السرد النسوي «غير الطبيعي» في روايات أنجيلا كارتر

كاثرين روماجنولو تقرأ أعمالها بشكل مغاير

أنجيلا كارتر
أنجيلا كارتر
TT

السرد النسوي «غير الطبيعي» في روايات أنجيلا كارتر

أنجيلا كارتر
أنجيلا كارتر

اهتمت الناقدة كاثرين روماجنولو بدراسة السرد النسوي غير الطبيعي في رواية «ليالي السيرك» «Nights at the Circus1984» لأنجيلا كارتر وذلك في بحثها المعنون «اتصالات غير طبيعية: التجريب النسوي غير الطبيعي في رواية ليالي السيرك» المنشور في كتاب «السرد غير الطبيعي: الامتدادات والمراجعات والتحديات» تحرير جان ألبر وبراين ريتشاردسون، والصادر عن جامعة ولاية أوهايو عام 2020. وروماجنولو باحثة وأستاذة في جامعة وادي لبنان الخاصة في بنسلفانيا في أميركا، ولها كتاب نقدي هو «أفعال افتتاحية: البواكير السردية في قصص القرن العشرين النسوية» 2015. ولأن في رواية «ليالي السيرك» خرقاً لمواضعات السرد الواقعي وتعطيلاً لدور المحاكاة الأرسطية في صنع الحبكة القصصية، تناولت روماجنولو خصائص ما فيها من سرد نسوي قاسٍ ومختلف كانت قد عُرفت به الروائية أنجيلا كارتر التي تعد واحدة من الروائيات ما بعد الحداثيات، كونها حولت واقعية ماركيز السحرية وأدب دي ساد العنيف إلى واقعية أنثوية سحرية، تجسدت واضحة على يد بطلة الرواية «فيفير Fevver» المرأة المجنحة التي امتلكت جناحين طويلين يمتدان على طول ظهرها وهما اللذان جعلاها لاعبة محترفة داخل سيرك هو المعادل الموضوعي للعالم الكبير الذي نعيشه.
ودراسة كاثرين روماجنولو للنسوية غير الطبيعية في هذه الرواية إنما تأتي في سياق ما أخذ يحظى به علم السرد غير الطبيعي من اهتمام بعض النقاد في العالم، بحثاً عن نظرية لنموذج إنتاجي جديد يوظّف في السرد أساليب مضادة للواقعية وبسمات تتجاوز الصور السحرية والغرائبية والفانتازية بالعموم، وتدخل في إطار الاستحالة واللامعقول، عبر إنشاء مواضعات تخرق كل ما هو معتاد في الفعل السردي وتعطله بنماذج جديدة من الساردين والشخصيات والأزمنة والأمكنة والأوصاف والمنظورات مع تجريب آليات قراءة جديدة واستراتيجيات تلقٍّ مبتكرة. وليس السرد غير الطبيعي في حقيقة الأمر سوى عودة بالسرد الواقعي إلى الخيالية التي عرفتها الحكايات الخرافية والملاحم وقصص العصور الوسطى حتى روايات القرن الثامن عشر التي بدأت تتخلص تدريجياً من جموح الخيال متسمةً بواقعية كلاسيكية على وفق مواضعات المحاكاة الأرسطية واستمرت من بعدها على هذا التوجه روايات القرن التاسع عشر وبعض روايات القرن العشرين. وما يفعله السرد غير الطبيعي أنه يمارس خرقاً كتابياً للفهم المعتاد للواقعية مستعيضاً عن المحاكاة بما هو غير معقول أو لا ممكن وبطرائق مرنة إما كممارسات وتجارب وإما ككائنات غير واقعية. وما يُراد من وراء التمثيل السردي لعوالمها المستحيلة هو أن تبدو منطقية ومتوافقة مع ما هو واقعي.
وعلى الرغم من أن التنظيرات التي وضعها منظّرو علم السرد غير الطبيعي ليست مختلفة كثيراً عن السرد الطبيعي فهي مبنية أو مستوحاة من دراسات منظرين شكلانيين وبنيويين مثل شكلوفسكي وباختين وجينيت... فإن هناك بعض التوجهات التي تبدو ثقافية أكثر منها نقدية، ومنها دراسة كاثرين روماجنولو آنفة الذكر، وفيها أوْلت السرد النسوي اهتماماً، متتبعةً الطبيعة الأدائية للسرد النسوي في «ليالي السيرك» وأخلاقية وجهات النظر الآيديولوجية فيها والطريقة التي بها اختلفت المؤلفة أنجيلا كارتر عن كاتبات عُرفن بأنهن روائيات نسويات مثل الأميركية توني موريسون والكندية مارغريت أتوود والصينية ماكسين هونغ كينغستون.
وأساس اختلاف كارتر عنهن أنها خرقت استراتيجيات السرد التقليدية وانزاحت عن البنى المهيمنة في صناعة الذات النسوية وتوجهت بدل ذلك إلى تجسيد العلاقة الإشكالية بين النسوية والمواقف الفلسفية ما بعد الحداثية أو ما سمّته روماجنولو «التقارب الاختياري بين النسوية وما بعد الحداثة» (الكتاب، ص 13) وهو ما يجعل النسوية في موضع التساؤل حول القيم التي تنادي بها الحركة النسوية بعمومها. وأشارت الناقدة إلى آراء بعض منظّرات ما بعد الحداثة، ومنهن ليندا هيتشون التي ذهبت إلى أن النموذج النقدي لنسويات ما بعد الحداثة نموذج عابر ومتقاطع يفكك ويتحدى السائد من الخطابات الذكورية من خلال التركيز على الوعي الذاتي وتوظيف المحاكاة الساخرة.
