الثقافة المصرية في ميزان الحرية والحقيقة

نبيل عبد الفتاح يحلل أزمنة صعودها وانحسارها

اعتصام المثقفين المصريين عام 2013 احتجاجاً على «أخونة وزارة الثقافة»
اعتصام المثقفين المصريين عام 2013 احتجاجاً على «أخونة وزارة الثقافة»
TT

الثقافة المصرية في ميزان الحرية والحقيقة

اعتصام المثقفين المصريين عام 2013 احتجاجاً على «أخونة وزارة الثقافة»
اعتصام المثقفين المصريين عام 2013 احتجاجاً على «أخونة وزارة الثقافة»

يعيد الباحث والمفكر نبيل عبد الفتاح، مساءلة الحرية في إطار متلازمة فكرية ثلاثية الأبعاد والرؤى، تتمثل في علاقتها بالثقافة كمكون أساسي لها، وشرط من شروط نضجها وتقدمها، وفي علاقتها بالحقيقة باعتبارها التجسيد الأمثل للأفكار والرؤى، ثم علاقتها بالواقع الراهن: حقيقة ما كان في الماضي، وما هو كائن بالفعل، واستشراف ما يمكن أن يكون عليه في الغد والمستقبل.
من هذا المنظور ينفتح كتابه «الحرية والحقيقة – تحديات الثقافة والمثقف المصري»، الصادر حديثاً عن دار «ميريت» بالقاهرة، على الثقافة المصرية وأزماتها، ويرى أنها تراوح ما بين فعلين؛ أحدهما ساكن ينتمي للماضي، والآخر متحرك، يحاول اللحاق بالمنجز الكوني المعرفي المتمثل في الرقمنة، والذكاء الصناعي، والإناسة الربوتية، وعالم ما بعد الحقيقة، وغيرها من منجز التكنولوجيا والإنترنت.
يقع الكتاب في 433 صفحة من القطع المتوسط، وتناثرت في صفحاته شذرات فلسفية تدور حول معنى الحقيقة وعلاقاتها بالواقع والأفكار لنيتشه، باشلار، ديكارت، هيوم، فوكو، سارتر، وإدوارد سعيد.
وعبر 6 أبواب تنطوي على مجموعة من الفصول، يعالج نبيل عبد الفتاح، موضوعه ومبحثه الأثير في ظل تغير الرؤى والسياسات الثقافية، والتحولات المتسارعة غير المألوفة، على مستوى العالم، إقليمياً ودولياً ومحلياً، التي لا تزال تشكل صدمة للعقل، سواء في سعيه للرصد والتحليل والمقاربة النقدية، أو في مغامرته للتسلح والتحصن بأطر وأفكار جديدة، تشكل حافزاً للإبداع والثقافة، على قاعدة الحرية، من دون شروط مسبقة سوى ما تجترحه وتفرضه بقوة الدفع الإنساني للوصول إلى الحقيقة.
تبدو الحالة المصرية في الكتاب بمثابة معمل اختبار لكل هذه الرؤى، حيث يشكل حاجز الحرية والعقل النقدي المستنير التحدي الأساس أمام المثقف والثقافة معاً، في محاولة لكسر «هيمنة العقل التسلطي السلفي، الأسير وراء أوهامه المتعددة».
في الباب الأول، الذي حمل عنوان «أزمات الثقافة والسياسة الثقافية الرسمية»، يستعرض الكتاب دور الثقافة في التنمية ومشروعاتها، وفي الارتقاء بالوعي السياسي للمواطنين، والنخب السياسية - المعارضة والحاكمة. ويرجع غياب هذا الدور عن الفهم والإدراك لعدة أسباب من أبرزها: غلبة الوعي البيروقراطي على تشكيل النخبة السياسية ومصادر تجنيدها، وانفصال السياسة التعليمية ومناهجها عن المكون الثقافي والتكوين الجمالي، والخلط والمزواجة بين التعاليم الدينية والوضعية، والمناهج المقررة.
كما يرصد التحولات التي طرأت على الثقافة وسياساتها في مرحلة الثورة والانتقال، وذلك في أعقاب ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 1911، التي أطاحت بنظام مبارك بعد 30 عاماً من الحكم، وشهدت زخماً هائلاً من التوترات الأمنية والمواءمات السياسية طالت كل شرائح المجتمع، خصوصاً مع وضعية الثورة الانتقالية، والمخاطر الداخلية التي واجهتها، ووقفت عثرة في وصولها لأهدافها، وكان من أبرزها - حسب الكتاب - عدم استقرار التشكيلات الحكومية نتيجة الحالة الأمنية المضطربة، وتعدد وزراء الثقافة خلال فترة زمنية وجيزة، وعدم التصدي لبعض أشكال الفساد الوظيفي داخل هيئات الوزارة المختلفة، وهو ما انعكس بدوره على مجمل الأنشطة والفعالات الثقافية.
ينظر نبيل عبد الفتاح إلى عدم الاستقرار الذي شاب هذه الفترة من زاويتين ملتبستين ومتناقضتين؛ الأولى تكمن في المد الثوري الثقافي الذي ارتفعت وتيرته وغليانه في أعقاب «ثورة 25 يناير»، ثم مرحلة بروز التيارات الإسلامية السلفية، وصعود «الإخوان المسلمين» إلى الحكم، ويشير هنا إلى: «قيام بعض المثقفين بالاعتصام في مكتب وزير الثقافة الذي تم تعيينه من قبل جماعة (الإخوان المسلمين) وأيده السلفيون، وذلك للحيلولة دون (أخونة) العمل الثقافي، وتديينه سياسياً».
ويخلص بعين راصدة متفحصة إلى أن أداء وزراء الثقافة المتعاقبين منذ ثورة 25 يناير 2011 وما بعدها، لم تكن لغالبيتهم رؤية أو تصور للسياسة الثقافية في المرحلة الانتقالية، ومن ثم سارت «سياسة اليوم بيومٍ والإدارة اليومية للعمل البيروقراطي داخل الوزارة، دونما إنجازات حقيقية لبعضهم»... (ص 45). ويرى أن «النزعة التجريمية والسياسة العقابية المغلظة تبدو في النصوص (الدستور) التي تنظم حرية الرأي والتعبير، وحرية التدين والاعتقاد، على نحو يخالف جوهر هذه الحريات، وبما يؤدي إلى فرض قيود عليها، بعضها في العقاب، والأخرى في التطبيق القضائي، من حيث توجهات أعضاء الجماعة القضائية من ذوي الاتجاهات المحافظة».
تمتد هذه الرؤية في الكتاب إلى ما قبل هاتين المرحلتين الانتقاليتين، راصداً تحولات الثقافة المصرية مع بدايات النهضة الحديثة في عصر محمد على وأسرته، وانفتاح منجز التحديث آنذاك على الغرب الأوروبي، مع الوعي بخصوصية الحالة المصرية والالتفات إلى مكوناتها التراثية ومقوماتها الذاتية والحضارية، ثم يتابع بالرصد والتحليل ما طرأ عليها في عهود: عبد الناصر، والسادات، ومبارك، موضحاً كيف تحولت من مكون وطني دافع للنهوض بوجدان المجتمع سياسياً واجتماعياً، ليتم النظر إليها - خصوصاً في عهدي السادات ومبارك - باعتبارها ترفاً ومصدراً للفوضى والقلق، وأنه لا بد من تدجين المثقفين. ومن ثم برزت فكرة غواية المثقفين بحزمة من المنافع الشخصية الصغيرة، ليدخلوا عبرها «الحظيرة»، حظيرة السلطة - حسب تعبير وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني آنذاك، وبذلك يسهل احتواؤهم من قبل السلطة، ويصبحون عنصراً تابعاً، بل خادماً لسياستها المتسلطة.
وهو ما أدى - حسب الكتاب - إلى تراجع صورة المثقف النقدي المستقل عن السلطات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية، فأصبحت صورة مشوشة «ساهم فيها كثيرون ممن أدمنوا غوايات جهاز الدولة الثقافي، رغم مناورات بعضهم بالنقد أحياناً والمجاراة أحياناً أخرى». ويلفت الكتاب إلى تفاقم هذه الصورة، بخاصة من قبل الجماعات الإسلامية السياسية والسلفية، واستخدام العنف، والسعي إلى إضعاف دور المثقف الحقيقي ومكانته، ومحاولة اغتياله، وهو ما تعرض له عدد من الرموز الثقافية، المناهضة للسلطة والإرهاب السلفي تحت عباءة الدين.
يراكم الكتاب أبعاد هذه الصورة عبر فصوله، ومن خلال الرصد والتحليل والتقصي لملامحها، وما أفرزته من ظواهر متباينة، ويسلط عليها الضوء من زوايا خاصة ووجهات نظر متعددة، أثرت في الدور والفعل الثقافي المصري، وحدت من اتساعه وتأثيره في محيطه العربي الإقليمي، خصوصاً بعد الطفرة النفطية في عدد من الدول العربية، الخليجية على وجه الخصوص، وفوائض رأس المال المتنامية، وبروز أدوار ثقافية جديدة يساندها سخاء في الجوائز الأدبية بالدول الخليجية مما جعلها محط أنظار المبدعين العرب. ولم يقتصر هذه الدور على منافسة مراكز الثقل الثقافي التاريخية، سواء في القاهرة أو بيروت أو بغداد أو دمشق، إنما أصبح يهددها بالتهميش. أضف إلى ذلك الصعود اللافت للمركز الثقافي المغاربي منذ عقد الثمانينات، وحتى العقدين الماضيين من الألفية الجديدة. وحسبما يذكر الكتاب: «حدث تحول في مراكز الإنتاج الفكري في العالم العربي، من خلال ظهور دور الجماعة الثقافية في المغرب، في مجال الفلسفة والدراسات حول العقل العربي – محمد عابد الجابري - وفي مجال القانون والدراسات السوسيولوجية، وبعض التجارب الفنية في المسرح. في تونس تطورت الدراسات الإسلامية الجديدة في المدرسة الفكرية التي أسسها عبد المجيد الشرفي وتلامذته».
ضمن هموم الواقع الثقافي، وفي خضم هذه التغير والتطور وتقنيات عالم الرقمنة يطرح المؤلف مقاربات فكرية جديدة حول المعرفة والأسئلة الكبرى التي تشكل جذورها، وذلك بحثاً عن نموذج معرفي عربي «يمكن أن نوظفه في لغتنا، ومفرداتنا وأوصافنا، ويصبح جزءاً من إنتاجنا العقلي والنظري والتطبيقي، وينمي قدرتنا على الوصف والتفسير والتحليل والتركيب»، محذراً من مخاطر غياب الثقافة في حياتنا، وأنه «وراء أي فقر سياسي غياب ثقافة لدى منتج الخطاب».
تبقى في هذه الإطلالة ملاحظات حول اعتصام المثقفين المصريين الذي كان المؤلف في القلب منه، ومع ذلك أشار إليه بشكل عابر لا يتجاوز السطرين. من هذه الملاحظات أن ذلك الاعتصام الذي استمر نحو 40 يوما وشارك فيه كبار الكتاب والمثقفين والفنانين شكل استثناء غير مسبوق في تاريخ الثقافة المصرية، كما أنه فعل حرية بالأساس، حرية الثقافة والمثقفين، التي لا تنفصل بالضرورة عن حرية الوطن، ثم إنه كان محاولة لاستعادة حقيقة مستلبة وغائبة. كما شكل ميزاناً لطبيعة المثقف المصري ودوره في العمل الجماعي الوطني، وغيرها مما ينصب في موضوع كتابنا هذا. ومع ذلك يبقى السؤال الجوهري: لماذا نجح الاعتصام في الحشد، وفشل في اختبار النوع: فبرغم هذا الزخم، لم يستطع المثقفون فرض أو اختيار وزير ثقافة من بينهم بعد الإطاحة بـ«الإخوان المسلمين»، وظل الحال كما هو عليه في وزارة الثقافة. انتهى الاعتصام وعاد المثقفون إلى طبيعتهم النخبوية العشوائية ومصالحهم الشخصية الضيقة. لذلك فإن ما قبل الاعتصام وما بعده يشكل خلاصة مهمة يمكن من خلالها استبيان وضعية وحقيقة المثقف والثقافة المصرية في لحظة شائكة ومصيرية، كان بوسع الكتاب أن يخصها بمبحث واسع، خصوصاً أنه وضع هذه الثقافة فوق ميزان الحرية والحقيقة في ضوء رؤية ومنهج سديدين.



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.