من المتعارف عليه أوروبياً أن يتوجه الرئيس الدوري للاتحاد الأوروبي إلى مقر البرلمان الأوروبي ليلقي خطاباً يعرض فيه أولوياته ورؤيته للأشهر الستة التي تعود إليه رئاسة النادي الأوروبي. من هنا، فإن الرئيس إيمانويل ماكرون يجد نفسه وفي وقت واحد رئيساً لفرنسا ورئيساً للاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً مرشحاً لولاية ثانية رغم أنه لم يعلن بعد ترشحه. بيد أن لا أحد يشك في أن الرئيس الشاب المولود في العام 1977 عازم على خوض المنافسة الرئاسية لولاية من خمس سنوات جديدة. من هنا، أهمية محطة مدينة ستراسبورغ التي تحتضن البرلمان الأوروبي لـماكرون الذي خاض المعركة الرئاسة السابقة حاملاً الراية الأوروبية التي ستكون من غير شك رايته للمعركة القادمة. لذا؛ كان من المهم أن يشكل الخطاب الذي ألقاه أمس نقطة فاصلة ودالة على طموحاته الأوروبية التي يريدها حبلى بالإنجازات رغم أن المحللين في باريس يرون أن الوقت المتاح أمامه لا يتعدى الأشهر الثلاثة المقبلة؛ لأنه بعد ذلك سيكون «غارقاً» في المستنقع الانتخابي. حقيقة الأمر، أن ما عرضه ماكرون أمس شكّل أكثر من «خريطة طريق» للأشهر القليلة المقبلة. لقد حمل معه «رؤية» عرضها على 705 نواب يمثلون 27 دولة، وينقسمون إلى سبع مجموعات سياسية عابرة للحدود. وتشاء الصدف أن يلقي ماكرون خطابه في اليوم التالي لانتخاب النائبة المالطية عن مجموعة اليمين «حزب الشعب الأوروبي» روبرتا ميتسولا، رئيسة للبرلمان عقب وفاة رئيسه السابق الإيطالي ديفيد ساسولي. ورغم أن ماكرون قدم في 9 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، في إطار مؤتمر صحافي، برنامج رئاسته الأوروبية، فإن خطاب الأمس ذهب أبعد من ذلك بكثير. ولعل أهم ما جاء فيه تركيزه الشديد على طموح بناء السيادة الأوروبية أو الاستقلالية الاستراتيجية وما تعينه على الصعد كافة.
يريد ماكرون أن يخوض في الأشهر المقبلة ولما بعدها مجموعة من «المعارك»، أولها معركة الدفاع عن القيم الأوروبية التي تلبس أسماء عديدة، أولها الديمقراطية الليبرالية، وهو النموذج الرائد داخل الاتحاد الأوروبي رغم التهديدات التي تتعرض لها في بعض دوله مثل بولنده والمجر ورومانيا. وتتزاوج هذه المعركة مع الدفاع عن دولة القانون والتمسك بـ«الوحدة» الأوروبية التي تعاني أحياناً من انقسامات حادة بين صفوف الأوروبيين. ويريد ماكرون، كما جاء في خطابه أمس، خوض معركة الدفاع عن السلام في القارة القديمة. وجوارها القريب والبعيد والدفع باتجاه التقدم العلمي والتكنولوجي ولكن خصوصاً إطلاق «الثورة الرقمية» بكل مندرجاتها. بيد أن هذه الأهداف كافة لا يمكن تحقيقها، من وجهة نظر الرئيس الفرنسي، ما لم تتوافر لأوروبا «السيادة» بمفهومها الواسع. فالوعد بتحقيق «التقدم» المستقبلي «لا يمكن أن يتم إنجازه إلا إذا تمكنت أوروبا من توفير الرد على الفوضى الجيوسياسية والتهديدات التي تحيق بها، أكان ذلك التهديد الإرهابي أو الهجمات السيبرانية أو الهجرات غير الشرعية». ولذا؛ يدعو ماكرون القارة القديمة إلى أن «تتسلح ليس بسبب الريبة إزاء القوى الأخرى؛ بل لضمان استقلالها في هذا العالم الذي يعرف العنف، وحتى تكون حرة في خياراتها وليست مرتهنة لخيارات الآخرين». أما الطريق إلى ذلك فتمر، وفق الرئيس الفرنسي، على المستوى الدفاعي، من خلال «بناء قوة عسكرية قادرة على الاستباق وتضمن الأمن في محيطنا». ومن الخطوات التي ستحقق في الأشهر المقبلة تبني «خطة «البوصلة الاستراتيجية» بمناسبة قمة ستعقد في فرنسا في شهر مارس (آذار) المقبل. وستوفر هذه «البوصلة» «العقيدة الخاصة للأمن الأوروبي بالتكامل مع الحلف الأطلسي بالتوازي مع استراتيجية صناعية ودفاعية واستقلالية تكنولوجية التي من دونها لا معنى لمشروع أوروبا الدفاعية». وأضاف ماكرون «بفضل الأجندة، ستتحول أوروبا إلى قوة للمستقبل، أي أن تكون متمكنة من التعاطي مع التحديات البيئوية والتكنولوجية والرقمية والجيوسياسية بمعنى أن أوروبا المستقلة يجب أن تكون قادرة على توفير الوسائل لذلك، وأن ترسم مصيرها بنفسها ولا تكون خاضعة لخيارات القوى الأخرى». وكان لافتاً أن الرئيس الفرنسي وعد بأن تفضي الأسابيع المقبلة إلى تقديم مقترح من أجل بناء «نظام جديد للأمن والاستقرار» يقرّه الأوروبيون ويتشاركون به لاحقاً مع حلفائهم الأطلسيين قبل عرضه على روسيا. يبدو أن طموحات ماكرون تتغذى من الإحباط الذي ألمّ بالأوروبيين عندما شعروا أن مصير قارتهم يخضع للتفاوض بين واشنطن وموسكو بعيداً عنهم كما حصل في اجتماع جنيف الأخير بين مساعدي وزيري خارجية الولايات المتحدة وروسيا. وما يقلق الأوروبيين، أن مسائل الأمن وانتشار الأسلحة متوسطة المدى وما يحصل على الحدود الروسية - الأوكرانية يهم أمنهم بالدرجة الأولى بينما هم عاجزون بسبب انقساماتهم عن أن يكونوا طرفاً فاعلاً. لذا؛ فإن ماكرون شدد على ضرورة إعادة إحياء الوساطة الأوروبية (الفرنسية – الألمانية) لإيجاد حلول سياسية لأزمة أوكرانيا من خلال إعادة تفعيل وساطة ما يسمى «صيغة نورماندي» (فرنسا وألمانيا وروسيا وأوكرانيا). كذلك، شدد ماكرون على أهمية العودة إلى «الحوار المتطلب» مع روسيا الذي «لا يعد خياراً لأن التاريخ والجغرافيا يدفعان إليه».
إذ كانت الرئاسة الفرنسية تريد أوروبا «قوة ديمقراطية» ليس فقط عسكرياً واقتصادياً، بل أيضاً ثقافياً وتربوياً... فإن «عليها قبل ذلك أن تكون قادرة على المحافظة على أمنها» الذي عنوانه الأول، السيطرة على حدودها الخارجية. لذا؛ يدعو ماكرون إلى أمرين: الأول، تعزيز جهاز «فرونتيكس» لحماية حدود الاتحاد وإدخال تعديلات على اتفاقية «شينغن» التي تضمن التنقل الحر بين البلدان الأعضاء. كذلك، فإنه يدعو إلى إقامة «شراكة» مع دول «المنشأ» التي ينطلق منها المهاجرون غير الشرعيين ودول الممر من أجل السيطرة على الهجرات. ويندرج ضمن الإطار نفسه رغبة ماكرون في بناء «تحالف جديد» مع أفريقيا «لأنه يصعب معالجة ملف الهجرات من غير معالجة أسبابها العميقة». وبلهجة حاسمة، يؤكد ماكرون أن جانباً من التغيرات التي سيشهدها العالم سيكون مصدرها أفريقيا. كذلك يدفع ماكرون إلى إعادة النظر بالعلاقات التي تربط الاتحاد بمنطقة البلقان الغربية التي ما زالت خارج النادي الأوروبي. وفي الحالتين، ستعمد الرئاسة الفرنسية إلى الدعوة إلى قمتين مخصصتين لأفريقيا والبلقان، أولاهما ستحل في بروكسل منتصف الشهر المقبل.
الرئيس الفرنسي يدعو إلى تسليح أوروبا لضمان استقلالية قرارها
قال إن «البوصلة الاستراتيجية» ستحدد عقيدتها الدفاعية
الرئيس الفرنسي يدعو إلى تسليح أوروبا لضمان استقلالية قرارها
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة