الخارجية السعودية... من فكر المؤسس إلى حنكة الأبناء

الوزارة الأولى في عامها 91 ما زال التساؤل عن الوزير الذي لم يحمل اللقب

الخارجية السعودية... من فكر المؤسس إلى حنكة الأبناء
TT

الخارجية السعودية... من فكر المؤسس إلى حنكة الأبناء

الخارجية السعودية... من فكر المؤسس إلى حنكة الأبناء

تمر هذه الأيام حاملة معها ذكرى تأسيس أول وزارة سعودية؛ هي وزارة الخارجية والتي صدر أمر ملكي بتاريخ 16 ديسمبر (كانون الأول) 1930م بتحويل مديرية الشؤون الخارجية إلى وزارة الخارجية وتعيين (الأمير) فيصل بن عبد العزيز وزيراً لها، ونشر هذا في صحيفة أم القرى يوم 19 ديسمبر 1930م.
ورغم أن هنالك لبساً حول أول وزارة تأسست في عهد الدولة السعودية، فإن المصادر تؤكد أن وزارة الخارجية هي أول وزارة تم تأسيسها في السعودية وتولاها (الملك) الأمير فيصل بن عبد العزيز خلافاً لما يتداول من أن وزارة المالية هي أول الوزارات وأن الشيخ عبد الله السليمان هو أول وزير.
وقد أرجع سبب ذلك الراحل الدكتور عبد الرحمن الشبيلي إلى أنه عائد لنقص واضح في تدوين نشأة بعض الكيانات الأهلية والحكومية في السعودية على الرغم أنها عملية ميسورة وغير مكلفة.
وبمناسبة مرور 91 عاماً على تأسيس أول وزارة في السعودية تنشر «الشرق الأوسط» توثيقاً تاريخياً لميلاد ونشأة الخارجية السعودية وتشكيلاتها والتطورات التي مرت بها، إضافة إلى توثيق لسير بعض كبار مسؤولي الوزارة ورواد العمل الدبلوماسي السعودي.

بندر بن عبد الرحمن بن معمر*

@ «نجدية» العنوان البرقي للسفارات السعودية في الخارج

منذ ما قبل تأسيس الدولة ارتبطت نشأة السياسة الخارجية (السعودية) بالملك عبد العزيز شخصياً، حيث كان يشرف بنفسه على جميع مهام الشؤون الخارجية بما في ذلك المراسلات والاتصالات مع الدول التي لها علاقة بالأقاليم التي يضمها إلى حكمه ولقاء مبعوثيها، والتفاوض حول كل شؤون علاقاته بتلك الدول. وقبل وجود الهياكل السياسية الرسمية، اتخذ الملك المؤسس من التجار (النجديين) المقيمين في الخارج، كآل فضل ثم الفوزان في الهند، والقصيبي في البحرين، والسابق في الشام ثم مصر، والنفيسي في الكويت، والمنديل في البصرة وبغداد، وغيرهم كوكلاء له في الدول الخارجية، وكانت تلك الوكالات تسمى (الوكالة العربية أو النجدية) وذلك قبل ضم الحجاز، وأظن أن العنوان البرقي للسفارات السعودية في الخارج (نجدية) استمد الاسم من تلك الوكالات.
* بداية وزارة الخارجية السعودية بغرفتين في مكة
في يوم 15 يناير (كانون الثاني) 1927م باشر فؤاد حمزة عمله وكيلاً لمديرية الشؤون الخارجية، سبق ذلك بأشهر وتحديداً في سبتمبر (أيلول) 1925م (وليس 1926م كما ورد في كثير من المصادر) تأسيس المديرية وتعيين الدكتور عبد الله الدملوجي مديراً لها. يصف فؤاد حمزة في مذكراته: «وجدت الخارجية حينما جئت إليها مكونة من غرفتين، في إحداهما يجلس المدير وعنده عدد من الكراسي، وغرفة الكتابة وفيها خزانة تضم أوراق الدائرة موضوعة في 7 أضابير فقط...». كانت تلك الغرفتان في مبنى الحكومة المعروف بـ«الحميدية» في حي أجياد بمكة المكرمة، المقر الأول للخارجية السعودية.
هنا تكمن أهمية المذكرات والوثائق الخاصة التي يدونها رجالات الدولة وشهود الأحداث في إلقاء الضوء على تفاصيل دقيقة من التاريخ السياسي والإداري للمملكة العربية السعودية، والذي ما زال في حاجة إلى كثير من البحث والتنقيب والتوثيق لجوانب مهمة منه. وسيتناول هذا البحث جوانب من تاريخ نشأة وزارة الخارجية السعودية وتشكيلاتها عند تأسيسها كما سيُعرّف بأبرز رجالات السياسة السعودية الذين عاصروا إنشاء الوزارة، كما سيتم التطرق إلى المرحلة التي سبقت ذلك، إضافة إلى لمحات عن المراحل التي مرت بها وزارة الخارجية، وإضاءات عن بعض شخصياتها ودبلوماسييها في محاولة لتوثيق سير من لم توثق سيرهم بشكل دقيق، خاصة خلال مرحلة تولي كل من الملك فيصل وإبراهيم السويل منصب وزير الخارجية (1930 إلى 1975م).
* من كان الوزير الثالث للخارجية السعودية بعد وفاة الملك فيصل؟

كما سيتم طرح تساؤلات عن الفترة التي تلت وفاة عمر السقاف وزير الدولة للشؤون الخارجية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1974م ثم وفاة الملك فيصل في مارس (آذار) 1975م، وتعيين الأمير سعود الفيصل وزير دولة للشؤون الخارجية لمدة ستة أشهر، وما إذا كان هو فعلاً الوزير الثالث للخارجية السعودية أم أن هناك شخصاً آخر حمل الحقيبة قبله؟
مع التأكيد على ضرورة القيام بعمل توثيقي مؤسسي لتوثيق تاريخ الوزارة وسير أعلام الخارجية السعودية، حيث إن كثيراً مما هو منشور عن بعضهم يعتريه النقص ويفتقد إلى الدقة، كما أنني حاولت البحث عن أي دراسة تاريخية وثائقية شاملة عن وزارة الخارجية ونشأتها وتشكيلاتها، فلم أعثر على أي بحث يتناول هذا الموضوع بشكل وافٍ، رغم وجود معهد الأمير سعود الفيصل للدراسات الدبلوماسية وكثرة أقسام وكليات التاريخ والعلوم السياسية في جامعاتنا وأكثر منها الأكاديميين الذين انتقلوا للعمل في وزارة الخارجية! مع عدم إغفال الجهد المؤسسي الذي قامت به مكتبة الملك عبد العزيز العامة في إصدار «موسوعة تاريخ الملك عبد العزيز الدبلوماسي» عام 1999م، وكذلك «معجم السفراء السعوديين»، الذي أصدرته وزارة الخارجية عام 2002م ثم صدرت طبعته الثانية عام 2016م. وطوال مدة العمل على هذا البحث كان هناك تساؤل: أما آن لهذه القطيعة مع التاريخ أن تتبدل؟ ليس على مستوى المؤسسات فحسب؛ بل حتى على مستوى الأفراد؟ فكثير من أبناء وأحفاد رجالات الدولة السابقين لا تتوفر لديهم معلومات وافية عن حياة آبائهم الإدارية والسياسية، وهذا يرجع في تقديري إلى غياب ثقافة التدوين والتوثيق الشخصية، ثم الحساسية تجاه الاحتفاظ بأي نسخ من الوثائق والمراسلات التي تخصهم.
* الشعب السياسية والشفرة والبرقيات نواة المطبخ السياسي في السعودية

إن المتتبع لتاريخ نشأة أجهزة ومؤسسات الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز ليعجب من طريقة توظيفه لأدوات التنمية السياسية والإدارية وقدرته على استقطاب الخبرات والكفاءات المؤهلة وإشراكهم في تشكيلات الحكومة القائمة وقتذاك والتي كان بعضها من ابتكاراته وتفرداته، كمجلس المستشارين الذي مثّل مع الشعبة السياسية وشعبة الشفرة والبرقيات في الديوان الملكي، المطبخ السياسي للدولة وفقاً لوصف الدكتور عبد الرحمن الشبيلي. ورغم أن تاريخ نشوء وتطور البلاط الملكي السعودي بكافة دواوينه ومجالسه وشعبه، يحتاج كذلك إلى مزيد من البحث والتوثيق، فإنه يمكن القول إنه بعد ضم الأحساء في جمادى الأولى 1331هـ الموافق مايو (أيار) 1913م، تطورت الاتصالات والعلاقات بالدول الأجنبية المؤثرة آنئذٍ كالدولة العثمانية وبريطانيا العظمى، فتطورت تشكيلات وأساليب العمل الحكومي بما يتناسب مع الواقع الجديد.
يصف الدكتور الشبيلي الشعبة السياسية بأنها كانت وزارة خارجية متنقلة مع الملك تتعامل مع الوثائق والمراسلات والاتفاقيات، كما تقدم الإسناد الإداري والفني والفهرسة لمجلس المستشارين.

أوائل مستشاري الملك عبد العزيز في الشؤون السياسية

1 - الأمير أحمد بن عبد الله الثنيان

(الذي أشرف على انسحاب الأتراك من الأحساء)
ولد ودرس في تركيا، وكان له باع في الشؤون الخارجية، ويتحدث اللغات التركية والفرنسية والإنجليزية. يعتبر أول مستشار سياسي يلتحق بخدمة الملك عبد العزيز نحو عام 1911م، وشارك في بعض الحملات العسكرية، وكلف بمهام وبعثات سياسية، وتشير بعض المصادر إلى أن مهماته السياسية بدأت قبل ضم الأحساء، وأشرف على انسحاب الحامية التركية منها، ثم مثّل إمارة نجد في أول مفاوضات رسمية مع الحكومة البريطانية التي أسفرت عن توقيع اتفاقية دارين عام 1915م، كما رافق (الملك) الأمير فيصل في أول رحلة خارجية إلى أوروبا عام 1919م، وكانت آخر مهماته السياسية مشاركته في مؤتمر المحمرة عام 1922م، وتوفي في الرياض عام 1923م.
2 - الدكتور عبد الله بن سعيد الدملوجي

(أول مستشار عربي يلتحق بخدمة الملك عبد العزيز)
درس في المدرسة الإعدادية العسكرية في بغداد، وتخرج طبيباً في كلية حيدر باشا في تركيا، وعمل في الجيش العثماني في أوروبا ثم عاد للعراق، يجيد اللغات التركية والفرنسية. التحق بخدمة الملك المؤسس طبيباً خاصاً نحو عام 1914م ثم أصبح مستشاراً، ويعتبر أول مستشار عربي (غير سعودي) يلتحق بخدمة الملك عبد العزيز. مثّل سلطنة نجد في مؤتمر العقير عام 1922م، ووقع على الاتفاقيات الحدودية بين نجد وكل من العراق والكويت. عين رسمياً أول مدير للخارجية السعودية عام 1925م، واشترك في مفاوضات جدة مع الحكومة البريطانية. عاد إلى العراق في عام 1928م وتولى عدداً من المناصب وأصبح بعد ذلك وزيراً للخارجية العراقية.

