صعوبة التنويع الاقتصادي في الدول النفطية والحاجة للقواعد المالية

يعتبر التنويع الاقتصادي من أهم الأهداف التي تسعى إليها الدول النفطية، لما يحققه من استقرار اقتصادي وتنمية مستدامة، ويخفف الاعتماد على النفط، ويقلل من ذبذبة النمو الاقتصادي. والتنويع الاقتصادي من أهم أهداف خطط التنمية السابقة منذ فترة السبعينات الميلادية، التي للأسف لم تتحقق، كما كان مؤملاً لها. وعلى الرغم من الجهود المبذولة والخطط المتتابعة والمبادرات على مستوى القطاعي، فإن هدف التنويع كان صعب المنال في الدول النفطية التي لم تتبنَّ سياسات اقتصادية كلية كافية لتحييد تقلبات العائدات النفطية على الاقتصاد المحلي. ولأهمية التنويع الاقتصادي، فإنه يعد من أهم أهداف «رؤية 2030» للمملكة لتحويل مصدر النمو الاقتصادي من الإنفاق الحكومي إلى الاستثمار الخاص ومعالجة الخلل الذي يعاني منه الاقتصاد المحلي.
فاقتصاديات الدول النفطية تعاني من عدم الاستقرار الاقتصادي، نتيجة لصدمات قطاع النفط للاقتصاد، ما يرفع درجة المخاطر، ويؤدي إلى خلل العلاقة بين القطاعات الإنتاجية القابلة للتصدير والقطاع غير القابل للتصدير مثل القطاع العقاري واختلال أسعار الصرف الحقيقية، على الرغم أن سعر الصرف الاسمي مثبت مع الدولار، كما هو الحال في المملكة. فالإنفاق الحكومي يتأثر بالعائدات النفطية ارتفاعاً وانخفاضاً، ما يشكل صدمات للاقتصاد تؤدي إلى عدم استقرار الاقتصاد الوطني، ويشكل مخاطر على الاستثمار الخاص طويل الأجل.
ففي مرحلة ارتفاع العائدات النفطية يرتفع الإنفاق أكبر من الطاقة الاستيعابية للاقتصاد، ما يرفع التضخم والأجور، كما ترتفع أسعار القطاع العقاري، ما يرفع التكاليف الاقتصادية على المنتجين في القطاعات الإنتاجية ويضعف القدرة التنافسية للاقتصاد المحلي ويقلل من جاذبية الاقتصاد للاستثمار في مشروعات تنموية طويلة الأجل، التي هي المصدر الأهم للتنمية المستدامة والتوظيف. كما أن قطاع المقاولات والخدمات يصبح أكثر جذباً للاستثمارات واستقطاب الكفاءات لارتباطه بالعقود الحكومية ذات العوائد الأعلى في الاقتصاد، التي من خلالها يستطيع المستثمرون أن يخفضوا المخاطر التي قد يواجهونها. فانخفاض المخاطر وارتفاع العائد مقارنة بالقطاعات الأخرى المنتجة التي تستهدف التصدير والطلب المحلي ساهم في توجيه القروض البنكية للقطاعات المرتبطة بالمشروعات الحكومية وقلل مساهمته للقطاعات الأخرى.
وبالمقابل، في فترة انخفاض أسعار النفط تلجأ الحكومات النفطية لإحدى سياستين، الأولى تقليل الإنفاق بقدر الإمكان، وأكثر ما تعاني القطاعات التنموية، مثل قطاعي الصحة والتعليم، اللذين يعدان ضروريين لتحقيق التنمية المستدامة. والثانية، التركيز على العائدات غير النفطية من خلال رفع الضرائب والرسوم للحفاظ على مستوى الإنفاق المرتفع للحكومة، الذي تضخم بسبب العائدات النفطية. وتؤدي حتماً هذه السياسة إلى رفع تكلفة الأعمال على القطاع الخاص، كما تضعف القدرة الشرائية لدخل الأفراد، وتخفض الأجر الحقيقي، ما تنخفض تبعاً له الإنتاجية، أو يضطر القطاع الخاص إلى رفع الأجور الاسمية للحفاظ على القوة الشرائية، وفي دولة مثل المملكة أكثر من 50 في المائة من العمالة غير سعوديين، فمن المتوقع طلب أجور أعلى لقبول العمل في المملكة، وهذا يرفع فاتورة الأجور، ويضعف تنافسية القطاع الخاص. وكنتيجة اقتصادية لزيادة العائدات غير النفطية، فإن الطلب الكلي سينخفض وتكاليف أداء الأعمال سترتفع، فيبدأ الاقتصاد في البحث عن نقطة توازن جديدة.
