يوسف رزوقة: الشابي لم يؤثّر في الأجيال الشعرية التونسية المتعاقبة

الشاعر التونسي الفائز بجائزة الملك عبد الله الثاني وجائزة قطر لأدب الطفل

يوسف رزوقة
يوسف رزوقة
TT

يوسف رزوقة: الشابي لم يؤثّر في الأجيال الشعرية التونسية المتعاقبة

يوسف رزوقة
يوسف رزوقة

طوال 40 عامًا راوح يوسف رزوقة في كتاباته الأدبية بين الرواية والشعر والترجمة والكتابة للأطفال، وقد أصدر إلى حدّ الآن قرابة الثلاثين كتابًا أولها كان ديوان «أمتاز عليك بأحزاني» (1979)، وآخرها رواية بعنوان «وداعا براءة العالم» صادرة سنة 2014.
وقد فاز رزوقة خلال مسيرته الأدبية بجوائز عربية كثيرة: جائزة الملك عبد الله للآداب والفنون عن مجمل أعماله الشعرية، وجائزة الدولة القطرية لأدب الطفل.
«الشرق الأوسط» التقته في تونس العاصمة وأثارت الجدل معه حول تجربته الأدبية ومدى اندماج الشعر التونسي في محيطه العربي، فكان هذا الحوار.
* كيف يقيّم الشاعر التونسي يوسف رزوقة واقع الشعر التونسي اليوم وموقعه في العالم العربي، هل هو قادر بالفعل على التجديد والمنافسة؟
- الشعر التونسي ليس وليد «المطرة الأخيرة» كما يقال، شأنه شأن الشعر في المغرب العربي فقد سبق لشاعر عربيّ كبير أن أعلنها قبل 20 سنة.. حدّث، قال: عدّلوا ساعاتكم الشعرية على المغرب العربي وما يُكتب فيه.
بلا مزايدة في هذا السياق، تجدر الإشارة هنا إلى ميزة في الشّعر التّونسيّ، وعنفوانه من عنفوان بانوراما الشعر العربيّ.. هذه الميزة التي قد لا نعدم وجودها في أقطار أخرى هي أن لكلّ شاعر شخصيته التي لم يطمس خصوصيّتها الآباء أو ما اصطلح عليهم بالرّوّاد.. فضلا عن مقاربة الشاعر التونسي في معالجاته الشعرية تيمات لم تألفها الذائقة العربية أو تقنيات مكتسبة بفعل التثاقف والتنافذ مع أوروبا، وفي هذا إغناء يجعل قصيدته لافتة بانزياحاتها، وتعدّدها الشّفريّ، بلعبها الغاداميري وبمنسوب الشّعريّة العالي فيها.
بمعنى آخر، وليس المجال مجال مزايدة كما أسلفت، فإنّ ما يكتبه أحفاد أبي القاسم الشابي ومنوّر صمادح ليس محلّ شكّ أو قدح في مدى أدبيّته، لأنه في رأينا وبالاحتكام إلى المدوّنة التونسية، وإن استأنسنا بآراء الآخرين أيضا، هو بمثابة «البقعة الأرجوانية» في المشهد الشعري العربي.
وسؤالنا نطرحه بمحبّة وبلا استفزاز: هل أنّ ما يكتب في بقاع أخرى قادر بالفعل على منافسة الشعر التونسيّ؟ آمل ذلك حتى تحلو المنافسة.
* هل أثّرت ثورة 2011 في الشعر التونسي على مستوى الشكل والمضمون؟
- الشّعر التّونسي والعربي عموما لا ينتظر الثورة، أي ثورة، كي يغيّر ما بشكله أو بمضمونه.. الشّعر ثوري أو لا يكون.. ولعلّ ما كتبه الشّعراء قبل الثورة كان الإرهاص الأكثر ثوريّة والأكثر استشرافا ممّا كتب لاحقا.
فشاعر الهنا والآن غير مطالب، وقد أتت الثورة أكلها أو لم تؤت، بقصائد تعبويّة أو حماسيّة أو تسجيليّة، فهذا الدّور لا يليق بالشاعر بل هو منوط بعهدة الكاميرا للتوثيق وبعهدة الرّوائّيين كي يكتبوا روايات تعكس اعتمالات الحراك وتفاصيله المربكة.
الشعر أكبر من المناسبة وهذا ما حدا بشاعرنا الكبير محمد الغزي إلى تأكيد ذلك بقوله «تونس.. شعر أبعد من الثورة».
فباستثناء الشّاعر الكبير أولاد أحمد الذي نتمنّى له بالمناسبة الشفاء والذي ناضل بالحرف وتبنى «القيادة الشعرية للثورة التونسية»، فضلا عن قلّة أخرى، لا نرى زخما شعريّا لافتا في أدبيّات ثورة 2011.. بل واصل الشّعراء نزفهم بالصدق الإبداعي ذاته دون أن نعدم الثوريّة في ما يكتبون.