3 - الشيخ إبراهيم بن محمد بن معمر

(رفض تنكيس العلم السعودي في مناسبات الحداد وتم اعتماده حتى اليوم)
درس في الكويت والهند، يتحدث اللغات الإنجليزية والأوردية والفارسية. التحق بخدمة الملك عبد العزيز نحو عام 1912م، ويعتبر مع ابن ثنيان والدملوجي من أوائل المستشارين السياسيين، وورد في بعض المصادر أنه كان مكلفاً بملف الاستخبارات الخارجية! إضافة إلى انتدابه في مهمات خاصة وبعثات خارجية إلى أوروبا وعدد من البلاد العربية. كان له جهد إعلامي وشارك في الرد على الحملات التي كانت تثار ضد الملك عبد العزيز، وفي عام 1926م عين رئيساً للديوان الملكي، ثم وزيراً مفوضاً في العراق عام 1933م، وهو صاحب مبدأ عدم تنكيس العلم السعودي في مناسبات الحداد، وهو تقليد تم اعتماده رسمياً بعد ذلك، ثم عين قائماً لمقام (محافظ) جدة في عام 1937م واستمر حتى وفاته عام 1958م، وقد كلف خلال تلك المدة بعمل وكيل وزارة الخارجية.

4 - الشيخ حافظ وهبة

(خريج الأزهر وأول وزير سعودي مفوض في لندن)
درس في الأزهر وفي مدرسة القضاء الشرعي بمصر، وتنقل بين الأستانة والهند والبحرين والكويت؛ حيث عمل مدرساً في المدرسة المباركية. التحق بخدمة الملك عبد العزيز نحو عام 1923م، وشارك ضمن الوفد النجدي في مؤتمر الكويت عام 1924م، وكلف بمهام إدارية وتنظيمية بعد ضم الحجاز، كما انتدب في مهمات خارجية، وشارك في مفاوضات بحرة وحدة عام 1925م ومفاوضات جدة عام 1927م مع الحكومة البريطانية، ثم عين مديراً للمعارف، وفي عام 1930م عين وزيراً مفوضاً في لندن، وشارك في عام 1945م ضمن الوفد السعودي برئاسة (الأمير) فيصل للتوقيع على ميثاق تأسيس هيئة الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو، وفي عام 1948م أصبح سفير جلالة الملك في لندن.

5 - السيد حمزة بن إبراهيم غوث

(بسبب اسمه ومكان ولادته اختاره الملك عبد العزيز سفيراً له في إيران)
تلقى تعليمه في المدرسة الرشدية ثم الناصرية بالمدينة المنورة وفي حلقات المسجد النبوي كما تعلم اللغة التركية. تولى رئاسة بلدية المدينة المنورة أثناء الحكم العثماني كما عمل مستشاراً ومبعوثاً سياسياً لأمير حائل آنذاك عبد الله المتعب الرشيد. التحق بخدمة الملك عبد العزيز عام 1922م وأصبح مستشاراً للشؤون السياسية. كلف بمهمات سياسية خارجية ورأس الوفد النجدي إلى مؤتمر الكويت عام 1924م، كما كلف معاوناً لأمير المدينة المنورة، وفي عام 1930م عين عضواً في مجلس الشورى، وفي عام 1938م عين قنصلاً عاماً ووزيراً مفوضاً في العراق ثم سفيراً لدى إيران عام 1947م. ولتعيينه قصة يجدر ذكرها تبين بعد نظر الملك المؤسس، وإدراكه لواقع الدول وتوجهات الرأي العام، ودقيق فهمه للسياسة الخارجية، وهي أن الملك عندما قرر تعيينه سفيراً في إيران قال له: «أنا عندما اخترتك سفيراً لدى إيران لأسباب لا تخفى عليك، منها أنك سيد! واسمك حمزة! ومن المدينة المنورة! والإيرانيون يهتمون بذلك! ولهذه الأسباب مجتمعة وقع اختياري عليك...».

* بعد ضم الحجاز انطلقت المرحلة الثانية للخارجية السعودية

قد تكون هذه اللمحات التاريخية مهمة لفهم تطور التنظيمات الحكومية السعودية والتي مرت بمراحل مختلفة تبعاً لظروف تطور الدولة، مع الإشارة إلى أن كثيراً من التفاصيل المتعلقة بنشوء وتطور أجهزة ومؤسسات الدولة المختلفة تستحق التدوين الدقيق والتوثيق العلمي لمراحلها المختلفة، ليس لأهميتها التاريخية فحسب؛ بل لأبعادها الإدارية والسياسية كذلك. حيث إن تاريخ التأسيس سلسلة متصلة من دروس الحكم والإدارة والسياسة والدبلوماسية والحكمة وبعد النظر والتجارب، التي يبنى عليها ويستفاد منها.
فبعد اكتمال ضم الحجاز (1925م)، شرع الملك عبد العزيز في تنفيذ المرحلة الثانية من مشروعه الوحدوي والنهضوي ببدء البناء التنظيمي لمؤسسات الدولة وتشكيل الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وأنشئ في العام ذاته عدد من الإدارات والمديريات كالمعارف والصحة والمالية، كما أنشئت مديرية الشؤون الخارجية لتتولى متابعة سياسة الدولة الخارجية وتنظيم العلاقات الدبلوماسية والتنسيق مع البعثات الأجنبية الموجودة في جدة، وشُكلت من أربع شعب: «الشعبة السياسية، والشعبة الإدارية، والشعبة الحقوقية، والشعبة القنصلية»، ونُص على ارتباطها بالملك مباشرة: «تكون مديرية الشؤون الخارجية مرتبطة بالمقام الملوكي العالي رأساً، ولكنها تتلقى أوامر النيابة العامة فيما يختص بالشعبتين الإدارية والقنصلية».

* مديرية الشؤون الخارجية وارتباطها بالملك
تولى الدكتور عبد الله الدملوجي إدارتها منذ تأسيسها في سبتمبر 1925م وحتى استقالته في الموافق يونيو (حزيران) 1928م، وتعاقب على إدارتها أصالة ووكالة كل من:
الشيخ يوسف بن محمد ياسين

درس في اللاذقية ثم التحق بالأزهر ومدرسة الدعوة والإرشاد في مصر، لكنه لم يكمل دراسته بسبب ظروف الحرب، وبعد ذلك درس في مدرسة صلاح الدين في القدس ثم في معهد الحقوق في دمشق. اشتغل بالتعليم والصحافة وناهض الاستعمار، وعمل سكرتيراً لرئيس حكومة شرق الأردن. التحق بخدمة الملك عبد العزيز عام 1924م، ورافقه في رحلته إلى الحجاز ودون يومياتها. تولى تأسيس وإدارة جريدة أم القرى التي صدر أول أعدادها في 12 ديسمبر 1924م كأول وسيلة إعلام سعودية، وفي عام 1928م عين مديراً لدائرة المطبوعات والمخابرات (الإعلام) وأصبح من مستشاري الملك المقربين، ثم عمل سكرتيراً خاصاً لجلالة الملك وكلف في فترات متعددة بعمل مدير الشؤون الخارجية ثم وكيل وزارة الخارجية وعين نائباً للوزير، وتولى في عام 1930م رئاسة الشعبة السياسية في الديوان الملكي، وفي عام 1932م أصبح عضواً في مجلس الوكلاء.
كلف بعدد من المهام السياسية، وكان ضمن الوفد المرافق للملك عبد العزيز عند لقائه بالرئيس روزفلت عام 1945م.
وذكر وليم إيدي الوزير الأميركي المفوض في جدة والمترجم الوحيد الذي حضر الاجتماع المغلق بين الزعيمين، أنه راجع مسودة محضر الاجتماع مع يوسف ياسين قبل توقيعها من الملك والرئيس، وصدر في أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه أمر ملكي باعتباره وزير دولة قائماً بالأعمال التالية:
1 - مستشاراً في مجلس الملك الخاص.
2 - عضواً طبيعياً في مجلس الوكلاء.
3 - رئيساً للشعبة السياسية في الديوان الملكي.
4 - سكرتيراً خاصاً لجلالة الملك.
5 - نائباً لوزير الخارجية.
وبذلك يمكن القول إن يوسف ياسين أول من حمل لقب نائب وزير الخارجية رسمياً، كما حمل لقب وزير الخارجية بالنيابة. استمر في القيام بالمهام التي أوكلت له في عهد الملك سعود وحتى وفاته عام 1962م.

الشيخ عبد العزيز بن محمد العتيقي

درس في المجمعة على يد مشايخها ثم انتقل للزبير وتابع تعليمه ثم أتم دراسته في دار الدعوة والإرشاد بالقاهرة. تنقل بين البحرين والهند وشرق آسيا وعمل بالتعليم والدعوة وكان له نشاط سياسي وإعلامي. التحق بخدمة الملك عبد العزيز عام 1925م وشارك في لجنة تسلم جدة، ثم عين مستشاراً لنائب الملك في الحجاز وعضواً في مجلس الشورى، كما عين نائباً لمدير دائرة المطبوعات والمخابرات (الإعلام)، وتولى مديرية الشؤون الخارجية بالنيابة عام 1926م.
الأستاذ فؤاد بن أمين حمزة

تلقى تعليمه في لبنان ونال شهادة دار المعلمين ثم التحق بالجامعة الأميركية في بيروت. عمل بالتدريس ثم نال إجازة في الحقوق، ويجيد اللغتين الإنجليزية والفرنسية. التحق بخدمة الملك عبد العزيز عام 1926م، وتولى عدداً من المناصب منها: معاون مدير الشؤون الخارجية، عضو لجنة التفتيش والإصلاح ولجنة سن النظامات والأنظمة واللجنة التنفيذية لمعاونة النائب العام. كما عمل مستشاراً في الشعبة السياسية في الديوان الملكي. أول وكيل لوزارة الخارجية بعد إنشائها، وعضو مجلس الوكلاء. تم تعيينه وزيراً مفوضاً فوق العادة (سفير) لدى فرنسا ثم لدى تركيا، ثم عين وزير دولة منتدباً للأعمال الإنشائية والعمرانية. شارك في رئاسة وعضوية عدد من الوفود واللجان وكلف بعدد من المهام التي استمر في تأديتها حتى وفاته أواخر عام 1951م. يعتبر من الآباء المؤسسين للخارجية السعودية، كما خدم التاريخ السياسي السعودي من خلال مؤلفاته ومذكراته ووثائقه الخاصة.