ولتحقيق الاستقرار وتفادي صدمات القطاع النفطي على الاقتصاد، يحتاج الاقتصاد لتحييد تقلبات القطاع النفطي على الاقتصاد من خلال سياسات اقتصادية كلية وبناء مؤسسي وحوكمة، تحد من تأثير صدمات القطاع النفطي على القطاعات الاقتصادية. ومن أهم هذه الأدوات، التي تم بسطها والكتابة عنها في الأدبيات الاقتصادية، وتقترحها المنظمات الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، القواعد المالية للسياسة المالية، ومن أهم ملامحها تحديد آلية تسعير النفط لأغراض الميزانية، معتمدة على متوسط أسعار النفط التاريخية والمستقبلية لعدد من السنوات، وتوجيه جزء من الفوائض المالية لصندوق توازنات للميزانية، بالإضافة إلى صندوق استثمار للأجيال خارجي (طويل الأجل) وصندوق تنمية محلي، إضافة إلى تحديد نسبة الإنفاق للدخل المحلي وتحديد سقوف للإيرادات، وكذلك للدين العام. بجانب ذلك، تحديد نسب الضريبة بشكل مستقر خلال الفترات المختلفة لتقلبات أسعار النفط، مع إمكانية تغييرها لأغراض السياسة المالية بشكل طفيف.
وتبنى الميزانيات متوسطة الأجل لمدة 3 سنوات على المستوى القطاعي، وفق خطط تنموية متوسطة الأجل، ما يساعد في معرفة توجهات الإنفاق الحكومي، ليس فقط لسنة واحدة، بل لـ3 سنوات. وستساهم الميزانيات متوسطة الأجل على المستوى القطاعي في قدرة القطاع الخاص على التخطيط الاستثماري بدرجة يقين أفضل ومخاطر أقل، وهو من أهم محفزات الاستثمار الخاص. ولكي تتحقق الفوائد المرجوة من القواعد المالية، يجب أن تتحلى بالوضوح والبناء المؤسسي، ما يرفع ثقة المستثمرين ويساهم في استقرار الاقتصاد.
وبالنظر للاقتصاد السعودي، نجد أنه على الرغم من المبادرات الحكومية المتعددة على المستوى القطاعي، التي أثمرت عن زيادة العائدات غير النفطية، ما ساهم في تنويع مصادر الدخل للميزانية، فإنه ما زال التنويع الاقتصادي للاقتصاد الوطني يحتاج إلى مزيد من الجهود، خاصة في جانب القواعد المالية المذكورة أعلاه.
ولعل من أهم المبادرات في الآونة الأخيرة التي يعول عليها، ما أعلنه وزير المالية خلال مؤتمر الاستقرار المالي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، الذي نظّمته هيئة السوق المالية، أن الحكومة ستتبنى قواعد مالية لإدارة السياسة المالية للدولة، والتعامل مع الفوائض المالية، التي قد يعلن عن تفاصيلها لاحقاً، والتي تشمل متغيرات كثيرة، قد تكون هي الخطوة المهمة التي تساهم في تحقيق التنويع الاقتصادي.

- كبير المستشارين الاقتصاديين
بوزارة الاقتصاد والتخطيط وعضو هيئة التدريس بالمعهد الدبلوماسي السعودي