* حاول كثير من الأدباء والمثقفين الاقتراب من منظومة الحكم السابق ومدحها البعض شعرا والبعض الآخر نثرا، كيف تقيّم علاقة المثقف بالسلطة في السابق؟ وهل تغيرت بعد الثورة؟
- على مرّ العصور، يبقى الإبداع إبداعا والآيديولوجيا آيديولوجيا وبينهما كامخ الوعي في التعاطي مع أيّهما بمسافة وعي استثنائي هي مسافة الأمان.
والمبدع الّذي يحترم نفسه وإبداعه مطالب منذ ولادته بعدم التّلوّن في مبادئه وبعدم وضع قلمه على ذمّة السّياسيّ، عابر السّبيل إن غدا أو بعده.
تونسيّا، وعلى الرغم من التزام شرائح مثقفة كبيرة باتخاذ مسافة أمان بالابتعاد عن المرجل السياسيّ، هادن المثقّف، في المقابل كعيّنة عشوائية لا غير، وعلى امتداد عقود، السّلطة ولم ير في اقترابه منها أو موالاته لها ما يضير على خلفيّة أنها سلطة قائمة وقد تدوم طويلا وعلاقته بها، لا العكس، قد يغنم من ورائها منافع أو منصبا وما كان يدور بخلده أنّه سيجيء يوم ينهض فيه حراك ثوري يخلط الأوراق ويدعو إلى المحاسبة.. حتى إذا جاء هذا اليوم، وجد هذا المثقف نفسه في مأزق المدان.
ولسائل أن يسأل: والآن، بعد سنوات خمس من الحراك الثوريّ، هل قطع المثقف مع عادة الانتصار للسلطة والتماهي معها أو مع خطابها؟
في رأيي، هناك 3 أوجه للمسألة.. مثقّف يوالي، على تقدّميته، تيّارا سياسيا بدا له ناطقا باسم المرحلة فإذا هو صنيعته وسينتهي قريبا كمثقف سلطة ما قبل الثورة.. ومثقّف أبقى على نفوره من كلّ سلطة قائمة، ومثقّف على الرّبوة يعاين الوضع من عل ويكتفي بذلك.
* اشتكى شعراء تونس لفترة طويلة من سطوة أبي القاسم الشابي ومثلوه بالشجرة التي حجبت الغابة ودعوا إلى قتله على غرار نظرية قتل الأب، هل توافق هذا الرأي أم أن عجز مدونة الشعر التونسي عن مجاراة حجم الشابي وأشعاره هو الذي دفع بهم إلى هذه الحجة الضعيفة؟
- نحن نحب أبا القاسم الشابي لفضل واحد هو أنه، رغم شهرته، لم يفعل فينا كشعراء، فلا صدى له أو لنصّه في نصوصنا.
فأبو القاسم الشابي شاعر عربي كبير ونحن نحبّه بصدق.. نشاطره الإحساس بعبقرية المكان وبما في القصيدة من قيم جمالية وشعرية مشتركة، وإن التقينا في الاختلاف في مستوى النمط الشّعري على خلفيّة أنّ الشّابّي في ديوانه اليتيم «أغاني الحياة» وفي للنمط العمودي، بينما نظراؤه الذين أتوا بعده انخرطوا في مشروع شعري متناغم مع متغيرات المرحلة ومع إيقاع العصر المتسارع، وذلك بتوخّي نهج في الكتابة الشعرية ينتصر للشعر الحرّ أو النثريّ، على حدّ السّواء.
وليس من باب المبالغة إذا قلنا إن الشابي، على أهمية «أغانيه» وذيوع اسمه، لم يؤثّر في الأجيال الشعرية التونسية المتعاقبة فهو نسيج وحده وله أسلوبه الغنائي المخصوص.. وهو بالتالي، لم يكن، في يوم، النخلة التي تغطّي الواحة.. بمعنى أنه لم يهيمن كنصّ شعري على أي من الشّعراء اللاّحقين فيتّهمون به بل ظلّ يراوح في مرتبته «كالنسر فوق القمّة الشماء».
لكن، مع ذلك، وما دمنا نحبّه، كان يلذّ لنا، وهذا مشروع في الحقل الأدبيّ، أن نقتله حتى نظل على قيد الحياة.. قريبا منا، بعيدا عنّا.. حتّى لا نصنّمه فيغمط، بفعل المقارنة والانعكاس الشّرطي لدى القرّاء، أداء شعراء لاحقين وهنا تكمن المعادلة الصعبة.
ما يهمّنا هنا ليس القدرة التبليغية أو التأثيرية من عدمها، أو لزوم ما يلزم وما لا يلزم من إيقاعات مكبّلة أو مجمّلة في الأنماط الشعرية الثلاثة: العمودي منها، والحرّ، والمنثور، بل كمّية النسغ الشّعري في أي ضرب منها.