وما سعت إليه روماجنولو هو الانعطاف بالنظرية السردية نحو نسوية غير طبيعية من خلال التركيز على استراتيجيات التجريب السردي في التحايل على الهيمنة الذكورية مما كان قد حددها وتحدّث عنها منظّرو السرد غير الطبيعي مثل جان ألبير وهنريك سكوف نيلسون وبراين ريتشاردسون وستيفان إيفرسون.
وليست اللاطبيعية في النسوية سوى التحوّل الخيالي المخيف والمنتهك لحدود الواقعية التقليدية وما عرفته النظريات السردية حول أعراف السرد النسوي التاريخية التي تقوم على تقويض آيديولوجيات الهيمنة الذكورية بينما يعمل السرد النسوي غير الطبيعي على تخريب تلك الأعراف التاريخية آيديولوجياً باستعمال لغة تعطِّل ما هو عقلي بما هو جنوني، مستبعدةً المنطق ومتعمدةً أن تزعزع أفق التوقع بطرق مستحيلة. فتغدو جدلية الطبيعة - الثقافة هي نفسها جدلية الخيال- الآيديولوجيا. وهو ما عكسته رواية «ليالي السيرك» التي وظّفت الجندر بشكل لا يمكن إنكاره أو تجاهله مع أنه تخريبي وقمعي يُخضع النسوية ويقهرها ويشيئها.
وهذا هو مَوطن الاستفزاز في تجريب السرد النسوي غير الطبيعي لأن عواقبه تربك المنظور النسوي المعتاد أو الطبيعي -كما تسميه مونيكا فلودرنك- وما يترتب على ذلك من آثار تفسيرية ومنها مفهوم «التجنس naturalization» كنمط سردي يخالف الأنثوية وما فيها من أسطورية ورومانسية. وهو ما تجسد في البطلة التي ما عاد عالمها يحفل بـ«جمال نائم» ينتظر أن ينقذه أمير، ولا أميرة تشعر بأنها في خطر وأن هناك «شاباً سيأتي وينقذها» إلى آخره من الصور المعتادة التي غادرها هذا السرد غير الطبيعي، بل الصيغة التي وفقها تتحرك الساردة - البطلة هي السخرية من استراتيجيات النسوية السردية والميتاسردية والتقاطع مع أساليبها الواقعية في التعامل مع التحيز الذكوري عبر استعمال التقانات الفنية بطريقة غير معقولة تجعل الصوت الأنثوي مستحيلاً جسدياً ومكانياً وزمنياً. وتصبح البطلة (Fevver) -التي كانت في صباها تنمو بطبيعية- تلك المرأة الطائرة الشقراء الصاخبة التي تسرد قصتها بضمير المتكلم وقد نما لها جناحان فجأة وبهما أتقنت الرقص على حبال السيرك باحتراف من دون اكتراث جسدي ولا استغراب ذهني، مستحضرةً أسطورة كوبيد، متحولةً أنثى قوية بينما هي تتحدث بجدارة ذكورية كأنها مخوّلة من هذه الأخيرة لأن تمارس سلطتها.
وهذا بالطبع مستحيل، وهو مختلق ووهمي، بيد أن بطلة الرواية تمارسه بصوتها وجسدها في شكل تمثيل ذكوري لذاتٍ هي أنثى وبوجهة نظر نسوية متحيزة جنسياً للمرأة مستعملة للتعبير عن ذاتها أوصافاً شعرية مثل «فرس رقيق أكثر من ملاك» مزيحةً بذلك السمات غير الطبيعية ومضفية على السرد منطقية مقبولة. وهذا التنازع السردي بين المستحيل والمنطقي هو ما تسميه الناقدة روماجنولو «التشرذم» بين سلطة ذكورية استولت عليها امرأة وسلطة أنثوية تستولي عليها الذكورية.
والنتيجة أن السلطة ستغدو مجزأة، يصعب تحديد موقعها وتحديد الصوت الذي يمثلها، فهي بالنسبة إلى الذكورية مجرد هيكل، وبالنسبة إلى النسوية لا تتعدى الخضوع الجنساني في التمسك بالمفهوم التقليدي للسلطة.
وما تنتهي إليه روماجنولو هو أن قصص أنجيلا كارتر تعتمد على ما في عالم السرد الطبيعي من قواعد المكان والزمان ولكنها في الآن نفسه تخالف هذا العالم وتتحرك باتجاهات متضادة وغير منطقية يستحيل وقوعها غير أن منظور السارد الذاتي هو الذي يجعل احتمالات وقوعها واردة من خلال عدسة تقرب اللامعقول وتجعله عقلانياً. والغاية توجيه التفكير نحو قراءة المشهد السردي قراءة مخالفة فليس النص انعكاساً مباشراً للسلطة الجندرية بين المذكر والمؤنث، ولا هو تعددية الصوت السردي من ذكوري وأنثوي، وإنما هو تفكيك سلطة المذكر بتشيئية الأنثى وإضفاء مركزية على الذات المؤنثة من خلال تفسير خاص ومعقد للتاريخ والذاكرة والسرد معاً. إن هذا الذي تعكسه قراءة روماجنولو لرواية «ليالي السيرك» يقدم رؤية جديدة للاطبيعية في السرد النسوي كما يسلِّط أضواءً نقدية على كيفيات تحقيق التكافؤ الآيديولوجي بين الجنسين في تمثيلات السرد النسوي باتباع طرق غير معتادة وجديدة تخالف تلك المفاهيم التقليدية وتبتكر تفسيرات جنسانية ما بعد حداثية مختلفة لمفاهيم السلطة والجندر والهوية والصوت.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.