ هذا التباين في الآراء داخل العائلة إلى اليوم، خصوصاً مع شقيقه ريكاردو كوستا، الصحافي ومدير قسم الرأي في صحيفة «إكسبريسو» الواسعة التأثير في البرتغال، والذي غالباً من يوجّه انتقادات لاذعة إلى الحكومة وأدائها.
أما على الصعيد الشخصي، فإن كوستا متزوج وله ولدان، وشغفه الذي يعادل السياسة أو أكثر هو عشقه رياضة كرة القدم، وتحديداً نادي «بنفيكا» الشهير، وهو يواظب على حضور المباريات التي يخوضها «الفريق الأحمر» في البرتغال... وأحياناً في الخارج.
زوجة كوستا، تقول عنه بلهجة تحبب «أنطونيو ما زال إلى اليوم بالنسبة لأفراد عائلته يعرف بـ(بابوش) - وهي كلمة تعني الطفل بلهجة (كونكاني) في جزيرة غوا الهندية –». وكان والده أطلقها عليه بعدما رافقه في زيارة إلى الهند عندما كان ما زال يافعاً.
ووصف كوستا زيارته تلك، وخصوصاً إلى مدينة مومباي (بومباي)، بأنها «مدمّرة» لما شاهده من فقر وبؤس ومعاناة.
ولما عاد إلى غوا بعد سنوات، وكان قد أصبح رئيساً للوزراء، تذكّر والده الذي توفي عام 2006، وقال «تعلّمت عبارتين فقط بلهجة هذه المنطقة: بابوش، التي كان والدي يناديني بها، وبأبولو التي كان ينادي بها شقيقي». ورغم ما يُعرف عنه من برودة وصلابة في التعامل، ذرف الدمع وقال: «لا إنسانية رئيس الوزراء لها أيضا حدود».

إنجاز تاريخي يواجه يميناً متطرفاً
في أي حال، يشكّل هذا الفوز الأخير للاشتراكيين بقيادة أنطونيو كوستا إنجازاً تاريخياً في بلد لا يشهد عادة مثل هذه الانتصارات الساحقة، باستثناء العام 2005 عندما نال الحزب الاشتراكي أيضاً الغالبية المطلقة في البرلمان على عهد جوزيه سوكراتيش الذي يمثل حالياً أمام المحاكم بتهم الفساد واختلاس الأموال العامة. ويُذكر أنه بعدما مدّ هذا الأخير يد التعاون والحوار إلى جميع القوى البرلمانية، باستثناء اليمين المتطرف، غمز من قناة الأحزاب اليسارية المتطرفة والقوى الوسطية - التي استقطب الحزب الاشتراكي نسبة كبيرة من أصوات مؤيديها أعطته الأغلبية المطلقة -، وقال «إلى الاشتراكيين انضمّ عدد كبير من المواطنين ينتمون إلى مشارب سياسية مختلفة، بعد إدراكهم أن الحزب الاشتراكي اليوم هو الوحيد القادر على منح البلاد الاستقرار الذي تحتاج إليه في هذه الظروف الاقتصادية العصيبة».
في المقابل، ورغم توقع كثير من المراقبين أن تكون هذه الولاية الثالثة لكوستا في رئاسة الحكومة البرتغالية أسهل من الولايتين السابقتين - عندما كان يحتاج إلى التحالف مع القوى الأخرى لتأمين التغطية البرلمانية لحكومته – فإن مراقبين آخرين يرجحون أن يواجه كوستا معارضة شرسة من القوى اليمينية المتطرفة.
وهنا تشير إلى أن هذه القوى حققت صعودا عاموديا خلال السنوات الثلاث المنصرمة على حساب الأحزاب المحافظة المعتدلة... حتى أنها أضحت الآن القوة البرلمانية الثالثة في البرلمان الذي كانت قد دخلته للمرة الأولى عام 2019 بمقعد واحد فقط.



اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

هل نجح انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من سباق الرئاسة في تجنيب الديمقراطيين هزيمة... كانت تتجمع نُذُرها حتى من قبل «مناظرته الكارثية» مع منافسه الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترمب بكثير؟ الإجابة عن هذا السؤال، لا يختصرها الإجماع السريع الذي توافقت عليه تيارات الحزب لدعم كامالا هاريس، نائبة الرئيس الحالية. ذلك أن الصعوبات التي يواجهها الديمقراطيون، والأزمات التي لم يتمكنوا بعد من ابتكار الحلول لها، أكبر من أن يحتويها استعاضتهم عن مرشح مسنّ ضعيف وغير ملهم، بمرشحة شابة ملوّنة. ولكن مع ذلك، يبدو أن الديمقراطيين مقتنعون الآن بأنه باتت لديهم الفرصة لإعادة تصوير السباق على أنه تكرار لهزيمة مرشح «مهووس بالغرور والانتقام»، في حين يعيد خصومهم الجمهوريون تشكيل سياسات حزبهم، وفق أجندة قد تغير وجهه ووجهة أميركا، التي عدّها البعض، «دعوة للعودة إلى الوراء».

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».