أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا

رئيس الوزراء البرتغالي يحتفظ بالسلطة رغم صعود اليمين المتطرف

أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا
TT

أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا

أنطونيو كوستا يقدّم جرعة أمل إلى اشتراكيي أوروبا

كانت القمة الأوروبية في أحرج مراحل المفاوضات حول تحديد قيمة المساعدات المالية التي ستخصص للدول الأعضاء المتضررة من جائحة «كوفيد - 19» وشروط الحصول عليها، ويومها كانت تلك المفاوضات تهدد بانفراط عقد الاتحاد المنقسم بين دول الشمال ودول الجنوب. في حينه، أطلق رئيس الوزراء البرتغالي أنطونيو كوستا، الذي كانت بلاده تتولّى الرئاسة الدورية للاتحاد، عبارته الشهيرة التي وصف فيها الموقف الهولندي بأنه «مثير للقرف»... وتوجّه إلى رئيس وزراء هولندا يسأله «هل تريد لبلادك أن تخرج من الاتحاد؟».
تلك كانت نقطة التحول في مسار القمة التي انتهت بالموافقة على أكبر حزمة مساعدات في تاريخ الاتحاد الأوروبي. ولقد استفادت منها بشكل أساسي «دول الجنوب»، مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال واليونان، التي كانت الجائحة بدأت تجهد اقتصاداتها المنهكة، وتهدد بانفجارات اجتماعية وتداعيات سياسية بعيدة المدى. وبعد تلك القمة بأشهر ثلاثة قلّد الملك فيليبي، عاهل إسبانيا، رئيس الوزراء البرتغالي الاشتراكي أرفع وسام وطني إسباني تقديراً لجهوده في الدفاع عن القيم الأساسية للاتحاد الأوروبي خلال الرئاسة الدورية للاتحاد.
يوم الأحد الفائت، للمرة الثالثة منذ بداية جائحة «كوفيد - 19»، ذهب البرتغاليون إلى صناديق الاقتراع بعد سقوط الحكومة التي يرأسها أنطونيو كوستا، إثر خروج حلفائه اليساريين من الائتلاف الحاكم اعتراضاً على مشروع الموازنة الذي كان أمام البرلمان.
وبينما كانت جميع استطلاعات الرأي ترجّح تكرار التوزيع البرلماني نفسه للقوى السياسية، أسفرت النتائج عن حصول الحزب الاشتراكي بقيادة كوستا على الغالبية المطلقة. وكانت هذه المرة الثانية التي يكسب الاشتراكيون الغالبية المطلقة منذ عودة الديمقراطية إلى البرتغال عام 1985 إثر سقوط ديكتاتورية أنطونيو سالازار أمام «ثورة القرنفل» التي قادها ضبّاط يساريون معظمهم خدم مع وحدات الجيش الذي كان منتشراً في المستعمرات البرتغالية السابقة في القارة الأفريقية.
هذا الفوز الساحق في البرتغال للاشتراكيين بقيادة كوستا، كان مبعث ارتياح واسع وجرعة منشطة للأوساط الاشتراكية الأوروبية التي تجهد منذ فترة لاستعادة موقعها في المشهد السياسي الأوروبي، حيث تتقدم راهناً الأحزاب الشعبوية والقوى اليمينية المتطرفة.

يهوى التحديات الصعبة
أنطونيو كوستا، للذين يعرفونه جيداً، رجل يهوى المعادلات والتحديات الصعبة والمعقدة، ويتمتع بقدرة خارقة على الصبر والمناورة في أحلك الظروف وأدقها. كذلك يقولون، إن هذه الصفات التي يتحلى بها رئيس الوزراء البرتغالي هي التي دفعته في العام 2015 إلى أول تجربة من نوعها في تاريخ البرتغال عندما اقترح تشكيل تحالف القوى اليسارية، تمكن من وضع الحزب الاشتراكي في موقع قيادة حكومة ائتلافية يدعمها الحزب الشيوعي، وكتلك حزب اليسار وحزب «الخضر».
يومذاك لم يراهن أحد على نجاح تلك التجربة، التي اعتبرها متابعون كثيرون ضرباً من المستحيل، ليس فقط لأنها حاولت أن تجمع بين أحزاب متضادة في مجالات عديدة، بل لأنها كانت أول مرة يتولّى فيها رئاسة الحكومة الحزب الذي لم يحصل على أكبر عدد من الأصوات في الانتخابات العامة. غير أن ما وصفته المعارضة اليمينية في حينه بعبارة «العمل الصبياني»، تحوّل إلى تجربة مثالية أثارت إعجاب الشركاء الأوروبيين واستحقت ثناءهم؛ إذ صمدت ست سنوات قبل أن ينفرط عقد الائتلاف بسبب من اعتراض الحلفاء اليساريين على مشروع الموازنة، الذي أسقط الحكومة وأدى إلى إجراء الانتخابات الأخيرة... التي أسفرت عن فوز ساحق للاشتراكيين بما يزيد على 42 في المائة من الأصوات.