(الملك) الأمير فيصل أول وزير للخارجية السعودية

استمرت المديرية في القيام بأعمال الشؤون الخارجية لمدة تزيد على الخمسة أعوام، وفي 16 ديسمبر 1930م صدر أمر ملكي بإنشاء وزارة الخارجية السعودية، إذ نشرت جريدة أم القرى في عددها رقم (315) الصادر يوم الجمعة 19 ديسمبر 1930م، بلاغاً عن تشكيل وزارة الخارجية فيما يلي نصه:
«صدر الأمر الملكي السامي بتحويل اسم مديرية الشؤون الخارجية إلى وزارة الخارجية وإسناد منصب الوزارة المذكورة إلى صاحب السمو الملكي الأمير فيصل نائب جلالة الملك المعظم علاوة على النيابة العامة، وبتعيين فؤاد حمزة وكيلاً لوزارة الخارجية اعتباراً من يوم الثلاثاء 16 ديسمبر 1930م.
وقد نص الأمر الملكي على تعليمات وتفصيلات تتعلق بآليات العمل في الوزارة مما يمكن منها فهم ملامح من مدرسة الملك المؤسس في الحكم والإدارة ومنهجيته في العمل والتفويض، وتحديد الصلاحيات والمرجعيات والمسؤوليات:
«نحن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل
بناء على ما رأيناه في المصلحة العامة، أمرنا بما هو آتٍ:
المادة الأولى: يعين نائبنا ونجلنا الابن فيصل وزيراً للخارجية علاوة على النيابة العامة.
المادة الثانية: يعين فؤاد حمزة وكيلاً للخارجية.
المادة الثالثة: يظل سير الأعمال في وزارة الخارجية كما كان عليه العمل في السابق، بمعنى أنه ما كان يعرض علينا لاستصدار أمرنا فيه من الشؤون الخارجية يعرض علينا، وما كان في اختصاص الخارجية تجري المعاملة فيه بغير مراجعتنا كالسابق.
المادة الرابعة: يعين وزير الخارجية وقتاً معيناً للنظر في أمور وزارة الخارجية من كل يوم.
المادة الخامسة: الأمور المتعلقة بالخارجية ويحتاج الأمر فيها للسؤال من النيابة العامة فما كان يراد منها السؤال عن طريق النيابة العامة يحال من قبل الخارجية إلى النيابة العامة، وما كان منها محتاجاً لأخذ رأي النائب العام، فيصدر النائب العام أمره فيها بصفته وزيراً للخارجية من دون تحويل ذلك إلى ديوان النيابة.
المادة السادسة: المخاطبات الرسمية في الخارجية ترد باسم وزير الخارجية، وتصدر من الخارجية باسمه.
المادة السابعة: جميع الأختام وعناوين الأوراق التي كانت باسم مديرية الشؤون الخارجية تعتبر ملغاة اعتباراً من هذا التاريخ، والأختام والكليشهات القديمة تجمع وتوضع في صندوق مختوم وتودع في خزائننا الخاصة.
المادة الثامنة: تبلغ جميع الإدارات التي تتخابر مع الخارجية بأن ترتيب المخابرات التي توجه إليها سواء كانت برقية أو كتابية يكون على ثلاثة أنواع:
1 - المكاتبات الشخصية.
2 - المكاتبات السرية.
3 - المكاتبات العادية.
فإن كان المقصود إيصال المكاتبة إلى الوزير رأساً قبل أن تصل إلى الوزارة يمكن أن يوضع على الظرف أو البرقية كلمتا (سري أو شخصي) وعندئذ لا يطلع عليها أحد قبل الوزير نفسه.
المادة التاسعة: على نائبنا العام إنفاذ أمرنا هذا.
صدر بقصرنا في مكة في اليوم السادس والعشرين من رجب سنة ألف وثلاثمائة وتسعة وأربعين.
الختم الملكي

من هذا الأمر يتضح أن وزارة الخارجية هي أول وزارة تستحدث بصفة رسمية وحتى قبل إعلان توحيد البلاد وتسميتها المملكة العربية السعودية، وأن (الملك) فيصل هو أول من حمل لقب وزير في الحكومة السعودية، خلافاً لما يتداول من أن وزارة المالية هي أقدم الوزارات وأن عبد الله السليمان هو أول وزير، حيث لم تتحول وكالة المالية إلى وزارة المالية إلا في 13 أغسطس (آب) 1932م.
منذ ذلك التاريخ بدأت وزارة الخارجية رحلتها في تنفيذ السياسات الخارجية وتوطيد العلاقات مع الدول وإنشاء البعثات الدبلوماسية، كما قامت بخدمة القضايا العربية والإسلامية في المحافل الدولية، وأسهمت في دعم استقلال الدول الخليجية والعربية والإسلامية، ونصرة الشعوب وتقديم المساعدات الإغاثية للإنسانية جمعاء، إضافة إلى دعم الأمن والسلم والاستقرار العالمي. كما صُبغت ولعقود بشخصية وزيرها الأول (الملك) الأمير فيصل وسمته ومدرسته الدبلوماسية. كما استقطبت وخرجت كفايات وخبرات متنوعة ممن تدرجوا في السلك الدبلوماسي أو التحقوا به من قطاعات أخرى.
@ من حارة اليمن في جدة بدأت تشكيلات وزارة الخارجية

كان مقر الخارجية الرئيس في دار الحكومة بمكة المكرمة، ولها مكتب في جدة يقع في حارة اليمن وعنوانها البرقي (الخارجية).
أما تشكيلات الوزارة عند إنشائها فكانت: المكتب الخاص، والشعبة الشرقية، والشعبة الإدارية، والشعبة السياسية، والشعبة القنصلية. أما أوائل موظفيها فلم يتجاوز عددهم (15) شخصاً وهم، المعاون الأول: جميل داود المسلمي، والمعاون بمكتب جدة: علي طه، والمعاون الثاني: أسعد الفقيه، ورئيس المكتب الخاص: توفيق حمزة، والسكرتير الخاص: محمد شيخو، ورئيس الكتاب: جمال سنبل، والموظفون: يحيى أبو الخير وعبد السلام فارسي وعلي عوض ومحمد مظهر وعبد الله جلاجل ونديم الكتبي، والمحاسب: محمد جمال داغستاني.
وعن نشأة المفوضيات السعودية (السفارات) رسمياً في الخارج فكانت أولها مفوضية لندن والوزير المفوض حافظ وهبة الذي عين في 21 يوليو (تموز) 1930م، وذلك خلافاً لما هو متداول بأن مفوضية القاهرة هي الأولى، حيث كانت العلاقات السعودية مقطوعة مع مصر خلال ذلك التاريخ (1928 إلى 1936م). ولعل سبب هذا اللبس هو وجود «الوكالة العربية» في مصر، لكن شأنها كباقي الوكالات التابعة للتجار السعوديين في الخارج والتي تمثل الملك عبد العزيز والوكيل أو المعتمد هو الشيخ فوزان السابق، لكن الحكومة المصرية لم تعترف به رسمياً. وكانت مفوضية بغداد هي الثانية بعد لندن، حيث تأسست في 21 يونيو 1931م، وعين رشيد باشا الناصر قنصلاً عاماً وقائماً بالأعمال لكنه لم يباشر عمله، وفي 25 مايو 1933م عين إبراهيم بن معمر في المنصب. ثم قنصلية دمشق ونقل إليها رشيد الناصر في 11 مايو 1933م. أما مفوضية مصر فيرأسها فوزان السابق بمسمى القائم بالأعمال وكان تعيينه في أغسطس 1936م بعد استئناف العلاقات السعودية المصرية.

* نواب وزارة الخارجية منذ مرحلة التأسيس
ولتعدد مناصب وزير الخارجية (الأمير) فيصل: نائب الملك في الحجاز ورئيس مجلس الشورى ورئيس مجلس الوكلاء كما تولى وزارة الداخلية، كان منصب وكيل الوزارة له أهميته وتعاقب عليه فؤاد حمزة ويوسف ياسين. كما تولى يوسف ياسين منصب نائب الوزير رسمياً.
وبمحاولة حصر من تولى منصب الوكيل أصالة أو تكليفاً خلال الخمسة وأربعين عاماً الأولى من عمر الخارجية توصلت إلى بعض الأسماء وقد يكون هناك أسماء أخرى لم أتوصل إليها، وذلك بسبب عدم توفر المصادر الكافية!
وبتتبع ما هو متوفر من معلومات يتبين أولاً أنه كُلِف بعمل (نائب الوزير) كل من عبد الله السليمان وحمد السليمان، وذلك وفقاً لما ورد في موسوعة تاريخ الملك عبد العزيز الدبلوماسي. أما عمل (وكيل الوزارة) فقد تولاه تكليفاً وبالنيابة كل من: خير الدين الزركلي ومحمود المرزوقي وطاهر رضوان وأسعد الفقيه وعبد الرحمن البسام وعلي عوض، ومحمد الحمد الشبيلي ومحمد محتسب وإبراهيم السويل، الذي عين وزيراً للخارجية في عام 1960م، وبعد ذلك عُين رسمياً في منصب الوكيل كل من عمر السقاف ومحمد إبراهيم مسعود وتمتد تلك المرحلة حتى أواخر شهر مارس 1975م.

