جابر عصفور... أحد كبار التنويريين العرب في عصرنا

انخرط في هموم عصره وجمع بين النقد الأدبي والسياسي

هاشم صالح
هاشم صالح
TT

جابر عصفور... أحد كبار التنويريين العرب في عصرنا

هاشم صالح
هاشم صالح

أعرف أن كلمات من نوع «تنوير، وتنويري، وتنويريين عرب» أصبحت تزعج كثيرين؛ بل وتضرب على «نافوخهم» إذا جاز التعبير. ولكن ليعلموا أننا لن نتخلى عنها من الآن وحتى خمسين سنة قادمة. وحتى لو تخلينا عنها فهي لن تتخلى عنا لسبب بسيط: هو أنها تلبي حاجة تاريخية كبرى. وبالتالي فهي مستقلة عنا وتتجاوزنا كلياً. المرحلة التاريخية التي نعيشها هي التي تفرضها علينا وليس نحن. هذه ليست نزوة عابرة أو موضة سطحية رائجة. العصر القادم هو عصر التنوير العربي لا محالة شئنا أم أبينا. فإما أن نخرج من سباتنا الدوغمائي الطويل ومن عقليتنا المتحجرة، وإما أن نظل منغلقين على أنفسنا داخل قوقعة عقائدية صغيرة تكفر ثلاثة أرباع البشرية!
بعد كل هذه الديباجة المتفجرة أو التفجيرية، اسمحوا لي أن أقول ما يلي: إن الرجل الذي عنا رحل بالأمس القريب، كان أحد الأقطاب الكبار للتنوير العربي؛ إن لم يكن قطبه الأول. كلنا تلامذته بشكل أو بآخر. كلنا خرجنا من معطفه. فضله على الثقافة العربية لم تُستوعب أبعاده حتى الآن.
لم يكن جابر عصفور ناقداً أدبياً كبيراً فقط، وإنما كان أيضاً مفكراً كبيراً منخرطاً في هموم عصره وقضاياه. لقد جمع بين النقد الأدبي من جهة، والنقد الفكري والسياسي من جهة أخرى. كنت أتتبع مقالاته على صفحات مجلة «العربي» الكويتية. كنت أنتظر صدور كل عدد بفارغ الصبر؛ لكي أطِّلع على أفكاره وذكرياته فقط، لكي أسمع صوته الدفيء الحميمي الأخوي من خلال الكلمات، أو فيما وراء الكلمات. فهو ككل كاتب كبير له صوت خاص ونكهة خاصة.
من المعلوم أن موضوع التنوير كان هاجسه الأول. قبل أن نسمع بالتنوير مجرد سماع كان جابر عصفور يرسم خطوطه العريضة، ويبلور محاوره وإشكالياته على مدار عدة كتب متلاحقة. لنعدد بعض عناوينها من أجل الاستئناس فقط: التنوير يواجه الإظلام، دفاعاً عن التنوير، هوامش على دفتر التنوير، أنوار العقل، آفاق العصر، ضد التعصب، مواجهة الإرهاب، للتنوير والدولة المدنية، تحرير العقل، نقد ثقافة التخلف، عن الثقافة والحرية، دفاعاً عن العقلانية... إلخ. ماذا تريدون أكثر من ذلك؟ هل هناك انخراط في المعركة الفكرية الوجودية للعرب أكبر من هذا الانخراط؟
لقد كان جابر عصفور «أمة وحده» كما قالوا عن فولتير في فرنسا يوماً ما. يضاف إلى ذلك أنه لعب دوراً كبيراً في نقل أمهات الكتب الفرنسية والإنجليزية إلى اللغة العربية. ولهذا السبب أسس «المركز القومي للترجمة» في القاهرة. ثم نظَر للمشروع في كتاب كامل بعنوان: «قاطرة التقدم: الترجمة ومجتمع المعرفة». من هذه الناحية يمكن تشبيهه بالفيلسوف الفرنسي الكبير ديدرو الذي نقل إلى الفرنسيين الجهلة أنوار الإنجليز ومعارفهم الغزيرة، من خلال الموسوعة الشهيرة «الإنسيكلوبيديا». كان ديدرو حريصاً على تنوير الفرنسيين وإخراجهم من ظلمات التعصب والجهل إلى أنوار العلم والفلسفة، مثلما حرص جابر عصفور على تنوير العرب والمسلمين، وليس فقط المصريين. ولهذا السبب نقل ديدرو إلى اللغة الفرنسية كل معارف ذلك العصر، التي هي إنجليزية في معظمها؛ لأن الإنجليز كانوا سباقين نهضوياً وتنويرياً ومتفوقين على الفرنسيين.
لم يُتح لي الحظ أن التقيه إلا مرة واحدة، على هامش أحد المؤتمرات الكبرى التي نظمها «المركز القومي للترجمة»، بإيعاز منه تحت عنوان: «الترجمة وتحديات العصر». وقد دعا لهذا المؤتمر عشرات المترجمين والمثقفين العرب؛ مغرباً ومشرقاً ومن أرض الشتات (أنا شخصياً أتيت من باريس وقتها). وقد نشرت هنا في «الشرق الأوسط» مقالة عن هذا المؤتمر الكبير المهم بعنوان: الترجمة وتنوير العرب (16 أبريل «نيسان» 2010).
كان «المركز القومي للترجمة» في القاهرة، خلية نحل طيلة عدة أيام متتالية. وكانت المداخلات والمناقشات على مستوى رفيع في غالب الأحيان. وكانت النقاشات الحرة خارج قاعات المؤتمر تكمل النقاشات المحتدمة داخلها. لقد عشنا آنذاك لحظات ثقافية كثيفة، ذكرتنا بالعصر الذهبي للعرب أيام المأمون وبيت الحكمة في بغداد. ولا تزال ذكراها عالقة في نفسي حتى الآن.
ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أن جابر عصفور كان يريد إحداث نهضة حقيقية في أرض العرب؛ انطلاقاً من القاهرة. وكان يعلم أن النهضة تقوم على الثقافة أولاً قبل السياسة. ذلك أن الفكر يسبق السياسة ويعلو عليها، وليس العكس. وكان يعلم أيضاً أن النهضات الكبرى تقوم على أكتاف الترجمات الكبرى. ولهذا السبب أسس «المركز القومي للترجمة». كلنا يعلم أن النهضة الأوروبية قامت على ترجمة النصوص العربية الكبرى، لابن سينا، وابن رشد، وابن باجة، والفارابي... إلخ. والنهضة اليابانية أيضاً قامت إبان القرن التاسع عشر على أكتاف الترجمات الكبرى للفكر الأوروبي، في عهد سلالة الميجي (أي الحكم المستنير!).
عدنا إلى التنوير مرة أخرى ولكن هذه المرة من بوابة اليابان واليابانيين. فهم لا يخجلون من كلمة «تنوير» ولا يستهزئون بها كما يفعل بعض المثقفين العرب أو أشباه المثقفين، ولا يأنفون من الأخذ عن الغرب بغية اللحاق به؛ بل وسبقه إذا أمكن. ليس عيباً أن تقلد الآخرين وتترجمهم وتستفيد منهم إذا كنت متخلفاً عنهم. العيب كل العيب هو أن تظل منغلقاً على نفسك جامداً متحجراً، تأبى الاستفادة بكل عنجهية فارغة.
لقد كان جابر عصفور استمرارية للجيل النهضوي الكبير الأول: جيل أحمد لطفي السيد، وجورجي زيدان، ومحمد حسنين هيكل، وطه حسين، وعباس محمود العقاد، وسلامة موسى، وغيرهم من أقطاب ذلك الرعيل الكبير. وهذا ما يعترف به هو شخصياً. ويمكن أن نضيف إليهم أسماء شبلي شميل، ويعقوب صروف، وفرح أنطون، وعشرات غيرهم. ولكن النهضة بحاجة إلى عدة أجيال، إلى عدة موجات متتالية، لكي تستطيع الانتصار على قوى العرقلة والنكوص التي تشد إلى الخلف باستمرار.
المسألة صعبة، معقدة، طويلة. المسألة ليست مزحة بسيطة. معركة التنوير في العالم العربي سوف تكون ضارية؛ بل وأكثر من ضارية. ونحن لا نزال في بداية البدايات. نحن لا نزال نصارع التنين حتى الآن. أقصد تنين الأصولية الظلامية الداعشية، الراسخة في العقلية الجماعية رسوخ الجبال.
وبالتالي فمهمة المثقف العربي هي إخراج مجتمعاتنا من هذه العقلية القروسطية الانغلاقية التي أكل عليها الدهر وشرب. ولكن المشكلة هي أن هذه العقلية على الرغم من تخلفها وانغلاقيتها واجتراريتها، لا تزال مهيمنة على الشارع العربي حتى الآن. وكل ذلك بسبب الجهل والأمية والفقر المدقع الذي يصيب شرائح واسعة من السكان. وأيضاً «خيانة المثقفين» وانبطاحهم أمام التيارات الأصولية الشعبوية.
في كتابه عن «التنوير والدولة المدنية» يدخل جابر عصفور في صميم الإشكالية التي تؤرق مجتمعاتنا العربية حالياً. نقصد إشكالية الصراع بين الدولة المدنية والدولة الدينية. ومعلوم أن حدة هذه الإشكالية ازدادت كثيراً وتفاقمت بعد وصول «الإخوان المسلمين» إلى سدة السلطة في مصر. ويرى المفكر الكبير الراحل أن هذه الجماعة كشفت عن وجهها الإقصائي النابذ للآخرين ما إن تسلمت السلطة. كما كشفت عن «أنياب التمكين المتوحشة» التي كادت أن تنهش الدولة والوطن والمواطنين. ومعلوم أن شعارهم هو: «تمسكنوا قبل أن تتمكنوا». ولهذا السبب يقول جابر عصفور ما معناه: نحن بحاجة ماسة إلى استعادة قيم التنوير الغائبة، والتأكيد على ضرورة وجود الدولة المدنية في حياتنا. نحن لسنا بحاجة إلى دولة لاهوتية ثيوقراطية متخلفة، تعيدنا قروناً إلى الوراء، وتثير الفتن الطائفية فيما بيننا، وتمزق نسيج المجتمع الواحد. باختصار شديد: نحن بحاجة إلى إسلام الأنوار؛ لا إلى إسلام الظلام والظلمات. ولكي نتوصل إلى ذلك، ينبغي تجديد برامج التعليم وتغييرها جذرياً.
ثم يهاجم تفكير «الإخوان» قائلاً: بحسب مفهومهم «أن تكون (إخوانياً) يعني أن تؤمن بالاستعلاء على بقية المسلمين؛ لأنك من (الفرقة الناجية)، ومن الإسلام الأنقى، والآخرون مجرد خزعبلات»! وهذا يؤدي مباشرة إلى التكفير والعنف والإقصاء.
هذا غيض من فيض عن هذا الرجل الذي حمل على كتفيه هم النهضة العربية كلها. وليس فقط النهضة المصرية. تحية إذن لجابر عصفور؛ أستاذاً كبيراً ومعلماً رائداً.الدكتور جابر عصفور



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».