مسرحية مشبعة بالثقافتين الإغريقية والرومانية والتاريخ الإسلامي

«حادثة إعدام الموتى» للراحل فائز الزبيدي

فائز الزبيدي
فائز الزبيدي
TT

مسرحية مشبعة بالثقافتين الإغريقية والرومانية والتاريخ الإسلامي

فائز الزبيدي
فائز الزبيدي

يقول الشاعر الألماني هاينه: «إذا أردت أن تكون شاعراً عظيماً، فكنْ إنساناً عظيماً».
كذا عرفت فائز الزبيدي، حينما كان يربي مواهبه الغضة بحرص شديد، وصبر أكيد، مزدانين بتواضع جذر، وشجاعة برعم يتفتح. فلا انتمى منابزاً بمسقط رأس، ولا تمذهب، أو تشيع، أو تحزب. زاملته أربع سنوات جامعية. عرفته شاعراً، وما نما إلى علمي يوماً أنه رسام محترف، إلا بعد أن أقام معرضاً في كلية التربية.
من معروضاته المبتكرة، لوحة جمجمة.
كل ما رأيته من جماجم من قبل، كان معفراً ملقى على التراب بصورة عشوائية. إلا في لوحة المرحوم فائز. هي بالضبط أشبه ببورتريه.
تحدق فيها فتبادلك النظرة بالنظرة بتجويفين مظلمين ثاقبين. تبادلك الابتسامة بفم منزوع الشفتين، مع ذلك، فضحك الأسنان مجلجل.
عنوان اللوحة، أكثر إلغازاً، «الضحك»، لكنْ ممن؟ مع مَنْ؟ ضحك على مَنْ؟ كل ما رأيتُ من جماجم من قبل ميت، فاقد للوعي إلا تلك الجمجمة البورتريه حية، إذا صح التعبير. تتحاور معك بصمت مريب. صمت حاد قاصم.
بعد حوالي خمسة وثلاثين عاماً من لوحة الضحك، كتب الزبيدي عام 1982 قصيدة عارية من أي عنوان، عارية من أي مساحيق بلاغية، أو عمليات جراحية تجميلية. نابتة مثل وصفة طبية. في هذه القصيدة وكأنها امتداد للوحة الجمجمة، تكون الصدفة هي مهب الريح وما الإنسان إلا ريشة.
الزبيدي يتحدث فيها عن الصدفة كأنها القضاء والقدر، ولا محيص. وحتى تكون للصدفة فاعلية آنية قصوى، اختار الزبيدي بمكنة فنان ماهر، من بين المخلوقات، جنوداً في غمار حرب. أحياءً أمواتاً في وقت واحد:
«يكون
يعود الجنودُ من الحرب مصادفة
يعود الجنود من الحرب
بساقين من دونما ذاكرة
مصادفة
يعود الجنود من الحرب
بلا أذرعٍ
بلا أوجه،
ولا أوسمة
مصادفة»
لو فرضنا أن الجمجمة موقف فلسفي من الوجود، وإن «الصدفة» موقف آخر، من عبثية الحياة، فإن مسرحية «حادثة إعدام الموتى» موقف من التأريخ في أعمق مآسيه شعبية: أي مأساة الحسين.
بهذه المسرحية يبلغ الزبيدي قمة نبوغه، وما أخصب. وسيرى القارئ أن هذه المسرحية مشبعة بالثقافتين: الإغريقية والرومانية فنياً، وبالتأريخ الإسلامي بوجه خاص. وقد يرى فيها النقاد عملاً هو الأول من نوعه، في تاريخ المسرح العربي، لأنها لا تصف الحدث، بقدر ما تستبطن نوازع الإنسان الداخلية وبالتالي تناقضاته، ومواجده.
مثل هذا الاستبطان جديد على الذهنية العربية. لكنْ قبل ذلك، نذكر أن فائز الزبيدي، شاعر، وكاتب قصة قصيرة، وروائي، ومترجم عن الروسية، وها هو يضيف إلى مواهبه مسرحية، هي يتيمة في نوعها، إلى مواهبه الجزلة الممرعة تلك. عنوان المسرحية مثير للفضول: «حادثة إعدام الموتى».
صدر الزبيدي المسرحية بمقدمة ضافية مدهشة، تكشف عن أن مؤلفها ذو خزين معرفي مثير للعجب.
في المسرح الإغريقي والروماني، وكذا شأنه، في وقائع التاريخ الإسلامي، لا سيما تلك المتعلقة بتراجيدية الحسين، كما تكشف عن ملكة نقدية نادرة في الفن التشكيلي.