@ بـ100 جنية ذهب تم استئجار أو مبنى للخارجية السعودية في جدة

أما المقر الرئيس لوزارة الخارجية فقد انتقل من مبنى الحميدية في مكة إلى جدة وتعددت الروايات حول سنة الانتقال، وبينما يذكر خير الدين الزركلي بأن أول مقر شغلته الوزارة في جدة هو الطابقان الأول والثاني من أحد الأبنية في جدة، يؤكد الباحث في تاريخ جدة خالد أبو الجدايل أن المبنى الذي أشار إليه الزركلي هو بيت موسى أفندي البغدادي في حارة الشام. كما شغلت الوزارة بيت درويش في حارة البحر، يصف ابن جدة محمد درويش مشاهداته: «أرى شاباً أنيقاً متألقاً بهي الطلعة يجلس عصر كل يوم في بهو وزارة الخارجية في بيت درويش بحارة البحر يحيط به مجموعة من السياسيين منهم: يوسف ياسين وفؤاد حمزة وطاهر رضوان وخير الدين الزركلي، ويستمر هذا المجلس في تبادل الآراء والنقاش حتى آذان المغرب فيتوقفون للصلاة ويؤمهم الشيخ يوسف ياسين ويلحق بهم من موظفي الوزارة عبد السلام فارسي وجمال سنبل»، لم يكن ذلك الشاب الأنيق سوى الأمير فيصل وزير الخارجية. لكن أبو الجدايل يؤكد أن حارة البحر ليست إلا جزءاً من حارة اليمن ويؤيد قوله بوثيقة موقعة من درويش ومحمد مصطفى درويش عبد ربه بتأجير دارهم الكائنة بمحلة (اليمن) بمائة جنيه إنجليزي ذهب إلى وزارة الخارجية وأنهم تسلموا نصف قيمة الأجرة 50 جنيهاً في 1 محرم 1352هـ (مايو 1933م) من وكيل وزارة الخارجية فؤاد بك حمزة، وباقي الأجرة تدفع في أول رجب 1352هـ (أكتوبر 1933م).
* مبنى الخارجية بطرازة الإسلامي تصدرت الريال السعودية

انتقل بعد ذلك مقر وزارة الخارجية إلى بناية باطويل الواقعة على شارع المطار القديم عند مدخل العمارية (أمام مطابع الأصفهاني فيما بعد) ويبدو أن ذلك كان خلال النصف الثاني من الأربعينيات الميلادية، يصف الدبلوماسي السعودي محمود عمر شاولي مبنى الوزارة حين التحق بالعمل بها في شهر مايو 1955م وقبل أشهر من انتقالها إلى مبناها الجديد حينذاك، بأنه كان فيلا من دورين وغرفتين بالسطح وإيجاره السنوي 3 آلاف جنيه ذهب. وحين انتقل المقر إلى مبنى الوزارة الواقع أمام بحر الطين (بحيرة الأربعين) في صيف عام 1955م كان عدد موظفي ديوان الوزارة بجدة لا يتعدى 50 موظفاً وميزانيتها 21 مليون ريال. وبينما يذكر المؤرخ أمين سعيد في كتابه «تاريخ الدولة السعودية» أن مقر الوزارة انتقل إلى المبنى في عام 1952م، يظهر لي أن المقصود هو بداية تنفيذ البناء، يؤيد ذلك ما أورده الزركلي بأنه تم البدء في تنفيذ المبنى في أواخر عهد الملك عبد العزيز. ولم أتوصل بشكل دقيق إلى المقاول الذي نفذ المبنى حيث تعددت الروايات حول مقاول المشروع هل هو (عثمان أحمد عثمان) أم (أبو الفتوح) أم غيرهما؟ لكن المبنى أصبح أحد أبرز معالم جدة العمرانية وتصميمه على الطراز الإسلامي مستوحى من مبنى قصر العدل في دمشق، وتصدرت صورته العملة السعودية الورقية من فئة الريال في الستينيات الميلادية. ويصفه المؤرخ عبد القدوس الأنصاري بأنه يحتوي على: «مصعدين كهربائيين وتكييف الهواء عام للمبنى وهناك قاعة كبيرة للحفلات والاجتماعات الهامة».
مع الإشارة إلى أنه كان هناك مكتب لوزير الخارجية في الرياض يقع في فيلا بحي عليشة قرب تقاطع شارع الإمام عبد العزيز بن محمد (العصارات) مع شارع الإمام فيصل بن تركي (الخزان)، وأذكر أنني ذهبت في مطلع الثمانينيات الميلادية لمقابلة الأمير سعود الفيصل فيه.
وفي عام 1984م انتقل مقر وزارة الخارجية إلى مدينة الرياض بعد اكتمال إنشاء مبناها في حي الناصرية.
وقصة انتقال وزارة الخارجية والبعثات الدبلوماسية من جدة إلى الرياض تستحق بحثاً مستقلاً.

رواد العمل الدبلوماسي في السعودية
لعل إلقاء الضوء على سير عدد من رواد العمل الدبلوماسي رغم شح المصادر عن بعضهم يجلي الغموض حول جوانب معينة مع الإشارة، بأن هناك عدداً كبيراً من رجالات السلك الدبلوماسي السعودي الذين يستحقون أن يذكروا وتوثق سيرهم لكن بحثاً كهذا لا يمكنه الإحاطة بكل أولئك:
1 - الشيخ فوزان السابق

تتلمذ في كتاتيب بريدة ثم درس في الرياض والبحرين والعراق والهند وحصل على إجازات في العلوم الشرعية. مارس التجارة بين نجد والعراق والشام ومصر مع العقيلات وكان من رموزهم. في عام 1922م اختاره الملك عبد العزيز وكيلاً له في دمشق، وبين عامي 1925 و1926م عينه وكيلاً له في القاهرة ونظراً لتوتر العلاقات السياسية بين المملكة المصرية ومملكة الحجاز ونجد وملحقاتها، مما أدى إلى قطعها في عام 1928م لم تعترف الحكومة المصرية بالوكالة التي أنشئت ولا بالشيخ السابق كوكيل للملك عبد العزيز، إلا أنه استمر في ممارسة أعماله دون اعتراف رسمي مستثمراً اتصالاته وعلاقاته الشخصية، وكان له نشاط إعلامي وجهود علمية وفكرية وحضور لافت في الأوساط الدبلوماسية في القاهرة، وتعرف إلى المستر كرين ورتب له مقابلة مع الملك عبد العزيز أسفرت عن إرسال كرين بعثة لعمل مسح عن المياه وتوصلت إلى دلائل عن وجود النفط والمعادن في المملكة، والتي انتهت بتقرير تويتشل الشهير الذي أفضى إلى توقيع اتفاقية الامتياز بين الحكومة السعودية وشركة سوكال في عام 1933م. وقد كُلف الشيخ السابق بمهام سياسية واستخباراتية متعددة وشارك في اجتماعات ومفاوضات وحمل رسائل ووقع على اتفاقيات ممثلاً للحكومة السعودية، وبعد توقيع معاهدة الصداقة السعودية المصرية واستئناف العلاقات في عام 1936م تم افتتاح المفوضية في القاهرة وتعيينه قائماً بالأعمال وقنصلاً عاماً ثم وزيرا مفوضاً ومندوباً فوق العادة، إلى أن تقاعد عام 1946م.
2 - عبد الله بن سليمان الحمدان

درس في كتاتيب عنيزة ثم انتقل إلى البحرين فالهند وعمل لدى التاجر النجدي عبد الله الفوزان كما واصل تعلمه هناك وتواصل مع البيوتات التجارية العربية الموجودة في الهند كآل فضل وآل بسام وآل زينل، وأتقن أساليب التجارة والحساب، كما مارس التجارة بين الأحساء والبحرين والهند لكنه لم يحقق نجاحاً كبيراً. التحق كاتباً في ديوان (السلطان) عبد العزيز نحو عام 1920م، واكتسب الثقة بسبب ذكائه وتعدد مواهبه وحسن تصرفه وتدبيره للأمور وفهمه الدقيق لشخصية الملك عبد العزيز وأسلوب عمله، فتدرج في البلاط الملكي وتولى إدارة المالية عام 1927م والتي تحولت إلى وكالة المالية العامة عام 1928م ثم أصبحت وزارة المالية عام 1932م. كما أسندت إليه مناصب أخرى من بينها تكليفه بعمل نائب وزير الخارجية. وعدا مواهبه الإدارية والقيادية فإن التصاقه بالملك عبد العزيز أكسبه حنكة سياسية ومهارات تفاوضية مكنته من قيادة المفاوضات مع شركة سوكال والتوقيع على اتفاقية الامتياز بأمر الملك عبد العزيز، ثم تفاوضه لرفع دخل الحكومة السعودية من عائدات النفط والذي لم توافق عليه الشركة. فعرض على الملك مقترحاً لإخضاع شركة البترول لضريبة الدخل والضرائب الأخرى، وتم اعتماد المقترح من قبل الملك، واضطرت الشركة للموافقة على دفع الضرائب وتم توقيع اتفاق بذلك عام 1951م. استمر (ابن سليمان) أو (الوزير) كما كان يطلق عليه في تأدية مهامه حتى بداية عهد الملك سعود حين طلب إعفاءه عام 1954م. لقد اختصر المؤرخ جلال كشك وصف جهود ابن سليمان بعبارته: «لعل ما فعله من أعاجيب خلال سنوات الأزمة العالمية لإبقاء جهاز الدولة يعمل، كان شفيعه في سنوات الرخاء حين تناثرت الأقاويل حوله...».

3 - حمد السليمان الحمدان

درس العلوم الشرعية والحساب في كتاتيب القصيم ثم التحق بأخيه (الوزير) عبد الله في الهند وتعلم هناك ثم عمل مع أخيه في التجارة وانتقل معه للعمل لدى الملك عبد العزيز، وتدرج في الوظائف، إذ عمل مساعداً لأخيه في وكالة المالية وعين وكيلاً لوزارة المالية وعضواً في مجلس الوكلاء عام 1932م. كلف بمهام دبلوماسية وشارك في وفود رسمية إلى اليمن عامي 1931 و1933م. قام بعمل نائب وزير الخارجية عام 1941م. صدر أمر ملكي بمنحه مرتبة وزير دولة عام 1951م، وبسبب ظروفه الصحية طلب الإعفاء من العمل عام 1956م.
4 - رشيد (باشا) الناصر بن ليلا

تلقى تعليمه في كتاتيب حائل ثم على يد عدد من علماء عصره. يجيد اللغة التركية، تولى عدداً من المناصب وكلف بمهمات في عهد إمارة آل رشيد على حائل وعين وكيلاً لهم في إسطنبول. وفد عام 1930م على الملك عبد العزيز الذي اصطفاه وكلفه بعدد من المهام، شارك في عضوية المؤتمر الوطني، كما عين عضواً في مجلس الشورى، ثم صدر في عام 1931م الأمر بتعيينه قنصلاً عاماً وقائماً بالأعمال لدى العراق لكنه لم يباشر عمله بسبب العلاقة غير الودية مع موفق الألوسي مدير الأمور (وزير) الخارجية العراقي آنئذٍ، ثم عين قنصلاً عاماً ووكيلاً معتمداً للملك عبد العزيز لدى سوريا في عام 1933م واستمر في منصبه حتى وفاته عام 1943م.
5 – خير الدين الزركلي

