الأميركيون أكثر تشكيكاً بإعلامهم وبديمقراطيتهم «المتآكلة»

بعد سنة على أحداث 6 يناير

لقطة من الهجوم على الكابيتول في واشنطن
لقطة من الهجوم على الكابيتول في واشنطن
TT

الأميركيون أكثر تشكيكاً بإعلامهم وبديمقراطيتهم «المتآكلة»

لقطة من الهجوم على الكابيتول في واشنطن
لقطة من الهجوم على الكابيتول في واشنطن

قبل بضعة أيام، أحيا الأميركيون الذكرى الأولى لأحداث 6 يناير (كانون الثاني)، حين اقتحم أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مبنى الكابيتول، بهدف تعطيل جلسة تثبيت فوز الرئيس جو بايدن.
أحداث ذلك اليوم حظيت ولا تزال بنقاشات لم تتوقف عن دور وسائل الإعلام الأميركية في الدفاع عن الديمقراطية الأميركية، التي بات كثيرون يخشون من انهيارها، لا بل ويشكك البعض في وجودها أصلاً. ومع أن النقاش، يتناول «حدثاً أميركياً» بامتياز، إلّا أنه من نافل القول إن تأثيراته، أبعد بكثير من حدود أميركا، وخصوصاً على النظم الديمقراطية والغربية منها على وجه الخصوص، في ظل الصراع المفتوح مع نظريات قديمة - جديدة، تروج للنظم الاستبدادية كنموذج يحتذى.
يقول العديد من الخبراء والنقاد إن كبريات وسائل الإعلام وأبرز الصحافيين الأميركيين بذلوا خلال العام الماضي جهوداً إيجابية، لنشر تحقيقات «كشفت أكاذيب السياسيين» حول حقيقة ما جرى قبل يوم 6 يناير وخلاله وبعده. لكن رغم ذلك، هناك قضية رئيسة لا تزال غائبة عن وسائل الإعلام، رغم إدراكها فردياً من الصحافيين، تتمثل في كيفية «رفع الحصار عن الديمقراطية»، التي تتآكل يوماً بعد يوم.
افتتاحية لإحدى أبرز الصحف الأميركية أشارت إلى الأدلة المتزايدة عن هذا التآكل. ولخصته بالمضايقات التي يتعرض لها مسؤولو الانتخابات من قبل مدمني نظرية المؤامرة، وتهديدات بالقتل للسياسيين الذين يصوتون محكمين ضمائرهم، بينما المشرعون الجمهوريون - وخصوصاً في الولايات التي يسيطرون عليها - يدفعون بقوانين وإجراءات لجعل حق التصويت أكثر صعوبة على المواطنين، وتسهيل قلب نتائج التصويت الشرعية على الحزبيين.
وحقاً، اليوم، أصبحت المزاعم الوهمية بالتزوير وتكتيكات «أوقفوا السرقة»، وسيلة شائعة للعديد من قادة بعض الدول الشعبويين، لإجهاض الديمقراطية. ولطالما كانت مثل هذه الأساليب مصدراً للاضطرابات في البلدان التي تكافح من أجل تطوير الديمقراطية، لكن ما جرى في أهم وأقوى ديمقراطية في العالم، يمثل بداية حقبة جديدة خطيرة، بحسب المؤرخة آن أبلباوم.
مما لا شك فيه أن بعض المؤسسات الإخبارية الأكثر رصانة وحيادية، تقوم بعمل صحافي مهم حول هذا الموضوع. على سبيل المثال نشرت وكالة «أسوشييتدبرس» الأسبوع الماضي، تحقيقاً أوضحت فيه بالتفصيل، الطرق التي تحالف بها الجمهوريون مع الرئيس ترمب، بعد أحداث 6 يناير - التي وصفتها بمحاولة انقلاب شبه فاشلة - معتبرة أنها كانت عملية تمهيدية لعام 2024. وتناول التقرير ما يحدث في «ساحات القتال» في الولايات التي يمكن أن تقرر هوية الشاغل التالي للبيت الأبيض، بالقول: «في ميشيغان، حيث يعيد الحزب الجمهوري تجميع أعضاء مجالس محلية مغمورة يمكن أن تمنع الموافقة على الانتخابات. وفي ولايتي ويسكونسن وبنسلفانيا تدعم الهيئات التشريعية التي يسيطر عليها الجمهوريون، (المراجعات) المفتوحة لانتخابات عام 2020. على غرار ما جرى في ولاية أريزونا». ويختم التقرير قائلاً إن «الجهود مهيأة لتأجيج التضليل والغضب بشأن نتائج 2020 لسنوات قادمة».

التغطية الإعلامية القاصرة

وسائل إعلام أخرى ركزت أيضاً على تلك الممارسات، لكن التحذير الأهم هو «أن التغطيات الإعلامية المؤيدة للديمقراطية، لا تزال قاصرة وعرضية وغير منتظمة على نطاق واسع، ولم تكن جزءاً من خطة تحريرية شاملة تدرك تماماً مقدار الخطر الذي تتعرض له ديمقراطيتنا»، بحسب صحيفة «ذي أتلانتيك». وهي ترى أن الدفاع عن حقوق التصويت، والضوابط والتوازنات الحكومية، والمعايير الديمقراطية، يجب أن يتحول إلى قضية دائمة لوسائل الإعلام.
بيد أن كل هذا لم يمنع شرائح واسعة من الشعب الأميركي، بمعزل عن انتماءاتها الحزبية، من التشكيك بحيادية الإعلام وموضوعيته وصدقيته. إذ يقول تقرير لمؤسسة «غالوب» البحثية، إن التطورات التكنولوجية جعلت من السهل على الأميركيين التواصل مع بعضهم البعض والحصول على المعلومات، بما في ذلك تفاصيل القضايا الرئيسة التي تواجه البلاد. لكن هذه التطورات «تمثل تحديات وفرصاً للأفراد والمؤسسات الأميركية على حد سواء، فالمعلومات لا تتوفر بسهولة فحسب، بل وأيضاً المزيد من المعلومات المضللة. وقد لا يتمكن كثيرون من تمييز الفرق بين الاثنين بسهولة». ووسط المشهد المعلوماتي المتغير، تآكلت الثقة بوسائل الإعلام في الولايات المتحدة، مما جعل من الصعب على وسائل الإعلام الإخبارية الوفاء بمسؤولياتها الديمقراطية المتمثلة في إعلام الجمهور ومحاسبة قادة الحكومة.
وفعلاً، يعتقد معظم الأميركيين أنه بات من الصعب الآن أن يكون المرء على اطلاع جيد وأن يحدد الأخبار الدقيقة. ثم إنهم باتوا ينظرون بشكل متزايد إلى وسائل الإعلام على أنها متحيزة، ويكافحون بصعوبة للعثور على مصادر الأخبار الموضوعية. لكن، مع هذا، ما زالوا يعتقدون أن وسائل الإعلام لا تزال تلعب دوراً حاسماً في ديمقراطيتنا، وإن كانوا قليلي الثقة بشأن كيفية اضطلاع وسائل الإعلام بهذا الدور.

استطلاع «إيبسوس»

