إشكالية الحضور العسكري الفرنسي ـ الأوروبي في مالي تعود إلى الواجهة

لا أخبار سارة تصل إلى باريس من منطقة الساحل هذه الأيام بل العكس هو الصحيح. وما يزيد الأمور تعقيداً الضبابية التي تحيط بخطط الحكومة الفرنسية بشأن مستقبل حضورها العسكري في المنطقة المذكورة خصوصاً في مالي. ففي خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون أول من أمس أمام البرلمان الأوروبي أشار إلى التئام قمة أوروبية - أفريقية في بروكسل منتصف الشهر القادم ولكنه امتنع عن تناول الوضع العسكري والسياسي في المنطقة المذكورة. وآخر تعليق رسمي فرنسي صدر نهاية الأسبوع الماضي عن وزير الخارجية وذلك على هامش اجتماعات وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في مدينة بريست «غرب فرنسا» حيث أعلن جان إيف لو دريان أن قوات بلاده «موجودة في مالي وستبقى ولكن ليس بأي ثمن». بيد أن لو دريان لم يحدد طبيعة الظروف التي ستدفع باريس لترحيل قواتها من مالي التي أرسلت إليها في إطار قوة «برخان» قبل ثماني سنوات. وهذا الكلام قاله أيضاً «وزير» الشؤون الخارجية الأوروبي جوزيب بوريل الذي استفاد من المناسبة ليؤكد أن الاتحاد الأوروبي سيعمد إلى فرض عقوبات على السلطات المالية المنبثقة عن انقلابيين عسكريين في أقل من عام بحيث تحتذي بالعقوبات التي فرضتها مجموعة غرب أفريقيا على باماكو في اجتماعها الأخير. وكانت باريس تهدد بأن وصول ميليشيا «فاغنر» الروسية إلى مالي سيعني خروج قواتها الأمر الذي سيتبعه، بلا شك، رحيل القوات الأوروبية المشاركة إن في قوة «تاكوبا» المكونة من وحدات كوماندوس أوروبية خاصة لمواكبة القوات المالية أو تلك التي تشارك في القوة الأممية «مينوسما» مثل ألمانيا التي لديها نحو ألف رجل، لكن طلائع «فاغنر» التي فرض عليها الأوروبيون عقوبات الشهر الماضي وصلت إلى مالي وبدأت انتشارها ما عد رفضاً للتهديدات الفرنسية. وكانت النتيجة أن باريس أعادت النظر بموقفها لأنها «لا تريد أن تترك مالي لـفاغنر» التي تتهمها بارتكاب جرائم وزعزعة الاستقرار ونهب البلدان التي تنتشر فيها.
حقيقة الأمر أن باريس تبحث عن مخرج. وقالت وزيرة الدفاع فلورانس بارلي إنه «يتعين على فرنسا إيجاد الطريق، رغم الصعوبات، لمتابعة المهمة التي وضعناها لأنفسنا والتي تطلب دول غرب أفريقيا دعمنا لها وهي مكافحة الإرهاب» مضيفة:» لدينا، أكثر من أي وقت مضى، مسؤولية نتحملها تجاه هذه البلدان وتجاه جميع الشركاء الأوروبيين الذين ينخرطون معنا في منطقة الساحل». ثمة ما يمكن اعتباره «مستنقع» الساحل... الرئيس ماكرون قرر،
حقيقة الأمر أن باريس تبحث عن مخرج مما يمكن اعتباره «مستنقع» الساحل بعد قرار الرئيس ماكرون، في شهر يونيو (حزيران) الماضي، انتهاء مهمة «برخان» وخفض عديد قوات بلاده في الساحل إلى النصف بحلول عام 2023. وبالفعل، سحبت باريس قواتها من ثلاث قواعد عسكرية شمال مالي وتتأهب لترك قواعد أخرى. وأمس، قالت الخارجية الفرنسية، في إطار مؤتمرها الصحافي الإلكتروني إن مشاورات تدور في الوقت الحاضر بين الشركاء الأوروبيين والأفارقة حول مالي في إطار «التحالف الدولي من أجل الساحل» وإن وزراء خارجية الاتحاد سوف ينكبون على هذه المسألة في اجتماعهم في بروكسل يوم الاثنين القادم. والمرجح أن يعمدوا إلى فرض عقوبات جديدة على مالي فيما التعاون العسكري ما زال قائماً بين «برخان» من جهة والقوات المسلحة المالية من جهة ثانية.
وكان الوزير المفوض فرانك ريستر قد ذكر أمام مجلس الشيوخ قبل يومين أن اجتماعاً مشتركاً أوروبياً - أفريقيا سوف يحصل قريباً، والأرجح أنه كان يشير إلى الاجتماع في إطار التحالف الدولي.