تلقى تعليمه الأولي في دمشق ثم في الكلية العلمانية الفرنسية (لاييك) في بيروت. اشتغل بالتدريس والصحافة والتأليف، ثم عمل في حكومة شرق الأردن، وفي عام 1934م عين مستشاراً للوكالة العربية في القاهرة والتي تحولت إلى مفوضية عام 1936م، ومثّل المملكة في الاجتماعات التأسيسية لجامعة الدول العربية. كلف بالعمل وكيلاً لوزارة الخارجية عام 1946م، وفي عام 1951م سمي وزيراً مفوضاً ومندوباً دائماً لدى جامعة الدول العربية، وكان خلال تلك المدة يتناوب العمل ويتبادل الموقع مع يوسف ياسين بين الوزارة والجامعة. وفي عام 1957م عين سفيراً في المغرب. مثّل المملكة في عدد من المؤتمرات والاجتماعات وشارك في وفود رسمية، واستمر في خدمة السياسة والتاريخ السعودي حتى وفاته عام 1976م. أصدر عدداً من المؤلفات منها: «الأعلام»، و«شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز»، و«ما رأيت وما سمعت»، و«الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز»... وغيرها، كما أن له قصائد وفرائد شعرية جمعت في ديوان الزركلي.
6 - محمود بن محمد المرزوقي

درس في مدارس الفلاح بجدة، وبدأ حياته الوظيفية كاتباً في المحكمة الشرعية، حيث كان والده الشيخ السيد محمد المرزوقي قاضياً لجدة. ثم انتقل للعمل في وزارة الخارجية في الأربعينيات الميلادية يوم كان مقرها في بيت درويش بحارة البحر (وهو نفسه من أبناء ضاحية المشورة بحارة البحر)، وتدرج في الوظائف لكنه لم يبارح جدة فقد كان جداوي الهوى، كلف بمهام إدارية متعددة بعضها كان مع الشيخ محمد إبراهيم مسعود. وورد في موسوعة تاريخ الملك عبد العزيز الدبلوماسي أنه عين في مارس 1949م وكيلاً لوزارة الخارجية بالنيابة. لكنه كسب محبة الناس أثناء توليه مسؤوليات الشعبة القنصلية لمدة طويلة نظراً لحسن تعامله مع مختلف مراجعي الوزارة.
7 - طاهر بن حسن رضوان

درس في مكة المكرمة ثم أتم دراسته في سوريا ومصر وتخرج في كلية دار العلوم بالقاهرة، عمل في الشعبة السياسية في الديوان الملكي ثم انتقل نحو عام 1945م إلى وزارة الخارجية، وكلف بعمل وكيل الوزارة في عام 1948م وخلال مدة تكليفه عمل على إصدار أول لائحة للعمل الدبلوماسي. صدر مرسوم ملكي بتعيينه وزيراً مفوضاً في القاهرة عام 1950م، ثم عين وكيلاً لوزارة الخارجية في عام 1954م. أصبح في عام 1957م مندوب المملكة الدائم لدى جامعة الدول العربية وأصبح عميداً للسفراء المندوبين لدى الجامعة واستمر حتى تقاعده عام 1991م، كما كان يعتبر عميداً للسفراء السعوديين على رأس العمل. مثل المملكة في عديد من الاجتماعات والمهمات السياسية، وعاصر فترة انتقال المقر الدائم لجامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس بين عامي 1979 و1990م بعد مقاطعة الدول العربية لمصر إثر توقيعها اتفاقية كامب ديفيد وتعليق عضويتها في الجامعة، وأشارت مصادر أنه زود الأمانة العامة للجامعة بنسخ كثير من الوثائق والملفات والقرارات الصادرة عن الجامعة، والتي لم تسمح السلطات المصرية بنقلها إلى تونس مما ساعد على استمرار عمل الجامعة في تلك المرحلة الحرجة.
8 - إبراهيم بن عبد الله السويل

درس في المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، وأكمل تعليمه في القاهرة حيث تخرج في كلية دار العلوم نحو عام 1939م. عمل مدرساً في مدرسة تحضير البعثات، ثم انتقل للعمل في وزارة الخارجية في منتصف الأربعينيات الميلادية وتدرج في الوظائف الدبلوماسية في عدد من السفارات السعودية في الخارج، ونحو عام 1955م عاد إلى ديوان الوزارة، ثم كلف بعمل وكيل الوزارة، وفي عام 1957م عين سفيراً في العراق، وفي عهده لجأ أفراد من الأسرة الملكية الهاشمية إلى السفارة السعودية في بغداد عند قيام ثورة 1958م، ووفقاً لرواية الأميرة بديعة بنت علي بن الحسين، أن السويل استقبلهم واتصل بالملك سعود الذي وجهه بتقديم الرعاية لهم وقال له: «إنهم أمانة في رقبتك»، وبقوا في حماية السفارة السعودية لمدة شهر إلى أن تم تأمين مغادرتهم العراق. وفي ديسمبر من عام 1960م وحتى مارس 1962م، تم تعيينه وزيراً للخارجية في الوزارة التي شكلها الملك سعود إثر استقالة رئيس الوزراء (الأمير) فيصل. وسمعت من صديقه السفير أحمد بن علي آل مبارك أنه زاره بعد تعيينه وزيراً للخارجية فوجده يراجع المعاملات على كرسي جانبي في مكتب الوكيل، فقال له لم لا تقعد في مكتب الوزير فكان رد السويل: سيعود صاحبه! ونيابة عن الملك سعود، وكممثل شخصي لجلالته ترأس السويل الوفد السعودي لمؤتمر حركة عدم الانحياز الذي عقد في بلغراد خلال شهر سبتمبر 1961م وتكون الوفد من السفراء عبد الرحمن الحليسي وجميل حجيلان والمستشارين محمد شرارة وعوني الدجاني، أما سكرتارية الوفد فضمت إبراهيم السلطان وطه الرشيد الدغيثر ومحمد حسن فقي ومحمد سمان ومحمد صالح يحيى.
في مايو 1962م تم تعيينه مستشاراً خاصاً لجلالة الملك ورئيساً للشعبة السياسية في الديوان الملكي، ثم عين في نوفمبر من العام نفسه وزيراً للزراعة، وبين عامي 1964 و1975م أصبح سفيراً لجلالة الملك في واشنطن. وفي عهد الملك خالد (1975م) صدر أمر ملكي بتعيينه مستشاراً في الديوان الملكي وحتى وفاته عام 1977م، وصلى على جنازته في الجامع الكبير بالرياض (الإمام تركي حالياً) كبار الأمراء والمسؤولين ظهر يوم الجمعة 20 مايو 1977م، ونقل (الأمير) سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض تعازي الملك خالد في وفاة الشيخ السويل إلى أسرة الفقيد خلال زيارته لمنزلهم. ويعتبر الشيخ السويل من رجالات الدولة السعودية وسياسييها الكبار الذين عاصروا مراحل بناء الدولة وتحولات المنطقة والعالم، وعملوا داخل الدهاليز السياسية في الديوان الملكي ومجلس الوزراء وديوان وزارة الخارجية والسفارات، وكان لديهم القدرة على لجم الرغبة في الظهور والبعد عن التصريحات أو تدوين المشاهدات ونشر المذكرات، لذا فقدنا صفحات مهمة من تاريخ السياسة السعودية.

9 - محمد الحمد الشبيلي

تلقى تعليمه الأولي في عنيزة ثم أكمل دراسته في البصرة. التحق بالعمل كاتباً في الديوان الملكي نحو عام 1930م، ثم انتقل إلى وزارة الخارجية وعين نائباً للقنصل السعودي في البصرة في عام 1942م وأصبح بعد ذلك القنصل العام في عام 1949م. نقل في عام 1957م مستشاراً في وزارة الخارجية وكلف بعمل وكيل الوزارة ثم عين سفيراً لدى باكستان. صدر أمر ملكي بتعيينه وزيراً للعمل والشؤون الاجتماعية في عام 1962م واعتذر عن عدم تولي المنصب، كما تشير سيرته إلى اعتذاره عن عدم تولي عديد من المناصب ومن بينها رئيس التشريفات الملكية ورئيس ديوان ولي العهد والتماسه البقاء في عمله الدبلوماسي. في عام 1964م عين سفيراً لدى الهند ثم عاد سفيراً في بغداد عام 1976م، تنقل بعد ذلك سفيراً لدى أفغانستان 1972م ولدى ماليزيا 1978م.
كان ظاهرة إنسانية ودبلوماسية وإدارية فريدة، وأسطورة في الكرم والسخاء ومكارم الأخلاق، اختصر ذلك الملك خالد بوصفه له: «سفير بلا نظير». روي عن قصصه وعجائبه الكثير مما لا يكاد يصدق، لم يكن رجل دولة فحسب؛ بل كان مدرسة دبلوماسية نادرة، وقوة ناعمة سعودية تمشي على الأرض تخرج فيها مسؤولون ووزراء وتأثر بها علماء وزعماء، لقد كان ماركة دبلوماسية متفردة اسمها (أبو سليمان).

