مالي.. المصالحة الصعبة

«إقليم أزواد» بات معضلة لمنطقة الساحل الأفريقي والمتهمين بأمنها

مالي.. المصالحة الصعبة
TT

مالي.. المصالحة الصعبة

مالي.. المصالحة الصعبة

بعد ثمانية أشهر من المفاوضات العصيبة، تسلّمت الوفود التي تمثل حكومة دولة مالي وست حركات مسلحة في شمال البلاد، في أحد فنادق العاصمة الجزائرية، مقترح اتفاق لإنهاء الصراع الذي بدأ منذ عدة عقود وتجدد قبل ثلاث سنوات بتمرد مسلح كاد يعصف بكيان الدولة في مالي. وشكل المقترح الجديد آخر أملٍ لدى الوساطة الدولية في التوصل إلى حل سلمي بين أطراف الأزمة.
الاتفاق الجديد حظي بمباركة الحكومة وثلاث حركات مسلحة موالية لها، ووقعته في 1 مارس (آذار) الماضي، فيما رفضت ثلاث حركات أخرى التوقيع عليه متحفظة على بعض بنوده وخلوه من نقاط تعدها محورية في أي حل للأزمة. وبالتالي، المجموعة الدولية لجأت إلى سياسة الجزرة والعصا في التعامل مع أطراف الأزمة، ولوحت بفرض عقوبات على من يرفض التوقيع على الاتفاق.

مقترح الاتفاق الذي ومن شأنه أن ينهي الصراع في مالي وإن كان يواجه صعوبات كبيرة إلا أنه يحمل معه الأمل في استعادة الاستقرار في هذا البلد الواقع في غرب القارة الأفريقية والذي يعد واحدا من أفقر بلدان العالم، ويعاني من حالة انقسام حادة ما بين الشمال الذي تقطنه أقلية من العرب والطوارق، والجنوب الذي تسكنه عرقيات أفريقية تشكل الأغلبية وتهيمن على الحكم في البلاد، وتتهم من طرف الطوارق والعرب بتهميش الشمال وتركه فريسة للفقر والجهل وانعدام البنية التحتية.
هذا الوضع قاد إلى ظهور حركات تمرد مسلحة مباشرة بعد استقلال مالي عن المستعمر الفرنسي عام 1960. وظلت تتجدد بشكل دائم حتى التمرد الأخير الذي بدأ يناير (كانون الثاني) من عام 2012، وأسفر عن سيطرة الجماعات المسلحة على شمال مالي وإعلان الحركة الوطنية لتحرير أزواد، وهي واحدة من أكبر الحركات المسلحة المتمردة، استقلال دولة أزواد. ولكن هذا الإعلان ظل من جانب واحد ولم يحظ بأي اعتراف دولي، قبل أن تتراجع عنه الحركة لتدخل في مفاوضات شاقة مع الحكومة المركزية تطالب فيها بـ«الاستقلال الذاتي» أو على الأقل «نظام فيدرالي» يمكنها من إدارة الإقليم.
الجزائر بحكم قربها من شمال مالي، وتأثرها المباشر بتدهور الوضع الأمني في المنطقة، ظلت حاضرة بقوة في المعادلة الأمنية والسياسية في مالي، حيث استطاعت خلال عمليات التمرد التي عاشتها مالي في العقود الثلاثة الماضية أن تكون الحاضنة لمفاوضات شاقة أسفرت عن اتفاقية تمنراست 1991 والميثاق الوطني عام 1992، بالإضافة إلى اتفاقية الجزائر عام 2006. ولكن جميع هذه الاتفاقيات وإن كانت نجحت في إخماد التمرد وتهدئته، إلا أنها لم تنجح في حل معضلة «إقليم أزواد» المزمنة، التي أصبحت تشكل صداعا لمنطقة الساحل الأفريقي المضطربة.