تدأب قيادة الأركان الفرنسية في الحديث عن نجاحات ميدانية تحققها قوة «برخان» وهذا صحيح. وبرز نجاحها في الأشهر الماضية في القضاء على مجموعة من قادة التنظيمات الإرهابية خصوصاً تنظيم القاعدة، لكن هذه النجاحات لم تلجم الأنشطة الإرهابية واستمرار وقوع إصابات في صفوف القوة الفرنسية وآخرها إصابة أربعة من جنودها شمال بوركينا فاسو وقريباً من الحدود المالية، إصابة أحدهم خطرة، بسبب انفجار قنبلة مخبأة لدى مرور سيارة عسكرية رباعية الدفع. وتعمل «برخان» في بوركينا فاسو رغم أن أنشطتها الرئيسية تدور في مالي وأيضاً في المنطقة المسماة «الحدود المثلثة» (بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر).
قبل أيام قليلة، أعلنت وزيرة خارجية السويد أنا ليند، أن استوكهولم ستعمد خلال العام الجاري إلى سحب قوتها المشاركة في «قوة تاكوبا» الأوروبية المشتركة. وأضافت الوزيرة السويدية أن السؤال الذي سيتعين على الحكومة السويدية معالجته يتناول مصير القوة السويدية المشاركة في «مينوسما». وتسعى باريس إلى أن تكون «تاكوبا» البديل الأوروبي عن «برخان» الفرنسية. وبحسب وزارة الدفاع في باريس، فإنها تضم 14 بلداً أوروبياً. والحال أن عديدها لا يتجاوز الألف نصفهم من الفرنسيين ما يعني أن التجاوب الأوروبي ليس كافياً حتى اليوم. كذلك فإن ألمانيا تتساءل عن مستقبل حضورها العسكري في مالي حيث لها 1350 جندياً غالبيتهم «نحو الألف» في إطار القوة الدولية والآخرون في إطار «المهمة الأوروبية لتدريب القوات المالية». ولا شك أن قرار السلطات المالية أول من أمس منع طائرة عسكرية ألمانية من عبور أجوائها للوصول إلى النيجر رداً على عقوبات مجموعة دول غرب أفريقيا لن ينظر إليه على أنه عنصر مشجع للبقاء الألماني الميداني.
لا تتوقف الصعوبات الفرنسية عند هذا الحد. فإضافة إلى وصول «فاغنر» إلى مالي، ثمة عنصران آخران يسممان العلاقة مع باماكو أولهما تصاعد الشعور المعادي لفرنسا بين السكان وهو ما تؤججه الطغمة العسكرية الحاكمة. وخلال المظاهرات التي عرفتها باماكو ومدن رئيسية أخرى في مالي، سمعت هتافات تندد بفرنسا وهي تحملها مسؤولية العقوبات التي فرضها الأفارقة. وإذا نفذ الأوروبيون تهديداتهم بفرض عقوبات إضافية على مالي، فإنه ستكون لذلك ارتدادات سلبية على العلاقات بين باريس وباماكو التي هي أساساً متوترة منذ الانقلاب الأول في شهر أغسطس (آب) من عام 2020، ويتمثل العنصر الثاني بخطط العسكريين تخليهم عن وعدهم بإجراء الانتخابات العامة وتخطيطهم لتأجيلها إلى خمس أو ست سنوات ما يعني أن السلطات ستبقى بأيدي العسكريين طيلة هذه المدة وأن عودتها إلى المدنيين سوف تتأخر كثيراً وهو ما ترفضه باريس كما يرفضه الأوروبيون والأفارقة. في ظل هذا المشهد السياسي - العسكري القاتم، ينتظر الجميع في باريس ما سيقرره الرئيس ماكرون. فلا البقاء في مالي سهل نظراً إلى الصعوبات المتكاثرة ولا التخلي عنها وتركها لـ«فاغنر» حل مقبول.
وفي أي حال، فإن العسكريين يبررون تقربهم من «فاغنر» بـ«تخلي فرنسا عنهم». كذلك، فإن باريس لا تريد ترك بوركينا فاسو والنيجر لمصيرهما؛ إذ إنهما يواجهان بدورهما تنظيمات جهادية ناشطة. وحتى اليوم، لم تتم إثارة الملف في الجدل الانتخابي القائم في فرنسا القادمة على انتخابات رئاسية في شهر أبريل (نيسان) القادم، إلا أنه من المرجح طرحه ما يرتب على الرئيس ماكرون وحكومته توفير إجابات وافية ومقنعة لا يبدو أنها متوافرة في القوت الحاضر.