مفاوض ماهر ومنفتح
يشتهر أنطونيو كوستا، في الواقع، بمهارة عالية في التفاوض كانت سلاحه الأمضى طوال الفترة التي تولّى خلالها رئاسة الحكومة. في مستهل تلك الفترة أعلن، أن في طليعة أهدافه الرئيسية: توفير الاستقرار حتى نهاية الولاية التشريعية، ورفض التوصل إلى اتفاقات مع الأحزاب والقوى اليمينية، والفوز في الانتخابات العامة التالية. وكانت السنوات الست المنصرمة، التي قاد كوستا خلالها الحكومة الائتلافية، أول مرة يتوحد فيها اليسار البرتغالي وبالتالي يتولّى الحكم... الذي ظلت تتناوب عليه القوى اليمينية والوسطية منذ 47 سنة.
من جهة ثانية، وعلى الرغم من أن نتائج الانتخابات الأخيرة تضمن لكوستا حريّة التحرك من دون اللجوء إلى تحالفات أو تفاهمات مع القوى البرلمانية الأخرى، حملت تصريحاته الأولى دعوة صريحة إلى الحوار. إذ قال «إن الغالبية المطلقة ليست سلطة مطلقة ولا تفرّداً بالحكم، بل هي مسؤولية تقتضي الحكم من أجل جميع المواطنين. هذه الغالبية ستكون للحوار مع جميع القوى السياسية»، إلا أنه استثنى من الحوار المقترح حزب «شيغا» اليميني المتطرف.
الجدير بالذكر هنا، أنه بعد سنتين من ظهور جائحة «كوفيد - 19»، وسقوط حكومته إثر رفض مشروع الموازنة الذي قدمته في البرلمان، وأيضاً بعد حملة انتخابية معقّدة ذهبت بعض الاستطلاعات حد التوقع بفوز الأحزاب اليمينية، يخرج أنطونيو كوستا من هذه المعركة الطويلة بصورة «الاشتراكي الذي لا يُقهر» والزعيم القادر على انتزاع الغالبية المطلقة في أخطر مراحل التشرذم الحزبي الذي تعيشه البرتغال... ومن ثم، يتولّى رئاسة الحكومة لأطول فترة منذ انتصار «ثورة القرنفل».

بطاقة هوية
ولد أنطونيو كوستا يوم 17 يوليو (تموز) من عام 1961 لعائلة مسيّسة ومثقفة. فوالدته الصحافية المعروفة ماريّا أنطونيا بايّا، ووالده الكاتب أورلاندو كوستا - المولود في موزامبيق والمتحدر من أصول هندية - . وكان الوالد من أشد المعارضين لديكتاتورية سالازار. ولقد اعتقلته الشرطة السياسية مرات عدة بسبب نشاطه في الحزب الشيوعي، الذي كان أحد قادته في المستعمرات البرتغالية. مع الإشارة إلى أن والدته كانت ناشطة يسارية أيضاً... ولكن في صفوف الحزب الاشتراكي.
ومن ثم، كان من الطبيعي في هذه الأجواء التي نشأ عليها كوستا، أن يقرّر الانتساب إلى الحزب الاشتراكي وهو ما زال في الرابعة عشرة من عمره... وأن يردّد في مناسبات عديدة جملته الشهيرة «ولدت يساريّاً».
المقرّبون من الزعيم الاشتراكي، يقولون، إن كوستا كان دائماً أكثر اعتدالاً من والده، الذي كان ينخرط معه في نقاشات سياسية طويلة «إلا أنها لم تكن نقاشات بين أب وابنه، بل بين شيوعي واشتراكي»، كما يقول عمّه خورخي سانتوس الناشط هو أيضاً في الحزب الشيوعي.
وبمرور الأيام تدرّج كوستا في مواقع قيادية عديدة داخل الحزب الاشتراكي، كان آخرها - قبل توليه رئاسة الحكومة - منصب رئيس بلدية العاصمة لشبونة من العام 2007 إلى العام 2015، والحقيقة أن ولايته في الحكم المحلي كانت محط ثناء حتى من خصومه اليمينيين. وقبل تلك المحطة، كان كوستا نائباً في البرلمان الأوروبي، ثم عيّن وزيراً للداخلية في العام 2005 ضمن حكومة جوزيه سوكراتيش (سقراط) الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي، ووزيراً للعدل والشؤون البرلمانية في حكومة أنطونيو غوتيرّيش، الأمين العام الحالي للأمم المتحدة.

