يبدو الفيروس الذكي، الذي اجتاح العالم على مدى أكثر من عامين، وهو يتمعطف بغطاء سكري يسمى «جلاكين»، وحيث يُخرج من هذا الوشاح شوكات متحركة مهللة يمنة ويسرة، وهي تسبح في جزيئات السكر.
عندما تلقي نظرة عامة على كل الشوكات لا تستطيع التحقق من أنها شوكات محددة كما هو واقعٌ في كل الفيروسات، كأن الفيروس أعمى يهبش في كل اتجاه، باحثاً عن طريق لا يسترجي المساعدة، لأنه عندما يصل إلى مبتغاه سيصبح مثل الذئب متلبساً جلد الغنم. ولكن المختبرات العلمية تمحصت شأنه وراقبته بدقة في ملبسه لهذا الغطاء العجيب ودققت في نقاط قريبة جداً من هذا الغطاء، حيث تم التعرف على تركيبة الغشاء وفككت علمياً قواعد جيناته قاعدةً تلو الأخرى بحاسوب فائق العمل، وتجمهرت عدة مختبرات للمراقبة لتكتشف مستقبلات الفيروس والتعرف على أنامله الرئيسية المخبأة وراء الغشاء السكري.
عند الاقتراب من الخلايا البشرية يشمّر الفيروس عن سواعد مستقبلاته بشكل متسارع للقبض على مدخل الخلية. ولكي يدرس العلماء مَن يحرّك الشوكات قاموا بتحوير الجلاكين، حيث بدت الشوكات منبطحة collapsed، فلم يعد يلبق ليمسك بممر الخلية. ولو عرف النظام المناعي كيف يحسمها لما أُصيب الإنسان به، هذه اللحظة لم يكتشفها أحد من قبل، والنتيجة: كيف بنا أن نمسح حبتين من ذرات السكر لمنع العدو من الاقتحام وبذلك يصبح الإنسان غير مكترث مناعياً بالفيروس؟
للوصول إلى هذه الحقيقة استغرق الأمر 19 شهراً من البحث (وفيها أخذ مأخذه من الشعوب) ولكن الأمل باقٍ في ابتكار العلاج أو التطعيم الشافي، ويبقى السؤال الأكثر إلحاحاً: كيف صارت سلالة «دلتا» أكثر عنفاً وسرعة في العدوى، هل لديها أدوات أكثر دقة؟
بالنظر إلى دورة حياة الفيروس قبل وعند دخوله الخلية وبعد أن يحرر شريط جيناته ويستخدم إمكانيات الخلية ليصنع نفسه ثم يلملم قطاعاته، ثم تكاثر الفيروس الواحد بعد أن يبعثر صغار الفيروسات ويوزعها في الداخل والخارج ليعيثوا فساداً... إذا دُرست أجيال هذه الفيروسات، كيف تتحور وتتمحور شوكاتها، لأمكن ملاحظة كيف تتباعد حسب السلالة، على نحو أشكال وألوان. وتبدو الصورة كأنما ثمة مخلوقات غريبة، يظهر فيها الفيروس رابطاً نفسه بحبال في الخلايا خوفاً من أن يفقد نفسه قبل أن يغرز إبرته في جسم الخلية ليفرز جينومه... إنها لحظات مرعبة وأنت تراقب بالتصوير الإلكتروني كيف يحدث ذلك بسرعة والباحث يراقب هذا بحرفية فائقة.
يمكن الوثوق بقدرة العلم على التصدي للفيروس، حيث العلم يعرف أنه إذا تعذر على الفيروس الدخول من ACE2 فإنه يهرع مسرعاً إلى المستقبلات receptor TMPRSS2 ليؤمّن دخوله.