10 - عبد الرحمن المحمد البسام

تلقى تعليمه في مكة المكرمة ثم درس الحقوق في جامعة فؤاد الأول. التحق بوزارة الخارجية وتدرج في السلك الدبلوماسي وعمل في عام 1945م في الوفد الدائم لدى الأمم المتحدة ومثل المملكة في عدد من المؤتمرات الدولية. عين سفيراً للمملكة لدى باكستان عام 1955م، وفي عام 1957م كلف بالعمل وكيلاً لوزارة الخارجية، ثم عين سفيراً لدى تونس في عام 1958م وأصبح عميد السلك الدبلوماسي كما ارتبط بعلاقة خاصة بالرئيس الحبيب بورقيبة، وفي عام 1975م عين سفيراً لدى اليونان إلى أن توفي فيها عام 1977م.
11 - علي عوض
الشيخ علي بن مصطفى عوض: تلقى تعليمه مكة المكرمة وتخرج في المعهد العلمي السعودي ثم التحق بالعمل في وزارة الخارجية في مطلع الثلاثينيات الميلادية ويعتبر من أوائل موظفيها حيث عمل كاتباً، ثم انتقل للعمل في مكتب الشيخ يوسف ياسين ورافقه في عدد من المهمات، وتدرج في السلك الدبلوماسي حيث تنقل بين السفارات السعودية في بيروت والقاهرة، عين بعد ذلك قائماً بالأعمال في السفارة السعودية في باريس وعندما قطعت العلاقات السعودية الفرنسية بسبب العدوان الثلاثي في شهر أكتوبر من عام 1956م عاد للعمل في الديوان العام، وكلف بعمل وكيل الوزارة، وتشير سيرته المنشورة في معجم السفراء السعوديين إلى تقاعده عام 1960م ثم أعيدت خدماته عام 1961م، وتنقله بين عدد من السفارات من بينها مقديشو ودمشق وتونس.
12 - محمد عبد القادر محتسب

درس في لبنان ثم التحق بوزارة الخارجية في الأربعينيات الميلادية وعمل في السفارة السعودية في أميركا إبان تولي أسعد الفقيه السفارة (1945 إلى 1954م)، ثم عاد للعمل مستشاراً في ديوان الوزارة بجدة، وفي عام 1957م صدر أمر ملكي بمنحه درجة وزير مفوض ثم كلف بعمل وكيل وزارة الخارجية، وذكر الوزير هشام ناظر أنه بعد عودته من البعثة عام 1958م، ذهب لوزارة الخارجية وقابل وكيلها محمد محتسب الذي قال له: «والله يا هشام نحن في الخارجية ليس لدينا أي وظيفة شاغرة عليك أن تبحث في مكان آخر...».، وقد تكون رواية هشام ناظر من الروايات القليلة المدونة التي تؤكد تولي محتسب منصب وكيل وزارة الخارجية. إلا أن المؤكد أيضاً أنه عمل بعد ذلك سفيراً لجلالة الملك في عدد من الدول منها إندونيسيا وكندا والنمسا.
13 - أسعد الفقيه

يعتبر من الرعيل الأول الذين التحقوا بالعمل في وزارة الخارجية في أوائل الثلاثينيات الميلادية وعمل بوظيفة معاون ثان، وفي عام 1936م نقل إلى مفوضية بغداد ثم عين وزيراً مفوضاً لدى العراق عام 1942م، نقل بعد ذلك وزيراً مفوضاً في واشنطن عام 1945م، وأصبح أول سفير سعودي لدى الولايات المتحدة الأميركية في عام 1948م ومثل المملكة في اجتماعات الأمم المتحدة. في عام 1955م عين مفتشاً للسلك الدبلوماسي، وكلف بعد ذلك بعمل وكيل وزارة الخارجية. وفي عام 1958م عين سفيراً لدى اليابان

14 - عمر بن عباس السقاف

درس في المدينة المنورة ثم في مدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة وكان من ضمن معلميه الأستاذ إبراهيم السويل الذي سيصطفيه فيما بعد وكيلاً دائماً لوزارة الخارجية. تخرج في جامعة بيروت الأميركية ثم التحق بوزارة الخارجية عام 1948م وتدرج في السلك الدبلوماسي وتنقل موظفاً بين السفارات السعودية لدى باكستان وإندونيسيا وبريطانيا، ثم سفيراً في الحبشة في عام 1957م. كما كلف بعمل مساعد وكيل الوزارة عام 1958م، ثم حمل لقب الوكيل الدائم لوزارة الخارجية في عهد وزيرها إبراهيم السويل عام 1960م، وحسب ما اطلعت عليه فإنه الوحيد الذي حمل هذا اللقب، حتى عين وزير دولة للشؤون الخارجية في أبريل (نيسان) من عام 1968م، ثم أصبح في مايو من العام نفسه عضواً في مجلس الوزراء. رأس وشارك في وفود ومؤتمرات عدة ونقل رسائل الفيصل إلى قادة العالم، ومثل المملكة في اجتماعات وزراء الخارجية والأمم المتحدة. شهدت فترة توليه المنصب ذروة الصراع العربي الإسرائيلي وعاصر حرب أكتوبر وقرار حظر تصدير النفط. عقد اجتماعات متعددة مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأشهر مدافعاً عن الحق العربي.

في الساعة السابعة إلا ربع من مساء يوم الأربعاء 6 نوفمبر 1974م وصل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر إلى مطار الرياض الدولي قادماً من القاهرة، وكان في استقباله الوزير عمر السقاف الذي عقد معه اجتماعاً في قصر الضيافة، ثم صحبه لمقابلة الملك فيصل في قصر الرئاسة (قصر أو ديوان رئاسة مجلس الوزراء الواقع في الجهة الجنوبية من

برج مياه الرياض وإلى الشرق من القصر الأحمر عند التقاء شارع الوزير مع شارع الظهيرة بحي المربع، وهو القصر الذي وقع فيه الاعتداء على الملك فيصل بعد ذلك التاريخ بعدة أشهر). استقبل الملك الوزير الأميركي في الساعة الثامنة وغادر كيسنجر الرياض في العاشرة من مساء اليوم نفسه إلى الأردن.

لم يكن ذلك الاجتماع هو الأول بين السقاف وكيسنجر لكنه كان الأخير في سلسلة مفاوضات شاقة لإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي. استمر السقاف في أداء مهامه كالعادة ثم سافر إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن على منبرها كانت مرافعته الأخيرة عن قضية فلسطين، وفي يوم الخميس 14 نوفمبر 1974م تعرض لجلطة دماغية توفي على أثرها في مقر إقامته بفندق «وردوف أستوريا» في نيويورك، وفور إذاعة النبأ تلقى الديوان الملكي السعودي سيلاً من برقيات التعازي من قادة ووزراء خارجية دول العالم وأمناء المنظمات الدولية والسفراء والمسؤولين. ووفاء بوفاء، ونيابة عن جلالة الملك كان (الأمير) فهد بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية وعدد من الأمراء والوزراء وكبار رجالات الدولة في استقبال جثمان الفقيد الذي وصل في الساعة الثامنة من صباح يوم السبت 16 نوفمبر 1974م إلى مطار جدة الدولي على متن طائرة أميركية خاصة يرافقه روي أثرتون وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط مندوباً عن الحكومة الأميركية، وكانت الطائرة قد توقفت للتزود بالوقود في أحد القواعد العسكرية بإسبانيا وصعد إليها سفير جلالة الملك في مدريد الشيخ ناصر المنقور يرافقه الموظف في السفارة وقتذاك الأستاذ محمد السليمان الحمد - زوج ابنة السقاف والذي عين فيما بعد رئيس المكتب الخاص للملك فهد - ورافق الجثمان إلى جدة، أسرة الفقيد أقلتها طائرة خاصة من بيروت إلى جدة بأمر من الملك فيصل، وبعد أن تقبلوا العزاء من كبار المسؤولين ومندوب الحكومة الأميركية، أقلت طائرة سعودية خاصة الجثمان إلى المدينة المنورة حيث صلي عليه في المسجد النبوي ودفن في البقيع. يعد السقاف من أبرز خريجي مدرسة الفيصل الدبلوماسية، ومن أوفى منسوبي مدرسة الصمت، الذين شهدوا الخلفيات وشاهدوا التحولات وشاركوا في الاجتماعات المغلقة فاطلعوا على الأسرار، لكنهم لم يدونوا مذكرات أو ينشروا سيراً أو يبوحوا بما لديهم من معلومات فرحلت معهم صفحات التاريخ.

15 - محمد إبراهيم مسعود

درس في مدارس الفلاح بجدة ثم في كلية التجارة بالجامعة الوطنية في بيروت، ويتحدث اللغتين الإنجليزية والفرنسية. عمل بالتدريس، ثم بدأ وظائفه الحكومية كاتب شفرة في مكتب المعادن والأشغال العمومية في عام 1942م التابع لوزارة المالية، وبين عامي 1944 و1957م أُلحق بأمر من الملك عبد العزيز كمستشار عربي وضابط اتصال في السفارة الأميركية بجدة، ثم عين مفتشاً للسلك الدبلوماسي في وزارة الخارجية، وفي عام 1959م عين وزيراً مفوضاً في بغداد. حصل على مرتبة سفير وكلف بعمل وكيل وزارة الخارجية بالنيابة عام 1960م. وفي عام 1968م عين وكيلاً للخارجية، وصدر الأمر الملكي بتعيينه على المرتبة الممتازة في 21 أغسطس 1971م. خلال تلك السنوات كان الشيخ مسعود من أبرز وجوه الخارجية السعودية من خلال رئاسته ومشاركته في الوفود الرسمية وإيفاده مبعوثاً خاصاً لجلالة الملك وتكليفه بمهمات خاصة، وفي يناير 1971م شكل وفد سعودي كويتي مشترك برئاسة الأمير نواف بن عبد العزيز المستشار الخاص لجلالة الملك والشيخ صباح الأحمد الجابر وزير الخارجية الكويتي لزيارة إمارات الخليج العربي (أبوظبي والبحرين وقطر ودبي والشارقة وعجمان ورأس الخيمة وأم القوين والفجيرة) لتقريب وجهات النظر لقيام اتحاد بينها بعد إعلان بريطانيا عزمها على الانسحاب من الخليج ومنح تلك الإمارات استقلالها، وكان الرأي العام العربي ينتظر تصريحات المتحدث الرسمي للوفد المشترك الشيخ محمد إبراهيم مسعود عن جهود الوفد ونتائج جولاته المكوكية واجتماعاته بحكام إمارات الخليج التسع لقيام اتحاد بينها، والذي انتهى بإعلان قيام دولة الإمارات العربية المتحدة وإعلان استقلال قطر والبحرين كدول مستقلة في ديسمبر 1971م. بعد وفاة الوزير عمر السقاف صدر أمر ملكي بتعيينه وزير دولة للشؤون الخارجية بالنيابة ثم عين في أكتوبر 1975م وزير دولة وعضواً في مجلس الوزراء حتى تقاعده في أغسطس 1995م، وخلال تلك المدة استمر في أداء المهام السياسية ونقل الرسائل الملكية والمشاركة في المجالس والوفود واللجان، واختير عضواً في (اللجنة العليا لوضع نظام الحكم الأساسي ونظام مجلس الشورى ونظام المقاطعات) والمشكلة بالأمر الملكي الصادر في 19 مارس 1980م.
دور الخارجية السعودية في دعم استقلال الدول العربية
لقد كانت الخمسة وأربعين عاماً الأولى من عمر الخارجية السعودية مرحلة بدايات بناء الدولة وما صاحبها من تطورات، إضافة إلى تشكل نظام عالمي جديد بعد الحرب العالمية الثانية وكانت المملكة العربية السعودية ممثلة بوزير خارجيتها (الملك) الأمير فيصل من الدول المؤسسة لهيئة الأمم المتحدة عام 1945م، كما أعيدت صياغة المشهد الإقليمي فتأسست جامعة الدول العربية في العام نفسه، ولم تنل غالبية الدول العربية استقلالها حينذاك؛ فسعت المملكة العربية السعودية من خلال وزارة خارجيتها إلى دعم استقلال الدول العربية في المحافل الدولية، كما سعت إلى مناصرة قضية الشعب الفلسطيني، وبدأ الصراع العربي الإسرائيلي ثم بدأ المد الثوري يجتاح الدول العربية، مما أوجد حالة من عدم الاستقرار في العالم العربي، علاوة على أن الحرب الباردة تدور رحاها بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين من جهة، والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي من جهة أخرى، كما تبنى الملك فيصل دعوة التضامن الإسلامي وتأسست منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1969م، وكانت آخر الملفات الكبرى لتلك المرحلة محاولات إيجاد حل عادل للصراع العربي الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر 1973م وقرار حظر النفط المصاحب لها، فقد توفي وزير الدولة للشؤون الخارجية السيد عمر السقاف في نيويورك وهو يشارك في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة هذه القضية في نوفمبر 1974م، تلى ذلك اغتيال الملك فيصل وهو يستقبل في مكتبه وزير النفط الكويتي في مارس 1975م، وبذلك طويت فصول لم يدون أكثرها من تاريخ الوزارة المدافعة عن الحقوق العربية والإسلامية والساعية إلى دعم الأمن والسلم في العالم.
* سعود الفيصل وزيراً للخارجية بعد 6 شهور من تولي الملك خالد الحكم

