غابرييل بوريتش... يعيد تشيلي إلى معسكر اليسار

ثلاثيني كرواتي الأصل بات أصغر رئيس في أميركا اللاتينية

غابرييل بوريتش... يعيد تشيلي إلى معسكر اليسار
TT

غابرييل بوريتش... يعيد تشيلي إلى معسكر اليسار

غابرييل بوريتش... يعيد تشيلي إلى معسكر اليسار

إذا كانت كوبا هي المعقل الرئيسي للرمزية التاريخية بالنسبة لليسار الشيوعي في أميركا اللاتينية بثورتها المديدة الصامدة بالقبضة الحديدية وقمع الحريات وإلغاء التعددية السياسية، والمترنّحة منذ عقود على شفا الإفلاس والاحتضار، فإن تشيلي تجسّد الحالة الوحيدة التي وصل فيها الشيوعيون إلى الحكم عن طريق انتخابات ديمقراطية ودافعوا عنه حتى الموت.
هذا ما حصل مع الرئيس سالفادور الليندي الذي فضّل الموت على الاستسلام للعسكر، ومن ثم، أصبح عنواناً لرمزية أعمق بكثير - في نظر كثيرين - من رمزية فيديل كاسترو الذي برع في تصفية أعدائه بقدر ما برع في إلغاء منافسيه وإقصاء رفاقه الذين تجاسروا على مخالفته الرأي أو انتقاده.
وبعد 48 سنة من سقوط الليندي قتيلاً وهو يدافع عن قصر الرئاسة في وجه الانقلابيين، ومرور ثلاثين سنة على تسليم قائد الانقلاب الجنرال أوغوستو بينوتشيت (بينوشيه) الحكم إلى المدنيين، قرّرت تشيلي قبل انتهاء2021 إرسال الشاب اليساري غابرييل بوريتش (يكتب الاسم بوريك) إلى قصر «لا مونيدا» مقرّ رئاسة الجمهورية. ولقد فاز بوريتش في الدورة الثانية على منافسه اليميني المتطرف خوسي أنطونيو كاست، ليصبح أصغر رئيس في تاريخ تشيلي وأميركا اللاتينية وهو بعد لم يبغ الـ36 من عمره.
أبصر غابرييل بوريتش النور في مدينة بونتا آريناس، عند أقصى جنوب تشيلي. والتحق بكلية الحقوق في جامعة تشيلي المرموقة في العاصمة سانتياغو، التي كان أحد قادتها الطلابيين في الاحتجاجات التي كادت تسقط حكومة الرئيس المحافظ سيباستيان بينييرا إبان ولايته الأولى عام 2011. وفي العام التالي فاز برئاسة اتحاد الطلاب الجامعيين ضد منافسته الشيوعية كاميلا فاييخو قبل أن يترشّحا سويّة على لائحة واحدة في الانتخابات النيابية عام 2013.
في العام 2014 دخل بوريتش البرلمان إلى جانب فاييخو وأربعة من قادة الحركة الطلابية كانوا كلهم دون الثلاثين من العمر. وتسلّم قيادة حزب التوافق الاجتماعي أحد أركان «الجبهة العريضة»، التي تضمّ القوى اليسارية والحزب الشيوعي التشيلي، التي اختارته مرشحاً لرئاسة الجمهورية مطلع السنة الحالية بعد فترة تردد لفترة طويلة بسبب قلّة خبرته في المعترك السياسي.

اختلاف الآراء حوله
يأخذ خصوم بوريتش – المتحدر من أصول كرواتية – عليه، أنه لم يحصل على الإجازة الجامعية لأنه ترك الدراسة، ودخل البرلمان. كما يأخذ عليه البعض أنه ينتمي إلى عائلة ميسورة، وإلى الجيل الذي لم يعرف القمع والاضطهاد إلا من خلال القصص والروايات... وليس مثل الذين قامت الاحتجاجات الطلابية ضدهم. وهنا يقول أستاذ العلوم السياسي أوجينيو تيروني عن غابرييل بوريتش، إنه «نسخة محسنة عن الناشط الفرنسي واحد زعماء مايو (أيار) 1968 دانييل كوهين بنديت، لكنه عوضاً عن الانضمام إلى مجموعة هيبّية قرر تأسيس حزب جديد». ثم يضيف «إنه يتكيّف مع النظام القائم، لكنه يعزف عن تسلّق المناصب داخل الأحزاب التقليدية، ويؤسس الجبهة العريضة، حيث يهزم الحزب الشيوعي في الانتخابات الداخلية، ثم ينسج تحالفاً واسعاً بين قوى الوسط واليسار، ويمدّ يده إلى الحزب الديمقراطي المسيحي ويفوز برئاسة الجمهورية».
أما رئيسة الجمهورية السابقة ميشيل باشيليت (وهي اشتراكية) فتقول، إن «معظم جيل القياديين الشباب في الجبهة العريضة من أبناء مسؤولين في الأحزاب التقليدية لعبوا أدواراً بارزة في الحكومات التي تعاقبت منذ نهاية الديكتاتورية... ويجمع بينهم قاسم مشترك هو انتقادهم لهذه الحكومات التي يصفونها بالليبرالية الجديدة». وتضيف باشيليت مستدركة «لكن من المفارقات العديدة لهذا اليسار الجديد الذي يرفع شعار الانفتاح على قوى الوسط والتقدمية المعتدلة، أن الركيزة الأساسية للجبهة العريضة هو الحزب الشيوعي، الذي مضى قرن كامل على تأسيسه وما زال يحافظ على التزامه التام بالعقيدة الماركسية اللينينية، رغم وجود تيارات متناحرة داخله مثل التيّار الذي تتزعمه فاييخو».
ومن المآخذ الأخرى على بوريتش العلاقة الوطيدة التي تربطه ببعض القوى اليسارية المتطرفة التي سبق له أن شارك في عدد من أنشطتها ومهرجاناتها. غير أنه عبر مشاركته في الاحتجاجات الطلابية أظهر مرونة وقدرة على التوفيق بين أطياف الجبهة العريضة، وكان له دور محوري في الاتفاق السياسي الذي توصّلت إليه القوى السياسية يوم 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 لانتخاب هيئة مدنية مكلفّة وضع دستور جديد للبلاد. وهذا اتفاق خرج عنه الحزب الشيوعي، الذي هاجم أنصاره بوريتش في الشارع ووصفوه بـ«الخائن». وتجدر الإشارة إلى أن من أشد المتحمسين لدعم بوريتش في الانتخابات الرئاسية الأخيرة كانت مايا فرنانديز الليندي، حفيدة الرئيس الأسبق سالفادور الليندي.
وعن ذلك الدور المحوري الذي كان منعطفاً أساسياً في مسيرة بوريتش السياسية، يقول صديقه جيورجيو جاكسون، الذي يرجّح أن يتولّى إحدى الحقائب الرئيسية في الحكومة الجديدة «بعدما اندلعت موجة الاحتجاجات الطلابية والشعبية في العام 2019، ووصلت الأزمة السياسية إلى طريق مسدودة، اتصل غابرييل بالزعيم اليميني خوان أنطونيو كولوما الذي يرأس الكتلة البرلمانية الأكبر في مجلس الشيوخ، واتفقا على مخرج للأزمة بتغيير الدستور الذي وضعه بينوتشيت والقائم منذ العام 1980». وتابع جاكسون «وبالفعل، تمكّن بوريتش بقراره الفردي، يومذاك، من دفع الجبهة العريضة إلى التوقيع على الاتفاق الذي أيّدته جميع القوى السياسية لانتخاب هيئة دستورية وتكليفها وضع دستور جديد للبلاد. تلك الخطوة هي التي أوصلت بوريتش اليوم إلى سدة الرئاسة».