وليست القضيّة هنا أيضا قضيّة عجز مدوّنة الشعر التونسي من عدمها عن مجاراة ينبوع شعري كالشّابي.. للسبب التالي وهو أن لكلّ عصر إيقاعه المخصوص، والشاعر، أي شاعر، هو مرآة عاكسة لعصره: إحساسا ورؤية وإيقاعا.
* ما هي الأصوات الشعرية الحالية في تونس التي ترى أنها تمثل الشعر التونسي؟
- أسماء كثيرة تلتقي في الاختلاف، وأذكر منها على سبيل المثال، والقائمة تطول إذا عددنا كل الأصوات الشعرية، فلكل واحد منهم مذاقه الخاص.
* فقر أهل الثقافة والفن ومعاناتهم من ضنك العيش، كيف ينظر إليه رزوقة؟ وهل أن الضيق في العيش والمرض قد يكون من بين أهم المؤثرات على إبداعات المثقف؟
- فقر المثقّف أو الفنّان عموما ليس عيبا وهو عيب في آن، لا يعاب المثقف أو الفنّان في حال وجوده فقيرا على أن يشفع له إبداعه النوعي، واللاّفت حالة الفقر التي هو عليها فيصار إلى الانتصار له بتمكينه في مرتبة هو جدير بها باستحقاق. أو هو نفسه، ولأنه مبدع حقيقيّ، بإمكانه أن يفتكّ مكانة له تحت الشمس، وطنيّا أو حتى خارج البلاد. والأمثلة كثيرة في هذا السياق مع الذين نحتوا مصيرا وظيفيّا لهم انتصروا به على دابر الفقر.
أمّا العيب فهو أن يظلّ المثقف أو الفنّان مستسلما، يعيش على الهامش، ينظّر للفقر ولا يحرّك ساكنا، مستعذبا، بتعلة الاحتياج، نمط التحايل على الحياة والاعتياش على فتات الهبات، إن وجدت.. وهو وضع لا يرتضيه لنفسه أي مثقّف أو فنّان.
لكن، هذا لا يجعلنا نعذر آخرين وجدوا فقراء وظلّوا، رغم محاربتهم للفقر، فقراء أو ابتلوا بأمراض أقعدتهم عن الحركة. هؤلاء جديرون، إنسانيّا، بالاحترام وباللفتات الكريمة لتغطيتهم اجتماعيا وصحّيا حتى يشعروا بمعنى التكافل على الأقلّ.
* وما مدى تأثير هذا الوضع على المثقّف؟
- تأثير ذو حدّين.. إمّا أن يموت إبداعيّا وفي هذه الحال، تخسر السّاحة مثقّفا وإمّا أن يواصل نزفه الإبداعي عملا بما قاله جدّنا المتنبّي:
«لا تحسبوا رقصي بينكم طربا قد يرقص الطير مذبوحا من الألم»
ليدين بموقفه ذاك أهل الذكر دولة ومجتمعا.
* على حد تقديرك، ما أهمية قول الشعر اليوم؟
- في هذه الألفية الثالثة، يحق لنا الآن وهنا أن نسأل: لماذا نكتب؟
وهو سؤال حارق نريد له في واقعنا أجوبة ملموسة وإلا ضللنا الطريق وظللنا شعراء القطار المتخلف.
يحق لنا اليوم، وأكثر من أي عصر مضى، أن نكتب عصرنا على النحو الذي نريد، وباللغة التي تعبر عن اعتمالاتنا وهي شتى، وليكن ما نقصده مختلفا ومربكا، إفرازة من إفرازات هذا الزمن.
ولنتفق أولا: ماذا يمكن أن يفعل شاعر يعيش ملء وعيه وفي فضاء اتصالي معولم، غير أن يرصد ما يرى وما يراه بات أكبر وأوسع من لغتنا القديمة وأكثر إدهاشا في تمظهراته من كل إنجازات القرون الماضية. لكن، مع ذلك، بتنا نشعر، أحيانا، بلا جدوى الشعر، ذلك أنّ هجمة الوسائط المتعدّدة وهجرة الجمهور المستهدف إلى مواقع التواصل الاجتماعيّ: الـ«فيسبوك» ونحوه، أصابتا الشعر، فضلا عن سائر الفنون الأخرى، في مقتل. فانصرف القرّاء عن الوعاء الورقي وعن حضور الأمسيات الشعريّة وتميّعت القيم في غياب المواكبة النقدية لنرى القرّاء أنفسهم، روّاد الفضاءات الافتراضيّة، شعراء وقد استسهلوا الكتابة بأنواعها وتطاولوا على نخلة «أوّل الكلام». في وضع كهذا، لن يكبر، مستقبلا، شاعر ولن نرى بالتالي بيننا لا الشّابي، ولا درويش، ولا أي شاعر آخر حتى ولو كان «متنبّي» زمانه، وذلك بسبب طغيان المشهدية وانقلاب الموازين القيمية لفائدة الظواهر التعبيرية العابرة التي قد تدفع بالأقلام الحقيقية، النازفة بالانسحاب، إن عاجلا أو آجلا، من ساحة الإبداع.



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.