عالج الزبيدي في هذه المقدمة، وهي دراسة اجتماعية وفلسفية، ثيمتيْن في الأقل: هما الذاكرة الشعبية وكيف تصنع «من خامات تأريخية ولا تأريخية، مادة ملحمة بطولية هي صورة لالتباس البطولي بالديني، التأريخي باللا تأريخي، المحدود بالمطلق». بالإضافة، وجد الزبيدي بمهارة فائقة، تشابهات ومتوازيات بين الذاكرة الشعبية والفن التشكيلي العراقي، وضرب مثلاً بلوحتينْ شهيرتين للرسام الرائد كاظم حيدر، هما: «مصرع إنسان»، و«ملحمة الحسين».
ما كتبه الزبيدي عن تينك اللوحتين، من حيث تحليل الألوان ودلالاتها يرقى إلى مستوى لا يبلغه إلا نقاد أقلاء في النقد التشكيلي.
يقول الزبيدي عن لوحة «مصرع إنسان»: «ابتكر كاظم حيدر كل ما له علاقة بالجانب البصري من مكونات اللوحة، خصوصاً الأزياء، وبذا ابتعد بموضوع اللوحة عن أن يبدو موضوعاً تأريخياً...». ثم يحلل بعد ذلك اللون الأخضر وتدرجاته، ودلالاته بدقة ناقد، ورقة فنان. يقول الزبيدي: «يصل (كاظم حيدر) بشفافية اللون الواحد، إلى حد الاقتراب من شفافية التصوير الشرقي الإسلامي، خاصة في درجات الأخضر. وهذه السمة أعطت (لا تأريخية) صورة القمع في اللوحة شيئاً من التأريخية عبر المجازات اللونية، والعروض المسرحية الدينية لموضوع المقتل»، قلنا إن فائز الزبيدي متشبع بالمسرح الإغريقي والروماني، ولكنه أقرب إلى الكاتب اللاتيني سنيكا (SENECA) في ثلاثة وجوه في الأقل. فمن حيث التقنيات الفنية كلاهما يلجأ إلى الحوارات الطويلة، ومن حيث رسم الشخصيات. كلاهما يستبطن النفس البشرية لتحليل أبعادها وتناقضاتها ودوافعها. (قيل إن العصر الإليزابيثي وبالأخص شيكسبير، تأثر بسينكا في هذا المنحى النفساني).
التشابه الآخر أن مسرحية «حادثة إعدام الموتى»، وإن كان المرحوم الزبيدي يطمح لأن تُمثل على خشبة المسرح، إلا أنها كما يبدو، تعطي ثماراً أينع وأنضج لو اعتبرت نصاً مسرحياً كُتب للقراءة. ولا ضير في ذلك فكل مسرحيات سينكا، بلا استثناء، كُتبت للقراءة.
لم يكن من هم هذه المقالة، دراسة هذه المسرحية، وإن كانت تطمح إلى ذلك في المستقبل. إنها مجرد تعريف بالمؤلف وبالمسرحية. مع ذلك لنتعرف ولو من باب الفضول، على إحدى تقنيات الزبيدي في التأليف المسرحي. المعروف أن معظم المؤلفين المسرحيين، يلجأون في الفصل الأول إلى إثارة فضول القارئ أو المشاهد. ففي ملحمة كلكامش راح الراوية في التسبيحة (Paean) يتوسع في «كلية» وجود ذلك المجهول (omnipresent)، وكلية معارفه (omniscient)، وكذلك استهل إيسخيلوس مسرحيته «أغاممنون» بالحارس الساهر الملول، وشكسبير بالساحرات الثلاث في مسرحية «ماكبث». درج فائز الزبيدي على هذا النهج فبدأ مسرحيته بأغرب مقدمة لإثارة فضول القارئ. يعترف المرتاب من أول سطر: «في القضية كلها أمر غامض. كل هذا الجيش لذلك الحطام الذي يسمونه الداعية. كهل متيبس... يكاد يكون بلا عظام... يلقي بنفسه من فوق حطام دار. ثم...! لا تكاد تجد منه شيئاً... هشاشة لا تصدق، امحت ملامحه... كل هذا الجيش لمطاردة مخلوق مثل هذا»، ويقول المستريب: «أمر غامض، لا ريب! يروي جنودي مائة قصة عنه»، وهكذا كلما دخلت شخصية أضافت غموضاً جديداً. كذا يتصاعد الفضول والتحرق، لمعرفة كنه تلك الشخصية الغامضة.
يمكن القول إن مسرحية «حادثة إعدام الموتى» منعطف في تاريخ المسرح العراقي نهجاً وفناً، ومعالجة.