احتفال عشرات الألوف
وخرج عشرات الآلاف التشيليين في العاصمة سانتياغو يحتفلون بفوز بوريتش الذي خاطب أنصاره قائلاً «إن النمو الاقتصادي الذي حققته تشيلي في العقود الثلاثة المنصرمة، والذي يثير الغيرة في المحيط الإقليمي، يقوم على قاعدة رخوة لأنه لم يصل إلى المحتاجين». ونبّه أن حكومته ستفي بكل الوعود التي قطعها في الحملة الانتخابية، والتي كانت هي شعارات الاحتجاجات الشعبية المطالبة بالصحة والتعليم للجميع من غير تمييز بين الأغنياء والفقراء، وتوفير العيش الكريم إلى الذين صنعوا هذا النمو.
ولكن في اليوم التالي، استيقظت تشيلي على انهيار أسعار بورصة العاصمة التي تراجعت بنسبة 8 في المائة، بينما كانت قيمة العملة الوطنية «البيزو» تتراجع أمام الدولار الأميركي إلى أدنى مستوى منذ أزمة العام 2008. وكان هذا مؤشراً مبكّراً على أن الالتزام بالوعود الانتخابية التي قطعها الرئيس الجديد يقتضي قرارات لا تستسيغها أسواق المال مثل زيادة ضريبة الدخل، خاصة على شركات قطاع المناجم الذي يشكّل المصدر الرئيس للعملة الصعبة في تشيلي، وإلغاء النظام التقاعدي الخاص الذي يموّل فقط من العمّال منذ أواخر سبعينات القرن الماضي.

الأهمية المركزية للاقتصاد
مع هذا، قلل المحللون الاقتصاديون من أهمية رد فعل أسواق المال؛ كونها تلقائية وعفوية عندما يفوز اليسار في أي انتخابات. وتقول باميلا فيغيروا، الأستاذة الجامعية في العلوم الاقتصادية، إن «بوريتش معتدل، وهذا من المفترض أن يحتوي ردة فعل المستثمرين في غضون أيام قليلة. ولكن لا بد له أن يسارع إلى الإعلان عن فريقه الاقتصادي من أجل تهدئة الأسواق، التي ليس من مصلحتها أن تعلن عليه الحرب؛ لأن الجميع على يقين من ضرورة أن يتعاون الجميع لإنقاذ الوضع الاقتصادي الذي أنهكته الاضطرابات الاجتماعية وجائحة (كوفيد – 19)».
من ناحية أخرى، لا شك في أن الاقتصاد سيتصدّر أولويات الرئيس الجديد، لكن ثمّة ملفات أخرى لا تقلّ أهمية، مثل الوضع الأمني والعلاقة مع البرلمان الذي تتوزع القوى اليسارية واليمينية مقاعده مناصفة، فضلاً عن عملية وضع الدستور الجديد التي تتولاها الهيئة المدنية. وعن هذا الملف الأخير، يقول الأستاذ الجامعي كريستوبال بيلوليو «لو كنت مكان بوريتش لاستثمرت كل رصيدي السياسي من أجل إنجاز مشروع وضع الدستور الجديد واعتماده بأغلبية واسعة في الاستفتاء الشعبي. مضمون الرسالة التي وجهها الناخبون إلى الرئيس الجديد هو أنهم يريدون دستوراً معتدلاً يعيد التوازن من جديد إلى البلاد. وإذا قرّر الدستور مثلاً تأميم قطاع المناجم، فهذا لن يحظى بتأييد مقاطعات الشمال (المنجمية). وبالتالي، من واجبات بوريتش الإصغاء إلى صوت الاعتدال، والاكتفاء بتضييق الشرخ الاجتماعي العميق عندما يسلّم الحكم بعد أربع سنوات مع دستور يطوي إلى الأبد صفحة الدستور الموروث من عهد بينوتشيت».
في أي حال سيجد بوريتش نفسه مضطراً إلى إتقان «فن التوازنات» أمام مجتمع ينتظر منه إنجازات اقتصادية سريعة وحلولاً لمشكلات هيكلية قديمة عجزت عن حلها جميع الحكومات السابقة. ذلك أن الإحباط قد يطلّ قريباً إذا تأخرت - أو تعثّرت - نتائج هذا الانتصار الذي رفع منسوب التوقعات إلى أعلى مستوى منذ عودة الديمقراطية إلى تشيلي في العام 1990.
والواقع، أن غابرييل بوريتش يصل إلى رئاسة تشيلي مدعوماً بتأييد غالبية واضحة (أكثر من 56 في المائة) من مواطنيه الذين صوّتوا ليسار جديد لا يحمل إرث الديكتاتورية الثقيل ضد المرشح اليميني المتطرف الذي يدافع عن هذا الإرث الذي رزحت تشيلي ثلاثة عقود تحت وطأته. ويبقى السؤال هو معرفة سقف الإحباط الذي يمكن للتحالف الجديد الذي سيحكم البلاد أن يصمد معه، والذي قد يفتح الباب أمام انفجار اجتماعي آخر قد يقدّم الحكم لليمين المتطرف على طبق من فضة.
التحالفات السابقة التي تعاقبت على الحكم منذ نهاية تسعينات القرن الفائت توزّعت على كتلتين كبيرتين: واحدة ضمّت قوى وسطية ويسارية، وأخرى ضمّت قوى وسطية ويمينية. إلا أن التحالف الذي يدعم الرئيس الجديد يقوم على الحزب الشيوعي و«الجبهة العريضة» التي تضمّ مجموعة واسعة من القوى والهيئات الطلابية والجامعية التي تشكّلت إبّان سلسلة الاحتجاجات التي بدأت في العام 2011... وكانت لحمتها الأساسية التجانس العمري والتشخيص المشترك للمشكلات الاجتماعية التي تعاني منها تشيلي.