دروس الماضي

تحاول الجزائر في الاتفاق الجديد أن تتفادى أخطاء الاتفاقيات السابقة، والوصول إلى حل نهائي لأزمة شمال مالي، وذلك من خلال قيادتها لفريق الوساطة الدولية الذي يضم بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي بالإضافة إلى عدد من المنظمات الدولية والبلدان المجاورة لمالي: النيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد.
واجه فريق الوساطة الدولية في البداية صعوبة كبيرة من خلال تسمية «أزواد»، حيث يصر المتمردون على أن يتضمن الاتفاق اعترافا رسميا بتسمية «أزواد» وذلك بوصفه «هوية جغرافية وسياسية محددة، ولديه شخصيته المستقلة التي تعطيه الحق في حكامة مبنية على تاريخه وواقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي»، وهو المطلب الذي ما تزال الحكومة المالية ترفضه حتى الآن وتعتبره مساسا بوحدتها الترابية.
ومن جهته، حاول فريق الوساطة الدولية أن يخرج من الإحراج باستخدام عبارة مطولة «شمال مالي الذي يسميه البعض أزواد». وفي نص الاتفاق الجديد توجد دعوة صريحة إلى القبول بإقليم أزواد كـ«حقيقة اجتماعية وثقافية مشتركة لدى سكان شمال مالي»، من دون إعطائه أي صبغة سياسية، وفق ما يطالب به المتمردون وترفضه الحكومة.
ولكن الاتفاق الجديد يحاول أن يقدم حلا لما قال إنه «مشكلة الوحدة الوطنية» في مالي وذلك عبر ما سماه «إعادة بناء الوحدة الوطنية في البلد عبر قواعد مبتكرة تحترم وحدته الترابية، وتأخذ في الاعتبار تنوعه الثقافي والعرقي»، حيث توجد في مالي أكثر من 3 آلاف عرقية أغلبها يقطن في الجنوب، بينما تتفاقم أزمة التعايش في شمال البلاد حيث توجد أقلية من العرب والطوارق.
وفي ظل ارتباط أزمة الوحدة الوطنية والتعايش بين المكونات العرقية في مالي، بأبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية معقدة ظلت تتراكم لعدة عقود، اقترح الاتفاق الجديد اعتماد «التوازن في الميزانية والتنمية» من خلال ما يمكن وصفه بأنه «سياسة تمييز إيجابي» لصالح المناطق الأكثر فقرا وفي مقدمتها شمال البلاد، حيث ينص الاتفاق على أن «تحوّل الحكومة 30 في المائة من عائدات الدولة المركزية إلى السلطات المحلية، مع اهتمام خاص بالمناطق الشمالية»، بالإضافة إلى إنشاء «منطقة تنموية في الشمال» ممولة بالكامل من طرف المجموعة الدولية للرفع من مستوى المعيشة لدى سكان الإقليم في إطار خطة تستمر لخمسة عشر عاما.
وبخصوص آليات إدارة الشأن العام في شمال مالي، تضمن الاتفاق الجديد تشكيل مجالس محلية تنتخب بشكل مباشر، ودعا الحكومة المركزية في باماكو إلى تهيئة الأرضية لانتخابات محلية جديدة ستنظم في غضون 18 شهرا لتشكيل هذه المجالس التي ستتولى إدارة الشأن العام في شمال البلاد بصلاحيات واسعة، مع وصاية من طرف الحكومة المركزية في باماكو.
ومن جهة أخرى، ينص الاتفاق الجديد على إنشاء «جهاز شرطة محلية» يشارك في إنشائه جميع الأطراف التي شاركت في مفاوضات الجزائر؛ وذلك عبر دمج مقاتلي الحركات المتمردة وتلك الموالية للحكومة في الجيش المالي، وتنظيم دوريات مشتركة في انتظار إعادة انتشار القوات المالية في الشمال في غضون شهرين. وما تزال قضية دمج مقاتلي الحركات المتمردة محل جدل بين أطراف الأزمة حيث تصر الحركات على ضرورة احتفاظها بالسلاح لضمان تطبيق بنود الاتفاق، في استحضار واضح للاتفاقيات السابقة التي يقولون إنها لم تطبق لأنهم تخلوا عن أسلحتهم وفقدوا ورقة ضغط مهمة على الحكومة المالية؛ فيما ترفض باماكو أي وجود عسكري خارج إطار الجيش الحكومي.
اتفاق الجزائر الجديد الذي جاء في 30 صفحة باللغة الفرنسية، وإن كان قد تحدث عن جميع محاور الأزمة التي يعيشها شمال مالي، إلا أنه يبقى «مجرد اتفاق مرحلي وليس نهائيا» حيث أوضح أنه لا بد من عقد مؤتمر وطني في غضون عامين لمناقشة «الأسباب الحقيقية والعميقة للصراع في شمال مالي»، بهدف التوصل إلى «اتفاق سلام نهائي وشامل».

الصراع القبلي

الاتفاق الجديد وإن كان قد حظي بمباركة جميع الأطراف المشاركة في المفاوضات، إلا أنه واجه تحفظا من طرف ثلاث حركات مسلحة منخرطة في إطار ما يعرف بمنسقية الحركات الأزوادية التي تضم: الحركة الوطنية لتحرير أزواد والمجلس الأعلى لوحدة أزواد والحركة العربية الأزوادية؛ حيث اعترضت هذه الحركات على بعض بنود الاتفاق وخلوه من أي إشارة إلى «نظام فيدرالي» لإدارة الإقليم ودعت إلى منحها «مهلة معقولة» للتشاور مع «قواعدها الشعبية»، وذلك في محاولة واضحة لتهدئة الشارع في عدد من مدن شمال مالي شهدت مظاهرات رافضة للاتفاقية التي وصفها بعض السكان المحليين بأنها «مجحفة في حقهم».
الصراع المسلح الدائر بين المتمردين الطوارق والحكومة المركزية في باماكو، يطوي في ثناياه خلافات محلية أكثر عمقا ويحمل خطورة كبيرة على مشروع المصالحة في البلد الهش، حيث تبرز على السطح صراعات ذات طابع قبلي داخل الطوارق أنفسهم، يشير مراقبون إلى أن الحكومة المالية لعبت دورا كبيرا في إذكائها لشق صف المتمردين.
في صحراء أزواد كل شيء يتحرك ويتغير وفق معادلة معقدة يختلط فيها عوامل الأمن والسياسة والتهريب والإرهاب والأطماع الدولية في الثروات التي تنام في جوف الصحراء؛ الثابت الوحيد في هذه المعادلة المعقدة هو القبيلة بوصفها المحرك الرئيس لجميع هذه العوامل.
قبيلة «إيفوغاس» هي الأكثر عددا من بين قبائل الطوارق، تتمركز هذه القبيلة في منطقة كيدال التي تعد معقل المتمردين الطوارق. وينحدر من «إيفوغاس» أغلب قيادات الحركة الوطنية لتحرير أزواد التي تسعى لإقامة دولة ديمقراطية ذات طابع علماني في إقليم أزواد؛ كما ينحدر منها جميع قيادات المجلس الأعلى لوحدة أزواد، وهو المجلس الذي قام على أنقاض «جماعة أنصار الدين» التي أسسها إياد أغ غالي عام 2012 من أجل إقامة «إمارة إسلامية» في مالي، والمفارقة هي أن أغ غالي هو الآخر ينحدر من نفس القبيلة.
تتحالف قبيلة «إيفوغاس» ذات الشوكة مع قبائل عربية تملك نفوذا كبيرا وتنحدر منها قيادات «الحركة العربية الأزوادية»؛ وذلك من أجل مواجهة قبائل «إيمغاد» الطوارقية ذات العداء التاريخي مع «إيفوغاس» والطامحة للمزيد من النفوذ في الإقليم الصحراوي الشاسع. مع مرور الوقت يتصاعد نفوذ قبيلة «إيمغاد» التي شكلت مؤخرا ميليشيات تعرف باسم «غاتيا» وتحالفت مع الجيش المالي، قبل أن تدخل في مواجهات مسلحة عنيفة مع المتمردين خلال الأشهر الماضية، كادت أن تعصف بالمساعي الدولية للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي.
ويشير مراقبون إلى أن قبيلة «إيفوغاس» كانت خلال العقود الماضية الحليف القوي للحكومة المركزية ولعبت أدوارا كبيرة في إخماد عمليات التمرد السابقة، ولكن باماكو بدأت في السنوات الأخيرة تعتمد أكثر على قبيلة «إيمغاد» التي وصل أحد أبرز قادتها العسكريين إلى رتبة جنرال في الجيش المالي؛ ما أثار حفيظة «إيفوغاس» التي استخدمت الحركات المسلحة التابعة لها من أجل تأزيم الوضع لتؤكد لباماكو أن أي مساعي لتحقيق السلام في شمال مالي يجب أن تمر عبرها وليس عبر «إيمغاد»؛ وأن استقرار إقليم أزواد لن يتحقق من دون موافقة رجال «إيفوغاس».
من جهة أخرى يزداد الوضع في شمال مالي تعقيدا في ظل النشاط المتزايد لشبكات التهريب والتنظيمات الإرهابية التي تصب الزيت على النار لتعميق الخلافات بين قبائل الطوارق حتى تسد الطريق أمام التوقيع على أي اتفاق سلام قد يهدد تحالفاتها السرية التي تؤمن لها طرق التهريب عبر الصحراء الشاسعة والبعيدة عن أي رقيب.