في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط
TT

في تفسير الظاهرة الأدبية

ادوارد الخراط
ادوارد الخراط

هل تتحقق الظواهر الأدبية والشعرية لمحض اتفاق بين جلساء وجليسات دعتهم صحبة ما للتداول هزلاً وجداً في الشأن الثقافي؟ ربما يستعين المرء بما تحقق لجماعة الديوان سنة 1917. وفعلياً سنة إصدار مجلة بهذا الاسم سنة 1922. لكننا ننسى أن الجماعة لم تأتلف على أمر غير الانعتاق من هيمنة أحمد شوقي على المشهد الشعري والتمرد جزئياً على ظاهرة الركود الشكلي للقصيدة إزاء ما يقرأون من الشعر الرومانسي الغربي، لا سيما جماعة الرومانتيكية الإنجليزية: روبرت ووردزورث، وصاموئيل تايلر كوليرج، وهنري بيرسي شيلي، وجون كيتس ولورد بايرون، وكذلك دي كونزي وغيرهم.

نازك الملائكة

وقرأوا أشعار (هاينه) في سياق الولع بالظاهرة الرومانسية الجرمانية: ويقابل هذا الولع، تطلع مجموعات أخرى إلى تنويريي القرن الثامن عشر في فرنسا بشكل خاص، كما يتبين في كتابات المبدعة والمثقفة في عدة لغات، والأديبة (مي زيادة) صاحبة الصالون، والتي انهمك في حبها أحد أعضاء مدرسة الديوان المبجلين: أي عباس محمود العقاد. ننسى أيضاً أن ثلاثي الديوان (عبد الرحمن شكري، وإبراهيم عبد القادر المازني، والعقاد) سرعان ما تفرق شملهم بعدما فُجع عبد الرحمن شكري بما أعده في حينه «سرقات إبراهيم عبد القادر المازني» من الرومانسيين الإنجليز ومن «هاينه». كان عبد الرحمن شكري خريج فرع اللغة الإنجليزية، وتعلم جزئياً في إنجلترا، ومكنته درايته المعرفية من التقاط أصداء الكلمات والصور، ونبض الأحاسيس. لم يكن معنياً بما سيجيء به اللاحقون في تأويل تشكّل النص الأدبي أو الشعري على أنه في النتيجة مجموعة من الاقتباسات الظاهرة والمخفية، كما يرى (رولان بارت) ووافقه عليه آخرون بعد أن عرضت جوليا كريستفا لسيمائية النصوص، وتمعنت في التركيبة الموزائيكية الأفقية والعمودية المتشكلة في النص. ولم ينشق ناقد ماركسي من أمثال (ماشيري) عن الاعتراف بأن النص لا يأتي وحيداً، لأنه تقاطع مع نصوص أخرى وقراءات هي في النتيجة ما يتشكل منه الجديد.

قالت العرب على لسان كاتب القرن التاسع ابن أبي الطاهر طيفور «كلام العرب ملتبس بعضه ببعض». سيعيد أبو الطيب المتنبي ذلك لأن «كلام العرب يمسك بعضه برقاب بعض»، وقال أيضاً بوقوع «الحافر على الحافر» في توارد الكلمات والصور والمعاني. وكما عُرف عند دارسي إليوت، ومنهم الأجانب الكثر، والعرب طيلة عقود منذ منتصف الخمسينات، أن «الأرض الخراب» هي تلفيقات منحها ذهنه في ظرف معين تكاملاً شكلياً ومعنوياً تجاوب مع أصداء حياته المضطربة ومخاض عالم ينهار في حروب ومقاتل. لا ننسى بهذا الخصوص أن «التلفيق» عند العرب هو اصطياد صور ومعانٍ من عدة أشعار ومبانٍ بما يتيح لهذا الصيد الائتلاف والثراء. وكما يقول ابن رشيق القيرواني: بَرع أبو الطيب المتنبي في ذلك وأجاد. وهذا سر ذيوع شعره.