من ناحية ثانية، يظهر استطلاع جديد مشترك لمؤسسة «إيبسوس» مع الإذاعة الوطنية، أن الأميركيين يشعرون بالتشاؤم العميق بشأن مستقبل الديمقراطية، بعد عام على هجوم 6 يناير. إذ يعتقد 64 في المائة منهم أن الديمقراطية الأميركية «في أزمة ومعرضة لخطر الفشل». ويشعر الجمهوريون بهذا الشعور بشكل أكثر حدة، إذ يتفق ثلثا المشاركين في الاستطلاع من الحزب الجمهوري مع الادّعاء الكاذب بأن «تزوير الناخبين ساعد جو بايدن في الفوز بانتخابات عام 2020»، وهو ركيزة أساسية لـ«الكذبة الكبيرة» بأن الانتخابات قد سُرقت من ترمب. كذلك يواصل أقل بقليل من نصف الجمهوريين القول إنهم مستعدون لقبول نتائج انتخابات 2020، وهذه النسبة ظلت من دون تغيير تقريباً منذ يناير الماضي. أما الديمقراطيون، فيعربون من جهتهم أيضاً عن استيائهم من حالة الديمقراطية، ولكن لأسباب مختلفة تماماً، من بينها قلقهم بشأن قيود التصويت التي أقرتها المجالس التشريعية للولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون في أعقاب انتخابات 2020.
بيد أن ما تصفه مجلة «فورين أفيرز» المرموقة بـ«الركود الديمقراطي العالمي الذي طال أمده» نراه وقد تحول في السنوات الأخيرة إلى ظاهرة أكثر إثارة للقلق هي «الموجة العكسية الثالثة» من الانهيارات الديمقراطية التي حذر عالم السياسة صمويل هنتينغتون من أنها قد تتبع الاندفاع الملحوظ للتقدم الديمقراطي في الثمانينيات والتسعينيات. ووفق مؤسسة «فريدوم هاوس»، شهدت السنوات الـ15 الماضية تراجعاً للحقوق السياسية والحريات المدنية في عدد أكبر من البلدان، أكثر من المكاسب التي شهدتها. ولكن منذ عام 2015 وحتى 2019. تحول هذا الاتجاه إلى الأسوأ بشكل حاد. ولقد كانت السنوات الخمس، هي الأولى منذ بداية الموجة الثالثة عام 1974. عندما تخلّت 12 دولة عن الديمقراطية، مقابل تحول 7 دول إلى الديمقراطية.
واليوم، تواجه الولايات المتحدة حركة متنامية مناهضة للديمقراطية، ليس فقط من صفوف المتطرفين المهمشين، بل أيضاً من مجموعة كبيرة من أصحاب المناصب، وهي حركة تتحدى أسس الديمقراطية الانتخابية ذاتها. وإذا تواصل هذا المنحى، يمكن أن تغدو الولايات المتحدة أول ديمقراطية صناعية متقدمة تخفق في تلبية الحد الأدنى من الشروط لإجراء انتخابات حرة ونزيهة كما يحددها علماء السياسة وغيرهم من علماء الديمقراطية.
وهنا يعتقد البعض أن مشاكل عدة تقف بين صانعي السياسة الأميركيين والأجندة المؤيدة للديمقراطية. على رأسها النمو الاقتصادي الأميركي الذي يعتمد بشكل كبير على الأرباح المركزة للشركات في مجالات التكنولوجيا والأدوية والترفيه والعلامة التجارية الاستهلاكية والقطاعات المالية. وهذه الشركات هي نفسها التي تمثل أكبر العقبات أمام رفع معايير العمل العالمية وتحرير قواعد الملكية الفكرية.
وعلى صعيد متصل، يحذر الخبراء من أن المنافع «السلبية» الأولى للديمقراطية، تفقد فعاليتها إذا انفصلت عن تقديم سلع المنافع «الإيجابية» للديمقراطية. إذ يقول تقرير «فورين أفيرز» على سبيل المثال، إن برنامجاً قيمته 31 مليون دولار في غواتيمالا، مولته «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» خلال السنوات الأخيرة، لإنشاء تطبيق للهواتف الذكية يسمح للمواطنين بتتبع إنفاق الحكومة، غير أن السكان الفقراء، الذين يهتمون بالوظائف أكثر من اهتمامهم بالحوكمة الرشيدة، لم يتمكنوا أساساً من شراء الهواتف الذكية.


مقالات ذات صلة

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

يوميات الشرق مبنى التلفزيون المصري «ماسبيرو» (تصوير: عبد الفتاح فرج)

لماذا تم حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي في مصر؟

أثار إعلان «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر حظر ظهور «المنجمين» على التلفزيون الرسمي تساؤلات بشأن دوافع هذا القرار.