أول خطاب لبوريتش
في خطابه الأول بعد إعلان النتائج النهائية، قال بوريتش «نحن أمام منعطف تاريخي، ومن واجبنا جميعاً ألا نضيّع هذه الفرصة». ومن ثم، تعهد بأن تصغي حكومته إلى نبض الشارع، وألا تتخذ قراراتها معزولة عن الناس بين جدران القصر الرئاسي. ولأنه يدرك جيداً أن الأسباب التي كانت وراء الاحتجاجات الشعبية ما زالت قائمة، وتنتظر أول فرصة لكي تفجّر الوضع مجدداً، دعا خصومه وجميع القوى الأخرى إلى الحوار والتعاون «كي يكون الدستور الجديد ملتقى الجميع على طريق المستقبل وليس مفترقاً».
أما المرشح اليميني المتطرف خوسيه أنطونيو كاست، فقد سارع من جهته إلى تهنئة بوريتش حتى قبل إعلان النتائج النهائية. وقال كاست «إنه (بوريتش) يستحق كل الاحترام. لقد فاز عن جدارة وأتمنى له النجاح في الحكم». إلا أنه، في المقابل، قال، إن المشروع السياسي الذي حمله إلى التقدم في الدورة الأولى من الانتخابات ليس عابراً. وتابع «إنني اتعهد أمام كل الذين صوّتوا لنا بأننا سنبقى دائماً بجانبهم ولن نتخلى عنهم أبداً. سنبقى في الأرياف مع تقاليدنا وعاداتنا، وإلى جانب ضحايا الإرهاب وضد كل المحاولات لتغيير وجه تشيلي الحقيقي»... مذكراً بأنه هو فاز في الدورة الأولى الفارق بنفسه الذي فاز به بوريتش في الدورة الثانية. بيد أن المعاينة الأولى للدورة الثانية من الانتخابات أظهرت أن بوريتش نال غالبية ساحقة بين الشباب دون الثلاثين من العمر وبين النساء وفي الأرياف، واستطاع أن يشكّل قاعدة شعبية أوسع بكثير من التي يستند إليها أي من الأحزاب التي تؤيده - بما في ذلك الحزب الشيوعي – ما قد يعطيه هامشاً واسعاً من المناورة في مواجهة التحديات العديدة التي تنتظره.



ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

TT

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

روبيو
روبيو

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل فريق سياسة خارجية وأمن قومي «متجانس»، لا يكرّر الأخطاء والصدامات التي خاضها في ولايته الأولى؛ إذ على مدى السنوات الثماني الماضية، جمع ترمب ما يكفي من الموالين، لتعيين مسؤولين من ذوي التفكير المماثل؛ لضمان ألا تواجهه أي مقاومة منهم. ومع سيطرة الحزب الجمهوري - الذي أعاد ترمب تشكيله «على صورته» - على مجلسي الشيوخ والنواب والسلطة القضائية العليا، ستكون الضوابط على سياساته أضعف بكثير، وأكثر ودية مع حركة «ماغا»، مما كانت عليه عام 2017. وهذا يشير إلى أن واشنطن ستتكلّم عن سياستها الخارجية بصوت واحد خلال السنوات الأربع المقبلة، هو صوت ترمب نفسه. لكن وعلى الرغم من أن قدرته على قيادة آلية السياسة الخارجية ستتعزّز، فإن قدرته على تحسين مكانة الولايات المتحدة في العالم مسألة أخرى.