تولى الملك خالد مقاليد الحكم في 25 مارس 1975م، وأصدر يوم 28 مارس 1975م أمراً ملكياً حمل الرقم
(أ-52) ونص على أنه: «بناءً على اقتراح رئيس مجلس الوزراء يستمر جميع أعضاء مجلس الوزراء الحاليين في مناصبهم»، كما أصدر ثلاثة أوامر أخرى بتاريخ 29 مارس 1975م حمل الأول رقم (أ - 53) ونصت فقراته على تعيين: «الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ووزير الداخلية نائباً أول لرئيس مجلس الوزراء، والأمير عبد الله بن عبد العزيز رئيس الحرس الوطني نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء»، والثاني برقم (أ - 54) ونص على تعيين: «الأمير نايف بن عبد العزيز وزير دولة للشؤون الداخلية وعضواً في مجلس الوزراء»، والثالث برقم (أ - 55) ونص على تعيين الأمير سعود الفيصل وزير دولة للشؤون الخارجية وعضواً في مجلس الوزراء»، وفي أكتوبر من العام نفسه أعيد تشكيل مجلس الوزراء السعودي وأصبح الأمير نايف وزيراً للداخلية والأمير سعود وزيراً للخارجية.
استكمل سعود الفيصل فصولاً جديدة في تاريخ الخارجية السعودية، وظلت القضية الفلسطينية من أولويات السياسة الخارجية السعودية، إلا أن المرحلة شهدت اضطرابات وتحولات عربياً وإقليمياً ودولياً، فمن الحرب الأهلية اللبنانية (1975م) إلى انشقاق الصف العربي بسبب توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد (1978م) إلى الثورة الإيرانية ثم الغزو السوفياتي لأفغانستان (1979م) فالحرب العراقية الإيرانية (1980م) مع استمرار الحرب الباردة والصراعات والنزاعات في أكثر من مكان، ثم انهيار المعسكر الشرقي
(1989م) فالغزو العراقي للكويت (1990م) وتفكك الاتحاد السوفياتي (1991م) ثم النزاع في البوسنة والهرسك (1992م)، وما صاحب عقد التسعينيات من أزمات، فاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر (2001م) ثم الاحتلال الأميركي للعراق (2003م) ومخططات الفوضى الخلاقة وظاهرة الإرهاب بعد ذلك، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي (2010م)، وغير ذلك من القضايا التي يطول شرحها والتي اختصرها الأمير سعود الفيصل في تصريحه لصحيفة النيويورك تايمز عام 2009م: «لم نشهد سوى أوقات شدة وأزمات... ولا نتوقع إلا أزمنة صراعات...».!

وزارة خارجية العرب
ورغم كل تلك الأجواء المضطربة والمراحل العصيبة، فإن الحكومة السعودية جابهت تلك الأزمات من خلال سياستها الهادئة ودبلوماسيتها الفاعلة، وحكمة قيادتها ودعمها لكل جهد يدعم استقرار المنطقة، وعملت مع شقيقاتها على تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية (1981م)، وإنهاء الحرب العراقية الإيرانية (1988م)، وإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية وتوقيع اتفاق الطائف (1989م)، وتحرير الكويت من الغزو العراقي (1991م)، ثم انتفضت في حربها على الإرهاب، والوقوف في مواجهة مخططات استهداف العالم العربي.
أما الوزارة فقد كانت وزارة للخارجية العربية، تدافع عن القضايا والمصالح العربية، وتدعم مواقف الدول العربية، وتسعى إلى تحقيق أمن واستقرار المنطقة والعالم، تأكيداً لمبادئ السياسة السعودية الثابتة منذ عهد الملك عبد العزيز.
الأمير سلطان بن عبد العزيز أبرز من تولي الخارجية بالنيابة

أما على صعيد تشكيلات الوزارة وآليات عملها الداخلية بعد عام 1975م، فقد تطورت، وبرزت وجوه دبلوماسية جديدة، نقلت العمل الدبلوماسي السعودي إلى آفاق أرحب، مما يتطلب بحثاً وتوثيقاً لهذه المرحلة وما تلاها، وللجوانب الأخرى التي لم يتم التطرق لها في هذا البحث، غير أنه من المهم الإشارة إلى الوزير الذي ينوب عن وزير الخارجية في حال غيابه وبنص النظام: «النيابة عن الوزير لا تكون إلا لوزير آخر وبموجب أمر يصدر من رئيس مجلس الوزراء»، ونظراً لكثرة مهمات ورحلات الوزير خارج المملكة، فإن أبرز من تولى منصب وزير الخارجية بالنيابة طوال فترة تولي الأمير سعود، هو الأمير سلطان بن عبد العزيز.

من الوزير الثالث للخارجية السعودية؟
إلا أن هناك تساؤلاً ما زال مطروحاً، وهو من كان وزير الخارجية خلال الستة أشهر التي تولى فيها الأمير سعود الفيصل منصب وزير دولة للشؤون الخارجية (مارس إلى أكتوبر 1975م)؟ حيث إن موقع وزارة الخارجية الرسمي على شبكة الإنترنت وجميع المصادر الأخرى تشير إلى أن الأمير سعود الفيصل هو الوزير الثالث للخارجية السعودية بعد الملك فيصل والشيخ إبراهيم السويل، وحيث إن النظام الذي يحكم هذا الموضوع هو نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم (380) وتاريخ 22-10-1377هـ الموافق 11-5-1958م، والذي نصت المادة (السابعة) منه - بعد أن عُدلت - على أن «مجلس الوزراء هيئة نظامية يرأسها جلالة الملك وتعقد اجتماعاتها برئاسة جلالته أو نائب رئيس مجلس الوزراء...».، وحيث إن الأمر الملكي رقم (أ-52) - الذي أصدره الملك خالد - نص على أن «يستمر جميع أعضاء مجلس الوزراء الحاليين في مناصبهم»، وهذا لا يشمل رئيس المجلس، إذ هو محدد بنص المادة (السابعة) من النظام الآنف ذكره، ولا نواب رئيس المجلس الذين صدر أمر ملكي مستقل بتعيينهم برقم (أ-53)، وحيث إن المرسوم الملكي رقم (27) الذي أصدره الملك فيصل عند توليه الحكم (2 نوفمبر 1964م)، نص على أن: «تبقى الوزارة الحالية بتشكيلها الحاضر» والتي كان الملك فيصل يرأسها ويتولى فيها منصب وزير الخارجية، مما يعني أن رئيس مجلس الوزراء استمر وزيراً للخارجية، وبما أنه لم تتم إعادة تشكيل المجلس طوال فترة حكم الملك فيصل (1964 إلى 1975م) رغم تعيين وزير دولة للشؤون الخارجية وعضواً في مجلس الوزراء، فهل يمكن القول إن الملك خالد احتفظ بمنصب وزير الخارجية في ضوء توليه منصب رئيس مجلس الوزراء؟ أي أن الملك خالد حمل حقيبة وزارة الخارجية ولم يحمل لقب الوزير، وذلك مثلما كان الحال بالنسبة للملك فيصل بعد توليه الحكم، إذ لم يُذكر اسمه أو يعمم كوزير للخارجية كونه ملكاً ورئيساً لمجلس الوزراء. وفي ضوء ما تقدم، هل تتبنى وزارة الخارجية دراسة هذا الموضوع؟ ومن ثم تحديث قائمة وزراء الخارجية السابقين لتكون كالتالي:
(الملك) الأمير فيصل بن عبد العزيز (ديسمبر 1930 إلى ديسمبر 1960م)

الشيخ إبراهيم السويل (ديسمبر 1960م إلى مارس 1962م)

الملك فيصل بن عبد العزيز (مارس 1962 إلى مارس 1975م)

الملك خالد بن عبد العزيز (مارس 1975 إلى أكتوبر 1975م)

الأمير سعود الفيصل (أكتوبر 1975 إلى أبريل 2015م)

الأستاذ عادل الجبير (أبريل 2015م إلى ديسمبر 2018م)

الدكتور إبراهيم العساف (ديسمبر 2018 إلى أكتوبر2019م)

الأمير فيصل بن فرحان (أكتوبر 2019م إلى الآن)

*كاتب وباحث سعودي



تمثلات الشخصية في الرواية

غائب طعمة فرمان
غائب طعمة فرمان
TT

تمثلات الشخصية في الرواية

غائب طعمة فرمان
غائب طعمة فرمان

ثمة تلازم جدلي سري، لكنه قلق، بين الشخصية الروائية من جهة؛ و«الحدث (action)» وبقية مكونات البنية السردية كالزمان والمكان والمروي له والنسق والخلفية «السوسيو تاريخية (setting)»... وغيرها.

ترى كيف تتشكل الشخصية سردياً، وكيف تمتلك القدرة على الحياة والتنفس والحركة في مناخات صعبة وقاسية ويمكن أن توصف في الغالب بـ«الدستوبية»، وكيف يتأتى لها أن تشتبك بالحدث الروائي، وتشكل معه ثنائية تقوم على التنازع بقدر ما تقوم على التضافر والتفاعل.