فتحية الدخاخني (القاهرة )
شمال افريقيا الكاتب أحمد المسلماني رئيس الهيئة الوطنية للإعلام (موقع الهيئة)

مصر: «الوطنية للإعلام» تحظر استضافة «العرّافين»

بعد تكرار ظهور بعض «العرّافين» على شاشات مصرية خلال الآونة الأخيرة، حظرت «الهيئة الوطنية للإعلام» في مصر استضافتهم.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
يوميات الشرق قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» أثارت جدلاً (تصوير: عبد الفتاح فرج)

​مصر: ضوابط جديدة للبرامج الدينية تثير جدلاً

أثارت قرارات «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام» بمصر المتعلقة بالبرامج الدينية جدلاً في الأوساط الإعلامية

محمد الكفراوي (القاهرة )
الولايات المتحدة​ ديبورا والدة تايس وبجانبها صورة لابنها الصحافي المختفي في سوريا منذ عام 2012 (رويترز)

فقد أثره في سوريا عام 2012... تقارير تفيد بأن الصحافي أوستن تايس «على قيد الحياة»

قالت منظمة «هوستيدج إيد وورلدوايد» الأميركية غير الحكومية إنها على ثقة بأن الصحافي أوستن تايس الذي فقد أثره في سوريا العام 2012 ما زال على قيد الحياة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي شخص يلوّح بعلم تبنته المعارضة السورية وسط الألعاب النارية للاحتفال بإطاحة الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق (رويترز)

فور سقوطه... الإعلام السوري ينزع عباءة الأسد ويرتدي ثوب «الثورة»

مع تغيّر السلطة الحاكمة في دمشق، وجد الإعلام السوري نفسه مربكاً في التعاطي مع الأحداث المتلاحقة، لكنه سرعان ما نزع عباءة النظام الذي قمعه لعقود.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
TT

رئيسة «منتدى مصر للإعلام» تُحذر من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار

نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)
نهى النحاس رئيسة «منتدى مصر للإعلام» (نهى النحاس)

في ظل صراعات وحروب إقليمية متصاعدة وتطورات ميدانية متسارعة، لعب الإعلام أدواراً عدة، سبقت في بعض الأحيان مهمات القوات العسكرية على الأرض؛ ما ألقى بظلال كثيفة على وسائل الإعلام الدولية. تزامن ذلك مع زيادة الاعتماد على «المؤثرين» ونجوم مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار؛ ما دفع رئيسة «منتدى مصر للإعلام»، نهى النحاس، إلى التحذير من دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار.

وفي حوارها مع «الشرق الأوسط»، عدّت نهى دمج «المؤثرين» في غرف الأخبار «خطأً مهنياً»، وقالت إن «صُناع المحتوى و(المؤثرين) على منصات التواصل الاجتماعي يقدمون مواد دون التزام بمعايير مهنية. ودمجهم في غرف الأخبار كارثة مهنية».

وأشار تقرير نشره «معهد رويترز لدراسات الصحافة»، أخيراً، إلى «نمو في الاعتماد على مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي كمصادر للأخبار». ومع هذا النمو باتت هناك مطالبات بإدماج صناع المحتوى في غرف الأخبار. لكن نهى تؤكد أن الحل ليس بدمج المؤثرين، وتقول: «يمكن تدريب الصحافيين على إنتاج أنواع من المحتوى تجذب الأجيال الجديدة، لكن يجب أن يكون صانع المحتوى الإعلامي صحافياً يمتلك الأدوات والمعايير المهنية».

وتعد نهى «الإعلام المؤسسي أحد أبرز ضحايا الحروب الأخيرة»، وتقول إن «الإعلام استُخدم باحة خلفية للصراع، وفي بعض الأحيان تَقدمَ القوات العسكرية، وأدى مهمات في الحروب الأخيرة، بدءاً من الحرب الروسية - الأوكرانية وصولاً إلى حرب غزة».

وتبدي نهى دهشتها من الأدوار التي لعبها الإعلام في الصراعات الأخيرة بعد «سنوات طويلة من تراكم النقاشات المهنية ورسوخ القيم والمبادئ التحريرية».

وتاريخياً، لعب الإعلام دوراً في تغطية الحروب والنزاعات، وهو دور وثّقته دراسات عدة، لكنه في الحروب الأخيرة «أصبح عنصراً فاعلاً في الحرب؛ ما جعله يدفع الثمن مرتين؛ أمام جمهوره وأمام الصحافيين العاملين به»، بحسب نهى التي تشير إلى «قتل واغتيال عدد كبير من الصحافيين، واستهداف مقرات عملهم في مناطق الصراع دون محاسبة للمسؤول عن ذلك، في سابقة لم تحدث تاريخياً، وتثبت عدم وجود إرادة دولية للدفاع عن الصحافيين».

وتقول نهى: «على الجانب الآخر، أدت ممارسات مؤسسات إعلامية دولية، كانت تعد نماذج في المهنية، إلى زعزعة الثقة في استقلالية الإعلام»، مشيرة إلى أن «دور الإعلام في الحروب والصراعات هو الإخبار ونقل معاناة المدنيين بحيادية قدر المستطاع، لا أن يصبح جزءاً من الحرب وينحاز لأحد طرفيها».

نهى النحاس

وترفض نهى «الصحافة المرافقة للقوات العسكرية»، وتعدها «صحافة مطعوناً في صدقيتها»، موضحة أن «الصحافي أو الإعلامي المرافق للقوات ينظر للمعركة بعين القوات العسكرية التي يرافقها؛ ما يعني أنه منحاز لأحد طرفَي الصراع». وتقول: «عندما ينخرط الصحافي مع جبهة من الجبهات لا يعود قادراً على نقل الحقائق».

وضعت الحروب الأخيرة الصحافيين في غرف الأخبار «أمام واقع جديد جعل أصواتهم غير مسموعة في مؤسساتهم، في بعض الأحيان»، وتوضح نهى ضاربة المثل بالرسالة المفتوحة التي وقّعها عدد من الصحافيين في صحيفة «لوس أنجليس تايمز» الأميركية ضد تغطية حرب غزة وتجاهل قتل عدد كبير من الصحافيين، والتي أدت في النهاية إلى إيقافهم عن تغطية حرب غزة.

زعزعت الانحيازات الإعلامية في التغطية، الثقة في استقلالية الإعلام، وأفقدت مؤسسات إعلامية كبرى مصداقيتها، بعد أن كانت حتى وقت قريب نماذج للالتزام بالمعايير المهنية. ورغم ما فقدته مؤسسات الإعلام الدولية من رصيد لدى الجمهور، لا تتوقع نهى أن «تقدم على تغيير سياستها؛ لأن ما حدث ليس مجرد خطأ مهني، بل أمر مرتبط بتشابك مصالح معقد في التمويل والملكية». ولفتت إلى أن «الحروب عطّلت مشروعات التطوير في غرف الأخبار، وأرهقت الصحافيين نفسياً ومهنياً».

وترى أن تراجع الثقة في نماذج الإعلام الدولية، يستدعي العمل على بناء مدارس إعلامية محلية تعكس الواقع في المجتمعات العربية، مشيرة إلى وجود مدارس صحافية مميزة في مصر ولبنان ودول الخليج لا بد من العمل على تطويرها وترسيخها بعيداً عن الاعتماد على استلهام الأفكار من نماذج غربية.

بناء تلك المدارس الإعلامية ليس بالأمر السهل؛ فهو بحسب نهى «يحتاج إلى نقاش وجهد كبير في التعليم وبناء الكوادر وترسيخ الإيمان بالإعلام المستقل». وهنا تؤكد أن «استقلالية الإعلام لا تعني بالضرورة تمويله من جهات مستقلة، بل أن تكون إدارته التحريرية مستقلة عن التمويل قدر الإمكان»، مشددة على أن «التمويل العام لوسائل الإعلام مهم ومرحّب به، لا سيما في لحظات الاستقطاب السياسي؛ حتى لا يلعب المال السياسي دوراً في تخريب مصداقية المؤسسة».

غيّرت الحروب غرف الأخبار وألقت بظلالها على طريقة عملها، لتعيد النقاشات الإعلامية إلى «الأسس والمعايير والأخلاقيات»، تزامناً مع تطورات تكنولوجية متسارعة، ترى نهى أنها «ضرورية لكن كأدوات لإيصال الرسالة الإعلامية بفاعلية».

من هذا المنطلق، ترفض نهى التوسع في مناقشة قضايا الذكاء الاصطناعي على حساب القضايا المهنية، وتقول: «نحتاج إلى إعادة تثبيت وترسيخ القواعد المهنية، ومن ثم الاهتمام بالأدوات التي تسهل وتطور الأداء، ومن بينها الذكاء الاصطناعي الذي لا يمكن إنكار أهميته».