اختار الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، السيناتور ماركو روبيو، مرشحاً لمنصب وزير الخارجية، بعد قطع الأخير شوطاً كبيراً في تقديم الولاء له. للعلم، علاقة الرجلين التي بدأت منذ عام 2016، وانتهت بشكل تصادمي بعد هزيمة روبيو في الانتخابات الرئاسية التمهيدية للحزب الجمهوري، تحولت إلى علاقة تحالفية إثر دعم روبيو كل ما قاله وفعله ترمب تقريباً إبّان فترة رئاسته الأولى.

هذا الواقع قد يعزّز تثبيت روبيو في مجلس الشيوخ - الذي يمضي فيه الآن فترته الثالثة - من دون عقبات جدية، في ظل دوره وتاريخه في المجلس، منذ أن فاز بمقعد فيه عام 2010. وحقاً، لاقى اختيار روبيو استحساناً حتى من بعض الديمقراطيين، منهم السيناتور الديمقراطي جون فيترمان، الذي قال إنه سيصوّت للمصادقة على تعيينه. كذلك أشاد السيناتور الديمقراطي مارك وارنر، رئيس لجنة الاستخبارات الحالي، في بيان، بروبيو ووصفه بأنه ذكي وموهوب.

ملف الخارجية للرئيس

روبيو، من جهته، لم يترك شكاً حيال مَن يقرر السياسة الخارجية للولايات المتحدة، عندما قال إن من يحددها، ليس وزير الخارجية، بل الرئيس. وبالتالي فإن مهمة مَن سيشغل المنصب ستكون تنفيذ سياسات هذا الرئيس، وهي تهدف إلى تأمين «السلام من خلال القوة»، ووضع مصالح «أميركا في المقام الأول».

وحقاً، يلخص روبيو رؤيته لأميركا بالقول: «هي أعظم دولة عرفها العالم على الإطلاق، لكن لدينا مشاكل خطيرة في الداخل وتحدّيات خطيرة في الخارج». وأردف: «نحن بحاجة إلى إعادة التوازن لاقتصادنا المحلي، وإعادة الصناعات الحيوية إلى أميركا، وإعادة بناء قوتنا العاملة من خلال تعليم وتدريب أفضل». واستطرد: «لا شيء من هذا سهل، لكن لا يمكننا أن نتحمل الفشل. هذا هو السبب في أنني ملتزم ببناء تحالف متعدّد الأعراق من الطبقة العاملة على استعداد للقتال من أجل هذا البلد والدخول في قرن أميركي جديد».

ولكن من هو ماركو روبيو؟ وما أبرز مواقفه الداخلية والخارجية؟ وكيف أدت استداراته السياسية إلى تحوّله واحداً من أبرز المرشحين للعب دور في إدارة ترمب، بل كاد يكون نائبه بدلاً من جي دي فانس؟

سجل شخصي

ولد ماركو روبيو قبل 53 سنة في مدينة ميامي بولاية فلوريدا، التي يعدّها موطنه. كان والده يعمل نادلاً ووالدته عاملة في أحد الفنادق. وفي حملته الأولى لمجلس الشيوخ، حرص دائماً على تذكير الناخبين بخلفيته من الطبقة العاملة، التي كانت تشير إلى التحوّلات الطبقية التي طرأت على قاعدة الحزب الجمهوري، وتحوّلت إلى علامة انتخابية، مع شعار «فقط في أميركا»، بوصفه ابناً لمهاجرَين كوبيّين... أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي.

عندما كان في الثامنة من عمره، انتقلت الأسرة إلى مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا، حيث أمضى نحو 6 سنوات من طفولته، بعدما وجد والداه وظائف في صناعة الفنادق المتنامية فيها. وفي سن الرابعة عشرة من عمره، عاد مع عائلته إلى ميامي. ومع أنه كاثوليكي، فإنه تعمّد في إحدى كنائس لطائفة المورمون في لاس فيغاس، غير أنه في فلوريدا كان يحضر القداديس في إحدى الكنائس الكاثوليكية بضاحية كورال غايبلز، وإن كان قد شارك الصلوات سابقاً في كنيسة «كرايست فيلوشيب»، وهي كنيسة إنجيلية جنوبية في ويست كيندال بولاية فلوريدا.

يعرف عن روبيو أنه من مشجعي كرة القدم الأميركية، وكان يحلم بالوصول إلى دوري كرة القدم الأميركي عندما لعب في المدرسة الثانوية، إلا أنه لم يتلق سوى عرضين من كليتين جامعيتين. وبدايةً اختار كلية تاركيو غير المعروفة، التي تقع في بلدة يقل عدد سكانها عن 2000 شخص في المنطقة الشمالية الغربية الريفية من ولاية ميسوري. ولكن عندما واجهت الكلية الإفلاس وتعرّض للإصابة، تخلى روبيو عن كرة القدم وانتقل إلى فلوريدا، ليتخرّج ببكالوريوس في العلوم السياسية في جامعة فلوريدا، ثم في كلية الحقوق بجامعة ميامي.

في عام 1998، تزوّج روبيو من جانيت دوسديبيس، وهي أمينة صندوق سابقة في أحد المصارف، ومشجعة لنادي ميامي دولفينز لكرة القدم الأميركية، وأنجبا أربعة أطفال، وهو يعيش الآن وعائلته في ويست ميامي بولاية فلوريدا. ووفق موقع «أوبن سيكريت. أورغ»، بدءاً من عام 2018، كان صافي ثروة روبيو سلبياً؛ إذ تجاوزت ديونه 1.8 مليون دولار أميركي.

مسيرته السياسية الطموحة

يوم 13 سبتمبر (أيلول) 2005، في سن 34 سنة انتخب روبيو عضواً في مجلس النواب في فلوريدا، وأصبح رئيساً له عام 2006، بعد انسحاب منافسيه دينيس باكسلي وجيف كوتكامب ودينيس روس، ليغدو أول أميركي من أصل كوبي يتولى هذا المنصب، حتى عام 2008.

عام 2010، كان روبيو يُعد مرشحاً ضعيفاً ضد الحاكم (آنذاك) تشارلي كريست لترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ. وبالفعل، تعرّض لضغوط من قادة الحزب للانسحاب من السباق والترشح بدلاً من ذلك لمنصب المدعي العام، مع وعود من الحزب بإخلاء الميدان له. ويومذاك كتب في مذكراته «ابن أميركي»، قائلاً: «لقد أقنعت نفسي تقريباً بالانسحاب». غير أنه عاد وتمسك بموقفه، وكتب في تلك المرحلة أنه شعر بأنه لا يستطيع التراجع عن كلمته. وبقي في السباق، وفاز بأول فترة له في مجلس الشيوخ، حيث أعيد انتخابه في عام 2016، ثم مرة أخرى في عام 2022.

وعام 2016، دخل روبيو السباق الرئاسي منافساً مجموعة كبيرة من الجمهوريين، منهم دونالد ترمب، وفاز في لاية مينيسوتا، بينما حل السيناتور تيد كروز (من تكساس) ثانياً، وترمب ثالثاً. بعدها كانت انتصاراته الأخرى الوحيدة في واشنطن العاصمة وبورتوريكو. ومن ثم، انسحب بعدما هزمه ترمب في ولايته فلوريدا جامعاً 46 في المائة من الأصوات بينما جاء روبيو ثانياً بنسبة 27 في المائة. وخلال ذلك السباق، تبادل الرجلان الإهانات؛ إذ لقّبه ترمب بـ«ماركو الصغير»، وردّ روبيو بإهانة ترمب ووصفه بأنه «محتال» و«مبتذل». ولكن عندما أعادت قناة «آيه بي سي نيوز» في وقت سابق من هذا العام بث بعض تعليقاته عن ترمب عام 2016، قلل روبيو من أهميتها، بالقول: «كانت حملة». وفعلاً، بعد تولّي ترمب الرئاسة عام 2017، تحسنت علاقاتهما وظل على مقربة منه، حتى بعدما اختار ترمب السيناتور الشاب جي دي فانس (من أوهايو) لمنصب نائب الرئيس. بل سافر روبيو مع ترمب خلال المرحلة الأخيرة من سباق 2024، وألقى خطابات باللغتين الإنجليزية والإسبانية في العديد من التجمعات في اليوم الأخير من الحملة.

لم يترك روبيو شكاً حيال مَن يقرر سياسة واشنطن الخارجية

عندما قال إن من يحددها هو الرئيس... لا وزير الخارجية

سياسات روبيو المحافظة

بدءاً من أوائل عام 2015، حصل روبيو على تصنيف بنسبة 98.67 في المائة من قبل «اتحاد المحافظين الأميركيين»، بناء على سجلّه التصويتي مدى الحياة في مجلس الشيوخ. وعام 2013 كان روبيو السيناتور السابع عشر الأكثر محافظة. ويصنّف مركز سن القوانين الفعالة روبيو باستمرار بين أعضاء مجلس الشيوخ الثلاثة الأكثر فاعلية في الكونغرس.

يُذكر أن روبيو دخل مجلس الشيوخ بدعم قوي من جماعة «حفلة الشاي» التي كانت تمثل اليمين الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. لكن دعمه في عام 2013 لتشريع الإصلاح الشامل للهجرة بهدف توفير مسار للحصول على الجنسية لـ11 مليون مهاجر غير موثق في أثناء تنفيذ تدابير مختلفة لتعزيز الحدود الأميركية، أدى إلى انخفاض دعمهم له. وللعلم، رغم تمرير ذلك المشروع في مجلس الشيوخ، أسقطه المتشددون في مجلس النواب.

ثم، بمرور الوقت، نأى روبيو بنفسه عن جهوده السابقة للتوصل إلى «حل وسط» بشأن الهجرة؛ كالعديد من مواقفه الداخلية والخارجية التي عُدّت سبباً رئيساً لتغير علاقة ترمب به؛ إذ اعتمد مواقف أكثر تشدداً بشأن الهجرة، ورفض مساعي الحزب الديمقراطي إزاء ملف الهجرة منذ عام 2018 وحتى 2024.

في مارس (آذار) 2016، عارض روبيو ترشيح الرئيس باراك أوباما للقاضي ميريك غارلاند للمحكمة العليا، متذرعاً «لا أعتقد أنه يجوز لنا المضي قدماً بمرشح في العام الأخير من ولاية هذا الرئيس. أقول هذا، حتى لو كان الرئيس جمهورياً». لكنه في سبتمبر (أيلول) 2020، إثر وفاة القاضية الليبرالية روث بايدر غينزبيرغ، أشاد روبيو بترشيح ترمب للقاضية المحافظة إيمي باريت للمحكمة، وصوّت لتثبيتها في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، قبل 86 يوماً من انتهاء ولاية ترمب الرئاسية.

أيضاً في مارس 2018، دافع روبيو عن قرار إدارة ترمب بإضافة سؤال الجنسية إلى تعداد عام 2020. ورجح الخبراء يومها أن يؤدي إدراج هذا السؤال إلى نقص حاد في تعداد السكان وبيانات خاطئة؛ إذ سيكون المهاجرون غير المسجلين أقل استعداداً للاستجابة للتعداد.

وحول الميزانية الفيدرالية، يدعم روبيو مع إعطاء الأولوية للإنفاق الدفاعي، ويرفض الإجماع العلمي بشأن تغير المناخ، الذي ينص على أن تغير المناخ حقيقي ومتقدم وضار وينجم في المقام الأول عن البشر. كذلك يعارض روبيو قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) وقد صوّت لإلغائه رغم فشل المحاولة. وهو معارض صريح للإجهاض، وقال إنه سيحظره حتى في حالات الاغتصاب وزنا المحارم، مع استثناءات إذا كانت حياة الأم في خطر.وأخيراً، يدعم روبيو تحديد ضرائب الشركات بنسبة 25 في المائة، وتعديل قانون الضرائب، ووضع حد أقصى للتنظيمات الاقتصادية، ويقترح زيادة سن التقاعد للضمان الاجتماعي بناءً على متوسط العمر المتوقع الأطول. ويعارض المعايير الفيدرالية الأساسية المشتركة للتعليم، كما يدعو إلى إغلاق وزارة التعليم الفيدرالية.