الحضور الفرنسي ـ الأوروبي في مالي بين رحيل صعب وبقاء مستحيل

باستثناء بيان مقتضب ويتيم صدر عن وزارة الخارجية الفرنسية، أول من أمس، تقول فيه إن باريس «أخذت علماً» بقرار سلطات مالي إبعاد سفيرها من باماكو خلال مهلة 72 ساعة وطلبها منه «العودة الفورية» إلى فرنسا وتصريحات الناطق باسم الحكومة غبريال أتال المختصرة أمس، فإن كبار المسؤولين الفرنسيين كانوا في الساعات الماضية غائبين عن السمع فيما الأزمة الناشبة بين باريس وباماكو تتفاعل وتهدد الخطط الفرنسية؛ أكان في مالي أم في منطقة الساحل بأكملها.
ويبدو أن باريس لم تكن تتوقع طرد سفيرها من مستعمرتها السابقة التي أرسلت إليها قواتها منذ عام 2013 لإنقاذ نظامها ومنع سقوطها بأيدي التنظيمات الجهادية والإرهابية، وأوجدت قوة «برخان» منذ عام 2014 وزادت عديدها حتى فاض على 5300 رجل، نصفهم انتشر على الأراضي المالية. وها هي اليوم تجد نفسها في «ورطة»؛ فلا هي قادرة على البقاء في الظروف الراهنة، ولا حتى رحيلها سهل. ولذا، فإن ما تسعى إليه اليوم هو كسب الوقت والتشاور مع حلفائها في قوة «تاكوبا» الأوروبية من أجل اتخاذ قرار جماعي. في تصريحاته أمس، شدد الناطق الحكومي على نقطتين: الأولى أن «الحرب على الإرهاب التي تقوم بها فرنسا سوف تتواصل في بلدان الساحل وليس في مالي وحدها». والثانية أن باريس لن تتسرع في اتخاذ قرار بشأن مصير قواتها هناك وأنها «منذ اليوم وحتى منتصف شهر فبراير (شباط) الحالي سوف نعمل ما شركائنا لنرى ما التحولات» الواجب اتخاذها «بشأن حضورنا الميداني».
وفي عبارة تحمل العديد من المعاني قال أتال: «لقد بدأنا خفض عديد قواتنا بالتدريج، وسوف نستمر في ذلك، وسلمنا عدداً من القواعد (إلى الجيش المالي)». وبحسب المصادر الفرنسية، فإن باريس تريد التشاور مع الدول الأوروبية الـ14 الضالعة في قوة «تاكوبا» المكونة من وحدات كوماندوز فرنسية - أوروبية والتي ما زال عديدها متواضعاً (أقل من ألف رجل)، ولكن أيضاً مع دول مجموعة غرب أفريقيا التي فرضت عقوبات شديدة على الطغمة العسكرية الحاكمة في مالي. وأعلن الجنرال بيار شيل، رئيس أركان القوات البرية الفرنسية أن «وحدات (برخان) تواصل العمل بشكل يومي مع القوات المالية». وللتذكير؛ فإن العسكر وصلوا إلى السلطة عقب انقلابين عسكريين في أغسطس (آب) من عام 2020 ومايو (أيار) من العام الماضي، وإن الرجل الأقوى في باماكو حالياً هو الكولونيل أسيمو غايتو.
وكان من الطبيعي أن تحظى باريس بدعم وتضامن شركائها الأوروبيين؛ وأولهم الدنمارك التي رفضت باماكو انضمام وحداتها العسكرية إلى قوة «تاكوبا» فجاء قرار كوبنهاغن بإعادتها من حيث أتت. وتلتها ألمانيا التي تشارك بقوة من 1300 رجل؛ ألف منهم في إطار القوة الدولية المسماة «مونيسمو»، والآخرون في سياق البعثة الأوروبية لتدريب القوات المالية. وجاء في بيان للخارجية الألمانية أن طرد السفير الفرنسي «غير مبرر، وهو يفضي إلى طريق مسدودة». وأضافت التغريدة الوزارية أن «الحاجة اليوم هي للحوار وليس للتصعيد، من أجل بلوغ الهدف المشترك؛ أي توفير الأمن ومحاربة الإرهاب في مالي». وسبق لوزيرة الدفاع الألمانية أن كشفت عن أن بلادها تريد «النظر» في حضورها العسكري في مالي بعد أن أعلنت السويد عن إنهاء مشاركتها في «تاكوبا» في بحر هذا العام. إلا أن كريستين لامبريخت كانت قد استبعدت سابقاً سحب الوحدات الألمانية.
وأخيراً، صدر تعليق عن «وزير» الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل الذي رأى أن طرد السفير الفرنسي «شيء لا يمكن تبريره»، مضيفاً أنه «يفاقم من عزلة مالي».
منذ وصول العسكر إلى الحكم في مالي قبل أقل من عامين توترت علاقاتهم مع الدولة المستعمرة السابقة. وزاد من توتيرها، إضافة إلى استعانة باماكو بمرتزقة مجموعة «فاغنر» الروسية الميليشياوية، قرار الطغمة العسكرية البقاء في السلطة وتمديد المرحلة الانتقالية لـ5 سنوات قبل إجراء انتخابات عامة كانت قد وعدت بالقيام بها خلال الشهر الحالي؛ الأمر الذي دفع بمجموعة دول غرب أفريقيا، بدعم فرنسي - أميركي - أوروبي، إلى فرض عقوبات قاسية تصل إلى حد فرض حالة حصار.
وتتهم باماكو السلطات الفرنسية بأنها دفعت المنظمة الإقليمية إلى اتخاذ مواقف وتدابير عدائية تجاهها. وأفضى التراشق الكلامي بين باريس وباماكو واتهام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ووزير خارجيته جان إيف لودريان الحكم الجديد بأنه «غير شرعي» وتصرفاته «مستفزة»، إلى توتير العلاقة بين الطرفين، وما فاقمها الإجراءات التي اتخذتها باماكو، مثل تقييد حركة الطائرات العسكرية الخاصة بالقوة الأوروبية، والمطالبة بإعادة النظر اتفاقية الدفاع مع باريس، ورفض انتشار القوة الدنماركية، وذلك كله على خلفية تجييش الشارع ضد فرنسا.
السؤال المطروح اليوم في باريس هو: «ماذا بعد؟ البقاء أم الرحيل؟ وما يزيد من حرج السؤال أن فرنسا غارقة في مخاض حملة انتخابية رئاسية سوف يغوص الرئيس ماكرون فيها بعد أيام قليلة. والحال؛ أن المعارضة يميناً ويساراً لا تتردد في التنديد بـ«الفشل» الفرنسي وبالصفعة التي تلقتها باريس. يقول كريسيان كامبون، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، إن باماكو «اجتازت الخطوط الحمر»، وإنه يتعين على الحكومة «اتخاذ قرارات صعبة»، واصفاً الوضع الراهن بأنه «بالغ التعقيد» وأنه «من الصعب المحافظة على انتشار قوة في بلد (مالي) حيث حكومته لا تتوانى عن التصويب علينا». وطالب كامبون؛ الذي ينتمي إلى اليمين المعارض، بمثول وزيري الخارجية والدفاع أمام لجنته لشرح الخطط الحكومية. كذلك حث الحكومة على استشارة البرلمان بشأن القرار المنوي اتخاذه، ملمحاً إلى أنه «لا مصلحة للحكومة» في أن يتدهور الوضع في مالي في الوقت الراهن.
وفي أي حال؛ يرى كامبون أن العسكر في مالي «يجرون باتجاه الهاوية». لكنه حذر بأن يكون الوضع يشبه كرة الثلج المتدحرجة؛ بحيث إن انسحاب الدنمارك سيشكل «إشارة سيئة للدول التي كانت تريد مساعدتنا مثل بولندا ورومانيا». ويتخوف آخرون من تأثير التطورات الراهنة على حضور القوة الدولية، فيما يرى مراقبون أن انسحاب القوة الفرنسية سيعني نهاية «تاكوبا» وترك مالي للجهاديين من جهة ولمرتزقة «فاغنر» من جهة أخرى، وهو ما لا تريده باريس ولا العواصم الغربية الأخرى.
ثمة قناعة في باريس اليوم بأنه لا خيارات «جيدة» اليوم بخصوص مستقبل الحضور العسكري الفرنسي - الأوروبي. ولأن الجميع يرى أن «استمرار الوضع على حاله غير ممكن»؛ فإن المؤكد أن باريس سوف تستمر في خفض عديد «برخان» في مالي والبحث على بدائل. وأحد الخيارات التي تُدرس يقوم على انتقال «تاكوبا» إلى النيجر على أن تستمر في محاربة التنظيمات الجهادية من هذا البلد أخذاً في الحسبان أن باريس ومعها العواصم المتعاونة لا تريد التخلي عن منطقة الساحل ولا عن محاربة التنظيمات الإرهابية فيها. لكن هذا الخيار نظري أكثر منه عملياً؛ إذ كيف يمكن للقوة الأوروبية الدخول والخروج من مالي من غير موافقة سلطات هذا البلد؟ يبقى أن الرهان الأخير ألا يقوى النظام العسكري على البقاء طويلاً في ظل العقوبات القاسية المفروضة عليه أفريقياً وأوروبياً.