وللقارئ الحق أن يقول إن جماعة «أبولو» اللاحقة للديوان التي جمعها أحمد زكي أبو شادي كانت بينة المعالم، واضحة المقاصد، آخذة من دون وجل من الرومانسية الفرنسية والإنجليزية والألمانية كما يفعل خليل مطران معنية بما تعده جسور الوصل والتواصل مع الثقافات الأوروبية. كما يعرض لذلك إلياس أبو شبكة في كتابه عن «الروابط» بين العرب والإفرنجة.

كانت الثلاثينات مهاد حراك أدبي وفكري وسياسي. وتكرر فيها ظهور الجماعات والأحزاب والكتل: فهي مخاضات ما بين حربين في عالم يتغير وتتبلور ملامحه آيديولوجياً في تعسكر بينٍ. وكان السياب والبياتي وجواد سليم وبلند الحيدري ونازك الملائكة والتكرلي وعبد الملك نوري وعيسى مهدي الصقر يولدون في ذلك العقد.

وعندما تمرد جيل من الشباب على هرم الكتابة الروائية نجيب محفوظ مثلاً وجاء إدوار خراط بـ«جاليري» في خاتمة الستينات: كان يستجيب وصحبه لضغط اللحظة، وهو ضغط لم يتحدد بمحفوظ وهيمنة كتابته الروائية. لأنّ محفوظ نفسه كتب «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» ليلتقط هذا النبض الذي عجز عن تلمسه جيداً، ولكنه أثاره كمشكلة قائمة.

استجاب إدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وجمال الغيطاني وفؤاد التكرلي وإبراهيم أصلان والعشرات من الكتاب والكاتبات لضغط اللحظة الستينية: لحظة الرفض والتطلع والفجيعة وحرب فيتنام وفشل البنى التقليدية ومنظوماتها في متابعة هذا النبض الذي جعلت منه حرب فيتنام الوحشية ومجازر المستعمر الفرنسي في الجزائر وغيرها، يتعالى في القصيدة والقصة والرواية والموسيقى والسلوك، في الشارع والمؤسسة الأكاديمية، وفي المنزل التقليدي: كان العالم يهتز وتتحقق أطروحة غرامشي عن «الكتلة التاريخية» الجديدة: الطلبة والعمال وغيرهم. لهذا ظهرت حركات شعرية وروائية مختلفة تصدرتها منذ الخمسينات وقبلها بقليل جماعة النبض «Beat» (ألن غنسبيرغ) ولورنس فرلنغتي، ولم تَعُدْ الحياة الأكاديمية كما كانت. وكان على وقار «الأكاديمية» التقليدي أن يرضخ للحرية التي تطرق بابه بعنف. لهذا جاءت «جاليري» موفقة لفترة بينما باءت مجموعة البيان الشعري 69 بالانفراط: إذ ليس ثمة جامع بين فاضل العزاوي وخالد علي مصطفى وسامي مهدي وفوزي كريم عدا الرغبة في المشاكسة: وجاء البيان واعداً، ولكن من دون رصيد. كان يسعى للتعكز على حركات وتيارات وظواهر شعرية عالمية يقرأ عنها الشباب من غير تلمس مخاضات التكوين الستيني: الرفض العميق المنبعث من محنة أكبر.

الظاهرة الأدبية ليست رغبة فرد؛ بل هي هاجس جيل يتناغم مع غيره وتحدوه آمال وتطلعات. وحتى إذا ما كان ينطلق من رفض أعم، إلَّا أن الرفض لوحده لا يحقق ظاهرة إن لم يتشكل في مهادات تتناجى مع غيرها على صعد المجتمعات، والحركات، والأمم، والثقافات. ويخطئ من يتصور أن اجتماع ثلاثة أو أربعة على أمر يعني إمكانية التصدر الثقافي: إذ تعجز الإرادة لوحدها عن تكوين الظاهرة التي ينبغي أن تنبعث من حقيقة أمر ما: فالمحدثون أيام بني العباس لم يألفوا هذه التسمية التي أطلقت لاحقاً على مسلم بن الوليد وبشار بن برد وأبي نواس وسلم الخاسر، ثم أبي تمام. كما أن الظاهرة لا تتشكل إلّا مشاكسة لنقيض، كالقدامة، التي التزمت عمود الشعر ولغة القدماء أيام توسع الحواضر التي لم تعد تألف لغة البداوة! وكما هو الأمر من قبل فإن القرن العشرين وما تلاه مجموعة مخاضات وظواهر تحتمها وقائع وحالات، ومن ثم ظواهر أدبية.

* جامعة كولومبيا - نيويورك