وتضيف: «إذا كان الأساس به خلل، فإن الأداة لن تعالجه؛ لذلك لا بد من مناقشات في غرف الأخبار حول الأسس المهنية لاستعادة الجمهور الذي انصرف عن الأخبار».

وبالفعل، تشير دراسات عدة إلى تراجع الاهتمام بالأخبار بشكل مطرد، تزامناً مع تراجع الثقة في الإعلام منذ جائحة «كوفيد-19»، وتزايد ذلك مع الحرب الروسية - الأوكرانية. ووفقاً لمعهد «رويترز لدراسات الصحافة»، فإن «نحو 39 في المائة من الجمهور أصبحوا يتجنبون الأخبار».

وهنا تقول نهى إن «الثقة تتراجع في الإعلام بشكل مطرد؛ لأن الجمهور يشعر أن صوته لم يعد مسموعاً، إضافة إلى تشبع نسبة كبيرة من الجمهور بأخبار الحرب، إلى حد مطالبة البعض بنشر أخبار إيجابية». وتضيف أن «هذا التراجع امتزج مع صعود منصات التواصل التي أصبحت يُخلط بينها وبين الإعلام المؤسسي، لا سيما مع ما قدمته من متابعات للحروب والصراعات الأخيرة».

وتشير رئيسة «منتدى مصر للإعلام» إلى أن «الحروب الأخيرة في أوكرانيا وغزة وضعت أعباء مالية، وفرضت محتوى مختلفاً على المؤسسات الإعلامية أدى إلى زيادة تجنب الجمهور للأخبار»، بحسب ما جاء في دراسة نشرها معهد «رويترز لدراسات الصحافة»؛ ما يستلزم البحث عن وسائل لإعادة جذبه، أو لـ«غرفة أخبار ثالثة» كما فعلت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، مستهدفة «جذب مزيد من القراء وزيادة الموارد».

وتستهدف «غرفة الأخبار الثالثة» إنشاء محتوى خاص لمنصات التواصل الاجتماعي، ومقاطع فيديو قصيرة تتناول موضوعات متنوعة لجذب الأجيال المرتبطة بالهواتف الذكية.

ويعد التدريب واحداً من أدوار المنتديات الإعلامية، ومن بينها «منتدى مصر للإعلام». وأوضحت نهى، في هذا المجال، أن «المنتديات الإعلامية هي تعبير عن الواقع الإعلامي لدولةٍ أو منطقةٍ ما، ونقطة تلاقٍ لمناقشة قضايا ومعارف مهنية، وملاحقة التطورات التكنولوجية».

وكان من المقرر عقد النسخة الثالثة من «منتدى مصر للإعلام» نهاية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لكن تم تأجيلها «بسبب الأحداث المتلاحقة والمتسارعة في المنطقة والتي كانت ستؤثر على حضور بعض ضيوف (المنتدى)»، بحسب نهى التي تشير إلى أنه «سيتم عقد النسخة الثالثة من (المنتدى) منتصف 2025».

وتوضح أنه «يجري حالياً مراجعة أجندة (المنتدى) وتحديثها وتغييرها استعداداً للإعلان عنها في الربع الأول من العام المقبل»، مشيرة إلى أنه لم يتم الاستقرار بعدُ على عنوان النسخة الثالثة، وإن كان هناك احتمال للإبقاء على عنوان النسخة المؤجلة «يمين قليلاً... يسار قليلاً!».

وتقول نهى إن «منتدى مصر للإعلام» سيركز كعادته على المناقشات المهنية والتدريبات العملية، لا سيما «منصة سنة أولى صحافة» المخصصة لتقديم ورش تدريبية لطلاب الإعلام تتناول الأساسيات والمعايير المهنية.

وتختتم حديثها بالتأكيد على أن الالتزام بالمعايير المهنية هو الأساس لبقاء الإعلام المؤسسي، مجددة الدعوة لفتح نقاشات جادة بشأن مأسسة نماذج إعلام محلية في المنطقة العربية.