رغم أن ما يسمى «صيغة نورماندي» التي أطلقت في العام 2015 لإيجاد حلول سياسية للأزمة الأوكرانية ولتطبيق مضمون اتفاقيات مينسك الخاصة بتسوية أوضاع منطقة الدونباس الانفصالية شرق أوكرانيا التي تحظى بدعم روسي، لم تعط النتائج المنتظرة منها، إلا أنها بقيت القناة الوحيدة للتواصل بين موسكو وكييف. وفي ظل التصعيد القائم حاليا على الحدود الروسية - الأوكرانية، نجحت باريس ومعها برلين في إعادة تفعيل هذه اللجنة الرباعية «روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا»، وجعلها الوسيلة المتوافرة من أجل خفض التوتر، وقناة للحوار بين الطرفين المتنازعين. وجاء اجتماع باريس الذي حصل أمس على مستوى المستشارين السياسيين للقادة الأربعة ليشكل بارقة أمل في مشهد متوتر يسوده التهديد والوعيد المتبادلين بين موسكو والعواصم الغربية. وفي ظله، برز بقوة الموقف المشترك الفرنسي - الألماني الذي حملته تصريحات الرئيس إيمانويل ماكرون والمستشار أولاف شولتز في برلين مساء أول من أمس كعلامة فارقة ومتميزة بتركيزه على ضرورة معاودة إبقاء قناة الحوار مع موسكو مفتوحة.
لم يكتف الرئيس الفرنسي بذلك، بل ذهب أبعد منه بقوله إنه سيجري مباحثات هاتفية مع نظيره الروسي غدا الجمعة لا بل إنه مستعد للانتقال إلى روسيا برفقة المستشار الألماني للتعبير عن «موقف فرنسي - ألماني مشترك نحن نتبناه». وأكد ماكرون أن الغرض من الاتصال الهاتفي «تقييم مجمل الوضع» والتعرف على ما تعتزم روسيا فعله في أوكرانيا إضافة إلى إطلاق «حوار متطلب» ليس بشأن أوكرانيا وحدها وإنما أيضا بخصوص الأمن في أوروبا. وبالطبع، لم ينس ماكرون ولا شولتز التأكيد على أن أي اعتداء روسي على أوكرانيا سيكون «ثمنه باهظا». إلا أن المسؤوليْن تمسكا بالحوار وسيلة للتوصل إلى حلول سياسية. ودعا المستشار الألماني روسيا إلى القيام بـ«خطوات واضحة تساهم في التهدئة وخفض التصعيد»، مضيفا أن «السبيل الوحيد للخروج من هذا الوضع الصعب هو تشجيع التواصل بكل الصيغ الممكنة». إلا أن الدعوة إلى الحوار ترافقت مع التحذير من أن أي اعتداء عسكري سيؤدي إلى «عواقب وخيمة». وأشار ماكرون إلى أن اجتماع باريس سيليه اجتماع مماثل آخر في برلين. ولا تتوقف المبادرات الفرنسية - الألمانية عند هذا الحد، إذ أعلن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أمام البرلمان ليل أول من أمس أنه عازم على القيام بزيارة لـكييف مع نظيرته الألمانية. وبحسب ماكرون، فإنه من الضروري المحافظة على كافة قنوات التواصل مع روسيا والتخلي عنها يعني «نفض اليد من الحلول السياسية». وأمس، رأت الخارجية الفرنسية أن الغرض من كافة هذه التحركات «استكشاف كل القنوات التي من شأنها دفع روسيا لمسار خفض التصعيد». وتجدر الإشارة إلى أن التواصل الفرنسي - الروسي يتزامن مع الاجتماع الجديد المفترض يوم الجمعة بين وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة.
وباريس وبرلين، رغم تهديدهما المشترك باتخاذ تدابير وعقوبات مؤلمة ضد روسيا، لا تريدان الارتهان لموجة التصعيد الأميركية - البريطانية وتسعيان للمحافظة على هامش من المناورة للأوروبيين. من هنا، فإن تحقيق أي تقدم ولو كان صغيرا على صعيد اللجنة الرباعية يمكن أن يحسب لهما. وترى باريس أن اجتماع الأمس وإن كانت أهدافه محدودة، يمكن أن يشكل خطوة أولى في وصل خيوط الحوار خصوصا أنها، بالتعاون مع برلين، نجحت في دفع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى تجميد مشروع قانون تم تحضيره الصيف الماضي ويتناول «المرحلة الانتقالية» في منطقة الدونباس الانفصالية وفي شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في العام 2014 ويدعو مشروع القانون إلى إعادة ضم هاتين المنطقتين، ويصف روسيا بـ«الدولة المعتدية» ويحرم الانفصاليين من العفو المقرر وفق اتفاقيات مينسك ومن ممارسة حقهم في الانتخابات المحلية. وترفض موسكو كامل المشروع وتعتبره استفزازيا. وعمدت باريس وبرلين إلى تحضير الأرضية لاجتماع الأمس من خلال محادثات منفصلة أجريت في كييف وموسكو بداية الشهر الجاري. وكان ماكرون والمستشارة الألمانية السابقة ميركل قد سعيا إلى إعادة تفعيل «الرباعية» بالدعوة إلى قمة على غرار تلك التي حصلت في باريس نهاية العام 2019، وليس سرا أن الرغبة بالحوار والانفتاح على الرئيس بوتين ليسا محل إجماع أوروبي إذ رفضت دول أوروبية أعضاء في الاتحاد مقترحا فرنسيا - ألمانيا لقمة مشتركة مع روسيا الصيف الماضي. وعلى رأس هذه الدول بولندا ودول البلطيق ورومانيا.
أمس، عدت مصادر قصر الإليزيه أن ما سيحصل في الاجتماع الرباعي يمكن اعتباره «مؤشرا» لما يريده الطرف الروسي، وذلك قبل الاتصال بين ماكرون وبوتين. وشارك في الاجتماع المستشار الدبلوماسي للرئيس ماكرون السفير إيمانويل بون ونظيره الألماني ينس بلوتنير ومساعد رئيس الوزراء الروسي ديميتري كوزاك ومدير الإدارة الرئاسية الأوكرانية أندري يرماك. ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مصادر في قصر الإليزيه قولها إنه «من المشجع أن يقبل الروس العودة إلى هذه الصيغة الدبلوماسية وهي الوحيدة التي يشاركون فيها». وأضافت هذه المصادر أن باريس «وبرلين» تريدان خفض التصعيد الأمر الذي يمر بالحوار والردع بحيث إن العقوبات الردعية يمكن أن تساعد على الحوار. وخلاصتها أن العقوبات «ليست الرد الوحيد» على روسيا. ومن جانبه، توقع ديميتري بيسكوف، الناطق باسم الكرملين أن تكون محادثات باريس «طويلة ومفتوحة ومثمرة»، وأن تحقق أكبر قدر ممكن من التقدم فيما ربط وزير الخارجية سيرغي لافروف تفادي النزاع بأن تعمد كييف إلى تنفيذ بروتوكول «اتفاقيات» مينسك الذي أبرم بين روسيا وأوكرانيا في العام 2015، لكن لم ينفذ منه سوى القليل ويتبادل الطرفان التهم بشأنه.
هل ستفتح الخطوات المتواضعة ذات الطابع الإنساني «تبادل السجناء، فتح الطرق، احترام وقف إطلاق النار، الامتناع عن الاستفزازات...» التي يمكن أن يحققها الحوار الرباعي في باريس للجم موجة التصعيد الروسي - الأميركي؟ ثمة شكوك كبيرة تحيط به بالنظر لما يصدر عن واشنطن وموسكو. وبنظر دبلوماسيين في باريس، فإن المسألة تتجاوز أوكرانيا وتتناول مساعي روسيا لفرض توازنات جيوسياسية جديدة في أوروبا تريد منها أن تمحو ثلاثين عاما من التطورات التي تلت انهيار حلف وارسو والاتحاد السوفياتي وتمدد الحلف الأطلسي باتجاه حدودها. ولذا، فإن ما يحصل في باريس «تفصيل مفيد إذا ساعد على عقلنة التطورات بعيدا عن التصعيد المتبادل بين قوى نووية يتعين عليها الابتعاد عن سياسة حافة الهاوية».
اجتماع رباعي في باريس لخفض موجة التصعيد في أوكرانيا
اجتماع رباعي في باريس لخفض موجة التصعيد في أوكرانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة