بعد حلول الظلام بقليل في أول يوم من العام الجديد، اختار رجل قصير وضئيل الحجم، موضعاً على الحدود الأكثر تحصيناً في العالم، على مسافة نحو ربع ميل من أقرب فصيل من الجنود، ثم تسلق السياج السلكي، الذي يبلغ ارتفاعه عشرة أقدام. أضيئت الكشافات التحذيرية، وانطلقت الأجراس، ولكن الرجل أسرع يقفز فوق الأرض الوعرة التي تغطيها الثلوج، يتنقل بحذر وسط الألغام الأرضية التي لا حصر لها والتي تعود لحرب من القرن الماضي، يظهر أمام الكاميرات الحرارية مرة ويختفي أخرى. وبحلول منتصف الليل كان قد عبر المنطقة منزوعة السلاح التي يبلغ طولها 5.2 ميل... لقد عاد إلى وطنه أخيراً... كوريا الشمالية. وبحسب التقرير الذي نشرته صحيفة لوس أنجليس تايمز الأميركية، خاطر نحو 33 ألف كوري شمالي بحياتهم للهروب من القمع في بلادهم خلال العقود الأخيرة، وتركوا خلفهم اقتصاداً فقيراً وخوفاً تولد في معسكرات الاعتقال السياسية، وتأليهاً للزعيم كيم جونج أون، وأسلافه. وقد صار الرجل الذي تمكن من اعتلاء وتجاوز السلك الحدودي، والذي لم يتم تحديد شخصيته حتى الآن، واحداً من عدد قليل من الكوريين الشماليين الذين تمكنوا من العودة إلى بلادهم الشيوعية المعزولة بعدما ذاقوا طعم الحياة خارجها. وبحسب المخابرات الكورية الجنوبية، عاد نحو 30 كورياً شمالياً إلى بلادهم بعدما كانوا استقروا في الجنوب. ويقدر الباحثون وناشطون أن الرقم الحقيقي أكثر من ذلك بكثير، وقد يصل للمئات. وبحسب تقرير الصحيفة الأميركية، صار العديد من هؤلاء أدوات دعائية في يد بيونغ يانغ، حيث ظهروا في مقاطع فيديو أو مؤتمرات صحافية، وأدلوا بتصريحات مفعمة بالدموع ندماً على أنهم تركوا بلادهم يوماً ما. ولكن هناك حفنة من العائدين، تغيرت أفكارهم، وحاولوا الهرب ثانية. ونقلت الصحيفة عن بايك نام - سول، الأستاذ بجامعة الشرطة الوطنية الكورية، القول إن من الصعب الحديث عن رقم تقريبي، ولكن ربما يكون العدد أكثر بكثير. ويضيف بايك، الذي قام بأبحاث تتعلق باللاجئين من الشمال: «بالتأكيد، هناك أشخاص لم تعثر عليهم سلطات كوريا الشمالية. نحصل على تأكيدات فقط عندما تختار كوريا الشمالية النشر».
وقد أثار عبور الرجل حالة جنون في كوريا الجنوبية تتعلق بالانتهاكات الأمنية على الحدود، وخصوصاً بعدما كشف النقاب عن أن الرجل كان عبر إلى الجنوب في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2020، عبر نفس الطريق. ويعد قرار العودة أحدث برهان على ما يواجهه اللاجئون الكوريون الشماليون من تحديات في سبيل التكيف في وطنهم الجديد، وعزلتهم والصعوبات الاقتصادية التي فاقمها جائحة «كورونا». وقال نحو 20 في المائة من لاجئي الشمال في الجنوب إنهم فكروا في العودة إلى وطنهم، بحسب مسح أجراه العام الماضي «مركز قاعدة البيانات لحقوق الإنسان في كوريا الشمالية». وأظهر البحث أيضاً أن السبب الأكثر شيوعاً لتبرير ذلك كان الشوق للعائلة أو مسقط الرأس. وقال البعض إنهم تعرضوا لعمليات تمييز في كوريا الجنوبية، أو إن المجتمع الرأسمالي يتسم بالمنافسة الشديدة للغاية.
ويقول جو سيونج - ها، الذي غادر كوريا الشمالية في عام 2002 ويعمل صحافياً في الجنوب، إنه لا يزال يجد نفسه يفكر في وطنه، وأضاف: «أفكر في ذلك...
كيف لا ولي عائلة هناك؟» ورغم ذلك، تمكن معظم اللاجئين بعد سنوات قليلة من الاستقرار في الأرض الجديدة التي اختاروها. وأوضحت بارك يونج - جا، وهي باحثة زميلة في «معهد التوحيد الوطني»، وهو مركز أبحاث تموله الحكومة في كوريا الجنوبية، أن اللاجئين الذين يعيشون دون أسرهم يمرون بأوقات عصيبة في سبيل التكيف. وأضافت أن التحديات المستمرة، رغم وجود مئات الآلاف من كوريا الشمالية في الجنوب لعقود، تشير إلى أي مدى يتعين على المجتمع في كوريا الجنوبية أن يذهب في احتضانه لهم. ورغم أن سكان الكوريتين لديهم نفس اللغة ونوعية الغذاء
والثقافة، تباينت سبل الحياة على نحو متزايد خلال العقود السبعة الماضية منذ الحرب الكورية، حيث صارت كوريا الجنوبية أكثر ثراءً، والشمالية أكثر عزلة.
ودب الدفء في أوصال العلاقات بين الكوريتين لفترة وجيزة في عام 2018، التقى خلالها الزعيم الكوري الشمالي برئيس الجنوب، وقام الزعيمان بتفكيك بعض نقاط الحراسة في المنطقة منزوعة السلاح في بادرة حسن نية، ولكن كيم رفض عروض المساعدة التي قدمتها سيول. ولم يعط الزعيم الراحل للشمال، كيم يونغ إل الذي حكم البلاد لمدة 17 عاماً، اهتماماً للاجئين، وكان يراهم خونة. ولكن بعد وقت قصير من تولي نجله، الزعيم الحالي، مقاليد الأمور في عام 2011، بدأت بيونغ يانغ جهوداً منسقة لإغراء الهاربين بالعودة إلى وطنهم، حيث عرضت أن تعفو عنهم وأن توفر لهم سبل حياة مريحة مقابل أن يعطوا معلومات عن اللاجئين الكوريين الشماليين في الجنوب، بحسب باحثين. وفي عام 2016، أظهر مقطع فيديو نشره موقع تابع للحكومة في الشمال، رجلاً يبلغ من العمر 40 عاماً، وقد عاد خوفاً على زوجته التي خلفها وراءه، وهو يقول إنه تعرض للتمييز والمعاناة الاقتصادية في كوريا الجنوبية، وأضاف «قضيت عاماً وستة أشهر في كوريا الجنوبية، وكانت كل دقيقة تمر كأنها عقد، وكل يوم كأنه الجحيم». وبحسب سجلات قضائية في كوريا الجنوبية، هرب الرجل ثانية من كوريا الشمالية بعد ثمانية أشهر من ظهور مقطع الفيديو. وصدر حكم بالسجن لمدة ثلاثة أعوام ونصف عام بحقه لإدانته بنقل معلومات عن زملائه اللاجئين. وتكشف قضايا أخرى تتعلق بمحاولات لاجئي الشمال عن يأس يدفع الهاربين للعودة، وبينهم، على سبيل المثال، عامل يومية في مجال التشييد تعرض للاحتيال، وكان الدائنون يطاردونه، وآخر في الستينات من عمره أصيب بسكتة دماغية وأراد أن يرى زوجته وابنه قبل أن يموت، وكان يشعر بالإحباط كونه عاملاً أجنبياً في الجنوب. وأعد عدد من لاجئي الشمال في كوريا الجنوبية أموالاً لدفعها كـ «رسوم ولاء» لحزب العمال الحاكم في بيونغ يانغ ليعفو عنهم بعدما هربوا من بلادهم، وهي جريمة جنائية يعاقب عليها بالسجن في معسكر أو أداء عمل قسري.
وبرزت المحنة الاقتصادية التي قد يتعرض لها لاجئو الشمال في كوريا الجنوبية في عام 2019 بعدما جرى العثور على أم عزباء، وطفلها، ست سنوات، داخل مسكنهم في سيول، وقد فارقا الحياة، ربما بسبب الجوع. وقد تحولت وفاة الأم وصغيرها إلى صرخة قوية يرددها اللاجئون الآخرون.
وتقول جيون سو - مي، وهي محامية وناشطة تدافع عن لاجئي الشمال، إن كثيرين منهم أفاقوا من الوهم في ظل النزعة الفردية والرأسمالية المتفشية في الجنوب. وأضافت أن اختيار اللاجئين العودة، طواعية، إلى بلادهم يجب أن يشكل فرصة لكوريا الجنوبية لبحث الأمر.
لماذا يخاطر لاجئون كوريون شماليون بحياتهم ويعودون إلى وطنهم بعد الهروب منه؟
باحثون يرجعون السبب إلى عزلتهم في الجارة الجنوبية والصعوبات الاقتصادية
لماذا يخاطر لاجئون كوريون شماليون بحياتهم ويعودون إلى وطنهم بعد الهروب منه؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة