حنة أرنت... فيلسوفة الأزمنة الصعبة

سامانثا هل تكتب سيرة لواحدة من أكثر المفكرين في القرن الـ20 تأثيراً

حنة أرنت ومارتن هايدغر
حنة أرنت ومارتن هايدغر
TT

حنة أرنت... فيلسوفة الأزمنة الصعبة

حنة أرنت ومارتن هايدغر
حنة أرنت ومارتن هايدغر

ترجمة: سعد البازعي

السيرة الفكرية التي كتبتها سامانثا روز هل، للفيلسوفة الألمانية حنة أرنت، سيرة حان وقتها لواحدة من أكثر المفكرين السياسيين في القرن العشرين تأثيراً، وإن كانت عصية على الإمساك بها. موضوعات أساسية في أعمال أرنت يجعلها هذا الكتاب سهلة المتناول. هل تبحث عن نقطة ارتكاز فلسفية حول العمل الإبداعي يصعب الإمساك بها في الضباب الجرماني لدى هايدغر؟ انظر إلى مفهوم الولادية كما يصفه كتاب «الوضع الإنساني». هل أنت معني بالتصاعد الشعبوي للسلطوية؟ ستساعدك قراءة «جذور التوتاليتارية» بعد أن نقصت أهمية عيوبه المفاهيمية وأجندته السياسية اليوم مقارنة بوصفه لمطامح الهيمنة. أما إن كنت معنياً بما هو أساسي بعيداً عما تعنيه السياسة فستجد تأملات أرنت حول الفكر والنظر العقلي بالغة القوة. في كل تلك الحالات وكثير غيرها تقدم لك سامانثا هل دليلاً يعتمد عليه.
لا تستغرق هل وقتاً في تغطية سنوات أرنت الأولى. لا تقول الكثير عن تأثير وفاة والد حنة، مكتفية بإشارة مرتبكة إلى أن ذلك الفقد لم يؤد لاحقاً إلى إضعاف «دهشتها الكامنة لوجودها في هذا العالم». على أي حال، نعلم من السيرة الأكثر تفصيلاً التي كتبتها إليزابيث يونغ - برول أن حنة ذات السبعة أعوام احتفظت لعدة أشهر بشعور متفائل على نحو غير معتاد بعد وفاة والدها، لكنها بعد سنة بدأت تظهر عليها عدة أمراض؛ ورأت يونغ - برول أن تلك كانت طريقة حنة في التعبير عن حزنها. كانت أسرة الطفلة غير ملتزمة دينياً، لكنها عرفت هويتها اليهودية من معاداة السامية في الحياة اليومية بالشارع. بعد انتقال أمها إلى بروسيا الشرقية، وهي مكان يصعب العيش فيه عند بداية الحرب العالمية الأولى، وجدت حنة راحتها في الكتب. حين سألها غنتر غوس بعد سنوات لماذا قرأت كانط في ذلك العمر المبكر، أجابت: «إما أن أقرأ الفلسفة أو أن أغرق نفسي، كما يقال».
في الثامنة عشرة ذهبت أرنت للدراسة في جامعة ماربورغ، حيث التقت مارتن هايدغر الذي سينشر عمله الكبير «الوجود والزمن» بعد ذلك بسنوات قليلة. كان هايدغر أستاذاً كاريزمياً وعمره ضعفي عمر أرنت، فنشأت بين الاثنين حوارات خاصة ثم صارا عشيقين. وكان يمكن لتلك العلاقة أن تكون أقل إزعاجاً مما تبدو عليه اليوم، لولا أنه لم يكن خفياً أن هايدغر لم يكن يحب اليهود. كان يكرههم، أكثر من اللازم، كما تقول النكتة اليهودية القديمة. وفي العقد التالي سينظم هايدغر إلى الحزب النازي، ويمد يد المساعدة في تطهير جامعات الشعب من اليهود.
علاقة أخرى مهمة لأرنت، حسب ما تذكر هل، كانت علاقتها بآن مندلزون فَي Weil. تمنيت شخصياً لو أن هل ذكرت المزيد عن هذه العلاقة، ليس فقط لأنه أتيح لي التعرف على آن وآختها الرائعة كاثرين في مرحلة متأخرة من عمرهما. كتب زوج آن، إريك فَي، عن خيانة هايدغر واحداً من أكثر النصوص حدة، وذلك بعد الحرب مباشرة، مشيراً بصورة ساخرة إلى أن هايدغر كان لديه ما يكفي من الأسباب ليشتكي من أنه رغم دعمه للرايخ الثالث بكل ما يملك من سلطة لم يظهر له النازيون الاحترام اللائق، مفضلين النظرية البيولوجية المبتذلة التي قدمها الآخرون.
لكن هل تروي فعلاً كيف تركت أرنت، ماربورغ وهايدغر، لكي تدرس مع أستاذ هايدغر، إدموند هوسرل، وبعد ذلك مع منافسه كارل ياسبرز. كتبت أرنت رسالتها للدكتوراه حول الحب والقديس أوغسطين. ونشرت أيضاً كتاباً حول حياة المفكرة اليهودية راحيل فارنهاغن وصالونها الأدبي في القرن الثامن عشر. في الكتاب أقرت بما في حياة النفي من عوامل الجذب، وفي حياة أرنت الكثير من تلك العوامل. كانت أوضاع اليهود تسوء و«الطريقة الوحيدة لأن يكون الإنسان ذا ضمير حساس هي أن يكون خارجاً عن القانون». هربت أرنت إلى فرنسا حيث التحقت بجماعات صهيونية وأصدقاء مقربين مثل فالتر بنيامين ومثقفين ماركسيين آخرين. ألقي القبض عليها مع يهود آخرين قبل الغزو النازي لفرنسا لكنها بصعوبة شديدة مضت في طريقها إلى مرسيليا، حيث حصلت على أوراق سهلت انتقالها، في حين مات الكثيرون محاولين الهرب. تساءلت أرنت: ما الذي سيجنيه الناجون اليهود؟ وأجابت «تجربة الحزن – موهبة التكيف وألا يكونوا فريسة للهلاك».
لقد نجحت أرنت في الوصول إلى نيويورك مع زوجها الجديد هاينريش بلوخر، وعند نهاية الحرب كانت قد بدأت العمل على كتاب «جذور التوتاليتارية»، في عام 1949 عادت إلى أوروبا لتجد «سحابة من الكآبة» تحوم فوق قارة مدمرة. ذهبت هناك لتقود «إعماراً ثقافياً يهودياً»، وأثناء إلقاء محاضراتها أمضت يوماً أو يومين (تختلف الروايات) مع هايدغر. تقتبس هل من أرنت قولها إن «ليلهما وصبحهما معاً كانا (تأكيداً لحياة بأكملها)»، وتمضي متحدثة عن مصالحة جعلت من الممكن «البدء من جديد». لكن أرنت، في سياق آخر، ذكرت قراءها أن بعض الأشخاص يختارون ممارسات تجعل الحياة معهم في هذا العالم مستحيلة على الإطلاق. ولا يغيب عن الذهن أن الحب يفقد معناه أيضاً.
لقد جعل كتاب «الجذور» أرنت معروفة، وبدأت تدرس في أهم الجامعات. بجمعها التحليل الدقيق للنازية مع الوصف السريع لطريق العنف الذي اتبعته الستالينية، صارت مقبولة لدى مثقفي المؤسسة أثناء الحرب الباردة. وإن كانت استمتعت بارتفاع سمعتها العامة، فقد استمتعت أكثر بوضع تلك السمعة على محك الخطر حين كتبت لمجلة «النيويوركر» تقارير عن محاكمة أدولف آيخمان. كتابها «آيخمان في القدس» (1963) خيب أمل أولئك الذين رغبوا في رؤية المسؤول النازي السابق وحشاً شريراً، وأغضب آخرين بسبب ما ذكرته عن تآمر اليهود في جريمة قتل يهود آخرين. تقتبس هل ادعاء أرنت أن كتابة تقرير عن المحاكمة كان «التزاماً أدين به لماضي»، لكن من غير الواضح كيف تفسر هل ذلك الدَين، وكيف دفعته أرنت. قالت أرنت إن ما قصدته بـ«تفاهة الشر» هو «المقاومة الدائمة لتخيل ما يمر به شخص آخر»، وهو بالضبط ما اتهمت أرنت نفسها بفعله فيما كتبته عن رفاقها الذين لم ينجحوا في الهرب.
إن أرنت كما رسمتها هل مفكرة تتنقل بيسر بين الشعر والفلسفة، بين التأمل في السياسة وتحليل الفكر نفسه. تبرز هل، كما تفعل إليزابيث يونغ - برول أيضاً، محاولاتِ أرنت للحفاظ على «حبها للعالم» – قبولاً لتعددية الاحتمالات التي يمكن أن تواجهنا، رغم «الأزمنة المظلمة» التي قد نجد أنفسنا فيها. تكتب هل بتدفق حول الأفكار الأساسية، وهي أفضل ما تكون حين تتناول صداقات أرنت العميقة والثابتة. كانت أرنت ملهمة للحب والإخلاص لدى القريبين منها، ومع أن التزامها الدائم بـ«التوقف والتفكير» أدى إلى خلافات حادة فإنه نتج أيضاً عن علاقات مستمرة وذات معنى.
رأت أرنت فيما هو سياسي فضاءً يمكن فيه صناعة القوة عبر العلاقات المدنية، بالإضافة إلى العنف بوصفه تكتيكاً يؤدي في النهاية إلى إنكار ما هو سياسي. ونتيجة لشكها فيما نسميه اليوم «سياسيات الهوية» حرصت على تطوير إمكانيات للعيش لم تكن متخيلة بعد. تكتب هل: «منجز أرنت يتمحور في الأساس حول اكتشاف حرية الإنسان وانسحاب الحرية التدريجي والقاتل عن العالم ثم تفلت شروط استعادتها». حاولت أرنت في حياتها هي أن تحافظ على هذه الحرية في أقسى الظروف، وسعت، في عملها، لتوضيح كيف يمكن للآخرين أن يسهموا في هذا المسعى الحيوي.
* عن «لوس أنجيلس
ريفيو أوف بوكس»



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.