البدايات... والذكريات
يذكر كوستا في إحدى مقابلاته الصحافية، أن أول نشاط سياسي قام به في الثالثة عشرة من عمره غداة «ثورة 25 أبريل (نيسان)» عندما أقيلت مديرة المعهد الذي كان يدرس فيه. وحينذاك، بادر مع رفاقه إلى تنظيم حركة احتجاجية ضد القرار، واضطرت قوة عسكرية إلى التدخل بعدما احتلّ الطلاب سطح المعهد وراحوا يرمون الجنود بالحجارة.
وبعد إنهائه دراسته الثانوية، التحق أنطونيو كوستا بكلية الحقوق في جامعة لشبونة، حيث انخرط في الحركة الطلابية التي أصبح من قادتها البارزين مطلع ثمانينات القرن الماضي. وبعدما أنهى دراسته الجامعية، مارس المحاماة إلى جانب العمل السياسي لسنوات قبل أن يتفرّغ كلياً للسياسة اعتباراً من العام 1993.
وفي مضمار السياسة، يؤكد معاونوه وأصدقاؤه، أنه مثابر وحازم وماهر في إدارة المفاوضات، لكنه أحياناً «مندفع حد التهور»، ويجد صعوبة في التكيّف مع نتائج الحوار التي لا تكون حسب رغبته أو ضمن توقعاته.
مع هذا، اعتاد كوستا منذ شبابه على التعايش مع الآراء المتباينة في محيطه العائلي...بدءاً من النقاشات الحادة مع والده الشيوعي إلى الخلاف مع والدته الصحافية التي كانت ضد سياسة حكومة سوكراتيش - التي كان هو يشغل وزارة الداخلية فيها - وإلى زوجته التي خرجت غير مرة لتتظاهر ضد حكومة غوتيرّيش التي كان أيضاً وزيراً فيها. ولقد استمرّ هذا التباين في الآراء داخل العائلة إلى اليوم، خصوصاً مع شقيقه ريكاردو كوستا، الصحافي ومدير قسم الرأي في صحيفة «إكسبريسو» الواسعة التأثير في البرتغال، والذي غالباً من يوجّه انتقادات لاذعة إلى الحكومة وأدائها.
أما على الصعيد الشخصي، فإن كوستا متزوج وله ولدان، وشغفه الذي يعادل السياسة أو أكثر هو عشقه رياضة كرة القدم، وتحديداً نادي «بنفيكا» الشهير، وهو يواظب على حضور المباريات التي يخوضها «الفريق الأحمر» في البرتغال... وأحياناً في الخارج.
زوجة كوستا، تقول عنه بلهجة تحبب «أنطونيو ما زال إلى اليوم بالنسبة لأفراد عائلته يعرف بـ(بابوش) - وهي كلمة تعني الطفل بلهجة (كونكاني) في جزيرة غوا الهندية –». وكان والده أطلقها عليه بعدما رافقه في زيارة إلى الهند عندما كان ما زال يافعاً.
ووصف كوستا زيارته تلك، وخصوصاً إلى مدينة مومباي (بومباي)، بأنها «مدمّرة» لما شاهده من فقر وبؤس ومعاناة.
ولما عاد إلى غوا بعد سنوات، وكان قد أصبح رئيساً للوزراء، تذكّر والده الذي توفي عام 2006، وقال «تعلّمت عبارتين فقط بلهجة هذه المنطقة: بابوش، التي كان والدي يناديني بها، وبأبولو التي كان ينادي بها شقيقي». ورغم ما يُعرف عنه من برودة وصلابة في التعامل، ذرف الدمع وقال: «لا إنسانية رئيس الوزراء لها أيضا حدود».

إنجاز تاريخي يواجه يميناً متطرفاً
في أي حال، يشكّل هذا الفوز الأخير للاشتراكيين بقيادة أنطونيو كوستا إنجازاً تاريخياً في بلد لا يشهد عادة مثل هذه الانتصارات الساحقة، باستثناء العام 2005 عندما نال الحزب الاشتراكي أيضاً الغالبية المطلقة في البرلمان على عهد جوزيه سوكراتيش الذي يمثل حالياً أمام المحاكم بتهم الفساد واختلاس الأموال العامة. ويُذكر أنه بعدما مدّ هذا الأخير يد التعاون والحوار إلى جميع القوى البرلمانية، باستثناء اليمين المتطرف، غمز من قناة الأحزاب اليسارية المتطرفة والقوى الوسطية - التي استقطب الحزب الاشتراكي نسبة كبيرة من أصوات مؤيديها أعطته الأغلبية المطلقة -، وقال «إلى الاشتراكيين انضمّ عدد كبير من المواطنين ينتمون إلى مشارب سياسية مختلفة، بعد إدراكهم أن الحزب الاشتراكي اليوم هو الوحيد القادر على منح البلاد الاستقرار الذي تحتاج إليه في هذه الظروف الاقتصادية العصيبة».
في المقابل، ورغم توقع كثير من المراقبين أن تكون هذه الولاية الثالثة لكوستا في رئاسة الحكومة البرتغالية أسهل من الولايتين السابقتين - عندما كان يحتاج إلى التحالف مع القوى الأخرى لتأمين التغطية البرلمانية لحكومته – فإن مراقبين آخرين يرجحون أن يواجه كوستا معارضة شرسة من القوى اليمينية المتطرفة.
وهنا تشير إلى أن هذه القوى حققت صعودا عاموديا خلال السنوات الثلاث المنصرمة على حساب الأحزاب المحافظة المعتدلة... حتى أنها أضحت الآن القوة البرلمانية الثالثة في البرلمان الذي كانت قد دخلته للمرة الأولى عام 2019 بمقعد واحد فقط.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».