المستقبل الغامض

رغم الإعلان رسميا عن موعد التوقيع على الاتفاق الجديد يوم 26 مارس (آذار) الحالي في العاصمة المالية باماكو، فإن عدة أصوات أعلنت معارضتها للاتفاق سواء في صفوف المتمردين أو حتى في جنوب البلاد. ذلك ما عبر عنه القيادي في الحركة الوطنية لتحرير أزواد موسى أغ السعيد، لـ«الشرق الأوسط» حين قال إن «الاتفاق تم فرضه من طرف المجموعة الدولية التي هددت من يرفض توقعيه بالعقوبات». وأضاف أغ السعيد الذي يقيم في فرنسا أن «الاتفاق لم يأخذ في الاعتبار تطلعات سكان إقليم أزواد، إنه وثيقة تقوم على اللامركزية ولا تتحدث عن أي حكم ذاتي أو فيدرالي؛ واللامركزية لا تلبي مطالب الشعب الأزوادي، الاتفاق الجديد أقل قيمة من الميثاق الوطني الذي وقع في الجزائر عام 1992، ولن يحل المشكلة حتى ولو تم التوقيع عليه».
في المقابل، كان معارضو الاتفاق في العاصمة باماكو يمن دون مخاوفهم من التمييز الإيجابي الذي سيحظى به الشمال على حساب مناطق أخرى من البلاد. وقال المحلل عمر بامبا في اتصال مع «الشرق الأوسط» من باماكو إن «الاتفاق الجديد يمنح امتيازات كبيرة للمناطق الشمالية، رغم أنه تفادي تسمية الشمال بأزواد، فإنه بدا واضحا أن هنالك دولة داخل الدولة، وبالتالي لن نستغرب إذا عاد الانفصاليون للمطالبة بالاستقلال بعد عشر سنوات، ويستخدمون الوسائل التي منحناهم لمحاربتنا.. إنه نفس السيناريو الذي وقع في السودان».

في صحراء أزواد كل شيء يتحرك ويتغير وفق معادلة معقدة يختلط فيها عوامل الأمن والسياسة والتهريب والإرهاب والجريمة المنظمة والأطماع الدولية في الثروات التي تنام في جوف الصحراء. الثابت الوحيد في هذه المعادلة المعقدة هو القبيلة بوصفها المحرك الرئيسي لجميع هذه العوامل.
ذلك ما يتضح أكثر عندما نلقي نظرة خاطفة على الحركات المسلحة التي تنتشر في الإقليم وتتكاثر يومًا بعد يوم:
> الحركة الوطنية لتحرير أزواد: تأسست عام 2011 من طرف قيادات عسكرية من قبائل «إيفوغاس» الطوارقية، وبدأت بقوة عسكرية اعتمدت فيها على سلاح مقاتلي الطوارق المنشقين من «الكتيبة الخضراء» للرئيس الليبي السابق معمر القذافي، تسعى لإقامة دولة ديمقراطية ذات طابع علماني في إقليم أزواد.
> المجلس الأعلى لوحدة أزواد: تأسس عام 2013 من طرف قيادات قبلية من «إيفوغاس» كانت في واجهة جماعة «أنصار الدين» التي سيطرت في عام 2012 على مناطق واسعة من شمال مالي بالتحالف مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
> الحركة العربية الأزوادية: تأسست عام 2012 بعد أن تمكن المتمردون الطوارق من طرد الجيش المالي من شمال البلاد، حيث بدأت القيادات القبلية العربية في التحرك من أجل إيجاد موطئ قدم لها في الإقليم، ولكن الحركة ظلت تعاني من التفكك والانقسام؛ فيما ظلت النواة الأولية متحالفة مع قبائل «إيفوغاس» وتتفق في المشروع الانفصالي مع الحركتين السابقتين.
> الحركة العربية الأزوادية (المنشقة): انشقت عام 2014 عن الحركة الأم بسبب خلافات داخلية، ويتحالف المنشقون مع قبائل «إيمغاد»، ويعلنون رفضهم لتقسيم دولة مالي.
> الائتلاف الشعبي من أجل أزواد: تأسس عام 2014 على يد منسحبين من الحركة الوطنية لتحرير أزواد، ويوصف بأنه مقرب من الحكومة المالية، فيما يحاول أن يظهر على أنه منحاز لسكان إقليم أزواد.
> تنسيقية الحركات والجبهات الوطنية للمقاومة: تأسست على يد قبائل السونغاي الزنجية في تسعينات القرن الماضي كردة فعل على حمل الطوارق والعرب للسلاح، وبدأت كقوة للدفاع الذاتي من أجل تأمين السكان، قبل أن تتحول إلى ميليشيات ارتكبت مجازر بشعة ضد البدو الرحل من الطوارق والعرب خلال تمرد التسعينات.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.