وقد أعتقد الأطباء في البداية أن علاج الكلوروكين ينفع في علاج «كورونا» لأن هذا يعطب الإندوزومات التي يفبرك عليها جيناته (ER endosomal disruption). وقد تعلّم الفيروس من هذه الخدعة وصار لا يستخدمها (فحتى الفيروسات تتعلم وليست البكتيريا فقط التي تنتفض لنفسها من المضادات الحيوية)، حيث تتقافز جحافل الفيروسات على كل ابتكار من العلاجات، فقد تعدى الفيروس هذه الحقبة، فهو يضيّق المساحة في الإندوبلازما (مصانع إنتاج البروتين). فالخلية التي تريد أن تصنع بروتيناتها كالعادة في هذه الجسيمات يبادرها الفيروس بالتخريب، فهو يستخدم بروتين NSP1 ذكياً ومخادعاً يمسح بروتينات الخلية من أماكنها قبل أن تنضج ويكمل هو بنيته التحتية، وبذلك يتطاول على 70% من صناعة البروتينات على الإندوزومات لهذا السبب؛ وهذا هو السرّ في وصولنا إلى الجائحة العالمية حتى إنه يمنع مراسل الخلية (الماسنجر mRNA) من أداء واجبه، ويمنعه حتى من الخروج من نواة الخلية، وتحييد دوره في رصد الفيروس وإخطار جهاز المناعة بوجوده.
يسيطر الضيف الثقيل على الخلية، حيث قنوات الخروج من الخلية تحت سيطرته jamp up exit channel لكي لا يهرب أحد المخبرين عنه (إنها قصة عجيبة من هذا الفيروس يتضح فيها ذكاؤه ودهاؤه).
بالإمكان تجهيز قطاع المناعة مبكراً، وحتى عند بداية العدوى، مع الأخذ في الاعتبار الصعوبة في السيطرة على هذا الفيروس الشاذ، وحتى جهاز المناعة يجاهد بكل قواه مستنفراً بروتيناته في أعلى مستوى لها، مع التفوق في قوة «كورونا» الذي يقاوم جهاز المناعة بخبث، ونسميها overactive immune response (حتى إنه يوظّف بروتينات المصابين ضدهم)، هذه الظاهرة نشاهدها أيضاً عند العدوى بفيروسات الهيربس والإيدز.
وما إن اكتملت سلطة الفيروس على الخلية حتى يبدأ بصيانة وتبديل ملامح ووظائف الخلية، أي الخلايا المتعاونة والمنصهرة لديه، ويُحكم الفيروس سلطته على الخلايا، وليثبت ذلك للعلن ينبت شوكات فيروسية على سطح الخلايا المستعمرة. حتى الخلايا العضلية يمكن أن تُستعمر، وأصبح الجميع يرفع علم الفيروس على هيئة شوكات: ACE2 وصار لديه مصنع كامل للفيروسات، حتى إنه بإمكانه إجبار الخلايا المناعية من فئة الليمفاوية كي تنضوي تحت رايته وتُنتج فيروسات بدل البروتينات المناعية، ثم يبدأ بفرض إنتاج البروتينات الخليوية، مثلاً: TMEM41B، التي يستخدمها في توسيع رقعة الإندوبلازما الصانعة للبروتين... وهكذا تبدأ رحلة المعاناة للمصابين.
ما زال الباحثون في جميع العالم يدرسون كل أدوات الفيروس ومراحله بهدف الوصول إلى علاج، ولكن لكل كائن أجل محتوم، رغم أن هذا الفيروس يضيف تحورات في طبيعتها حتى وصلنا إلى سلالة من «ألفا وبيتا وغاما ودلتا وكابا وأوميكرون» وهذا -ربما- سيكون آخر العنقود، فالفرضية العلمية تقول: إنه لم يعد لديه قوة بيولوجية في صنع المرض ولكنه يقوم بواجبه الفيروسي. ونأمل فقط ألا ينقلب إلى فيروس مسرطن لأنه يتحور ويحوِّر ما بيده، وهذا مهم جداً، ونأمل بمغادرته عاجلاً أم آجلاً.
* بروفسور في مستشفى «تداوي» العام بالدمام