ثمة سؤال إشكالي دائماً في الحوار النقدي: هل يمكن أن تقوم الرواية دون حضورٍ فاعلٍ للشخصية الروائية، يقابله على الطرف الأبعد سؤال إشكالي آخر: وهل يمكن أن تنهض الرواية دونما حدث أو فعل روائي أو درامي قوي.

قد تظهر هذه الأسئلة على شاشة وعي الروائي الميداني، وقد تغيب بصورة عفوية أو مقصودة، لكن التساؤلين يشقان طريقهما بقوة وإصرار إلى فضاء الرواية في تزاحم تارة، وفي تضافر تارةً أخرى. وعندما يعلو حضور الشخصية الروائية نشعر عند ذاك بأننا إزاء رواية شخصية واضحة، ولكن دونما قصدية واضحة في إزاحة الحدث أو الفعل الروائي من فضاء الرواية.

باختين

ولكن في جميع الأحوال لا يمكن التغاضي عن حقيقة أن الشخصية مكون بنيوي أساسي في آلية السرد، مثلما أن الحدث هو الآخر مكون بنيوي متحرك وفاعل ومؤثر.

وهناك من ينتصر لصعود الشخصية على الحدث الروائي كما يذهب إلى ذلك الشكلاني الروسي توماشفسكي الذي يرى أن الشخصية خيط هادٍ يمكن له فك المكررات، ويسمح بتصنيفها وترتيبها. ويقول رولان بارت إن المتواليات بوصفها كتلاً مستقلة تُسترد عند مستوى الفعل الأعلى ومستوى الشخصيات، وهناك من يرى أن الرواية هي في الجوهر فن الشخصية الروائية؛ لأنها تأخذ مكان الصدارة في الفضاء الروائي.

يظل هناك رابط عضوي بين الشخصية والراوي؛ أن الراوي يضمر شخصية معينة، لها وظائفها السردية. ويعود الاهتمام بدراسة الراوي إلى أفلاطون الذي ميز ثلاثة أنماط من الرواة في إلياذة هوميروس:

«فثمة راوٍ متوازٍ يقص ويُسمع صوته وهو هوميروس، وثمة راوٍ تتوارى فيه شخصية الراوي؛ هوميروس كذلك، وهناك راوٍ ثالث يجمهما معاً: فيرى أحياناً أو يترك للشخصيات الكلام أحياناً أخرى».

وللشخصية الروائية وظائف عديدة؛ خمس وظائف كما يراها الناقد جيرار جنيت هي:

1- الوظيفة السردية.

2- الوظيفة الآيديولوجية.

3- وظيفة الإدارة.

4- وظيفة الوضع السردي.

5- الوظيفة الانتباهية التواصلية.

كما يمكن تحديد وظائف ثلاث أساسية:

1- الوظيفة الوصفية التي يقوم فيها الراوي بتقديم وصف للأحداث والأماكن والصراعات.

2- الوظيفة التأصيلية: وفيها يقوم الراوي بتأصيل رواياته في الثقافة العربية مثلاً ويجعل منها أحداثاً للصراع القومي.

3- الوظيفة التوثيقية وفيها يقوم الراوي بتوثيق بعض رواياته، رابطاً إياها بمصادر تاريخية، زيادة في إيهام الراوي بأنه يروي تاريخاً موثقاً.

ويحاول «علم السرد الحديث (الناراتولوجي)» أن يفك الاشتباك بين بعض المصطلحات المتجاورة في هذا المجال، خصوصاً فيما يتعلق بمفاهيم الشخصية والراوي والمؤلف الواقعي والمؤلف الضمني: فالمؤلف الواقعي هو الكاتب الحقيقي للعمل الروائي، وهو كائن إنساني حي، والمؤلف الضمني هو المؤلف الذي ينتمي إليه النص دون أن يوجد فيه وجوداً مباشراً بالضرورة. فهو الوسيط بين المؤلف الواقعي والعمل الأدبي، أما الشخصية؛ فهي كائن يخلقه الروائي، وهي، كما يرى رولان بارت، شخصية ورقية، لكن بعض النقاد يرى غير ذلك.

وقد عرف جير ألديرنس «الشخصية» في «قاموس السرديات» بأنها كائن له سمات إنسانية ومنخرط في أفعال: إنسانية يمكن أن تكون رئيسية أو ثانوية؛ ديناميكية وثابتة، منسقة أو غير منسقة، مسطحة أو مستديرة.

ويرى «بروب» أن الوظيفة هي المنوطة بالشخصية داخل السرد المكاني، وهي التي تعطي دوائر فعل الشخصية في الحكاية التي تخلق تلك الشخصية، وهي عنده تختلف من حيث إنها عنصر متحول، بينما تشكل وظيفتها عنصراً ثابتاً.

ويرى لوغان أن الشخصية هي عنصر من عناصر النص، وإدراكها يرتبط بإدراك العناصر الأخرى التي يتكون منها النص الروائي كالمكان والزمان والسرد.

رومان رولان

ويقول باختين إن المهم في الشخصية ليست الشخصية ذاتها، بل المهم فيها هو ما يمثله العالم لها، وما تمثله هي لذاتها. ويرى سعيد يقطين أن الشخصية هي تجسيد لأنماط الوعي الاجتماعي والثقافي الذي تعبر عنه، وهي تعيش قلقها مع العالم ومع ذاتها؛ حيث تلعب علاقات الشخصيات داخل العمل الروائي بعضها مع بعض دوراً مهماً في إبراز البعد الاجتماعي الذي يرتهن إليه الكاتب في تقديم شخصياته.

أما فيليب هامون في كتابه «سيميولوجية الشخصية الروائية» فيعتقد أن مقولة «الشخصية» ظلت وبشكل مقارن إحدى المقولات الأشد غموضاً في الشعرية. وقد عمد هامون إلى دراسة الشخصية على مستوى الدال والمدلول عبر ثلاثة محاور؛ هي: مدلول الشخصية، ومستويات وصف الشخصية، ودال الشخصية، حيث ينظر إلى الشخصية الروائية بوصفها وحدة دلالية قابلة للتحليل والوصف، أي من حيث هي دال ومدلول، وليس بوصفها معطىً ثابتاً وقبلياً.

كما أشار الناقد المترجم سعيد بنكراد في مقدمة ترجمته لكتاب هامون إلى أن مقولة «الشخصية» مقولة «سيكولوجية» تحيل إلى كائن حي يمكن التأكد من وجوده في الواقع، وعرض أن تكون مؤنسنة (قصر الشخصيات على الكائنات الحية؛ الإنسان خصوصاً) وعرض أن تكون مقولة خاصة بالأدب وحده، فقد نظر إليها في هذا السياق، على العكس من ذلك، بوصفها علامة، يصدق عليها ما يصدق على كل العلامات، وبعبارة أخرى فإن وظيفتها وظيفة خلافية، فهي كيان فارغ، أي: «بياض دلالي»، لا قيمة له إلا من خلال انتظامه داخل نسقٍ هو مصدر الدلالات فيها، ويميز هامون في ضوء ذلك بين ثلاثة أنماط من الشخصية: شخصيات مرجعية، وشخصيات إشارية، وشخصيات استذكارية.

فالشخصيات المرجعية تحيل إلى عوالم مألوفة ضمن نصوص الثقافة والتاريخ، كما هي شخصيات التاريخ والأساطير والوقائع الاجتماعية. أما الشخصيات الإشارية؛ فهي شخصيات ناطقة باسم المؤلف، تماماً مثل جوقة التراجيديا اليونانية القديمة. أما الشخصية الاستذكارية فيكمن دورها في ربط أجزاء العمل السردي بعضه ببعض، فوظيفتها تنظيمية وترابطية، وهي تنشط ذاكرة القارئ، وهي الإدارة التي تمتلك الخطاب من خلال ذاكرة تتحول إلى مرجعية داخلية.

ويحتل رولان بارت مكانة خاصة في السرديات الحديثة، وبشكل خاص في تحليله مفهوم «الشخصية الروائية»، فهو أولاً صاحب المقولة الخلافية الكبيرة أن «الشخصية» هي مجرد كائن ورقي ليست إلا. ويعرف بارت «الشخصية» بأنها نتاج عمل تأليفي، وأن هويتها موزعة في النص عبر الوصف والخصائص التي تستند إلى ما يتكرر في الحكي، ويرى بارت أنه لا يمكن أن يوجد أي سرد (مرواة) دون شخصيات أو على الأقل دون فواعل.

وخلال كتاباتي السردية عن الرواية كنت أتقصى دائماً المظاهر والتجليات المختلفة للشخصية الروائية وعلاقتها بالحدث أو الواقع.

ففي دراستي عن «الشخصية الروائية» عند الروائي غائب طعمة فرمان في كتابي «المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي» وجدت أن أغلب شخصيات غائب طعمة فرمان تكافئ عالم التجربة الواقعية التاريخية بمفهوم الناقد روبرت شولز الذي ذهب إلى أن علاقة «الشخصية» بالواقع تقع في ثلاثة أنماط: يمكن لعالم الرواية أن يكون أفضل من عالم التجربة، أو أسوأ منه، أو مساوياً له، ففي الملاحم وروايات الرومانس يكون عالم الرواية أفضل من عالم التجربة، وفي الروايات الساخرة (الساتاير) يكون عالم الرواية أسوأ من عالم التجربة. أما في الرواية الواقعية (عالم المحاكاة في التاريخ) فعالم الرواية يساوي عالم التجربة.

ولم يحاول غائب طعمة فرمان أن يخلق عالماً بطولياً، أو شخصية بطولية.

إن شخصيات غائب طعمة فرمان شخصيات متواضعة وواقعية، مثل شخصيات نجيب محفوظ؛ لأنها تحمل كثيراً من الخصائص المتناقضة، الإيجابية والسلبية على السواء؛ لأنها منتقاة من الواقع الاجتماعي، ولذا فهي تسقط كل الأوهام حول تفوق الشخصية الروائية وتساميها على عالم التجربة، كما نجد ذلك في أدب الملاحم أو نماذج معينة من «أدب الواقعية الاشتراكية».


«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما
TT

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

«فصول نسوية»... مسرحيات مونودرامية من داريو فو وفرنكا راما

وصف الناقد المسرحي البريطاني جيليان هانا «نصوص نسوية»، بأنها «تأدية للأدوار في المرآة». فهي مشاهد يومية تتحدث عن نساء وحيدات، وحزينات، وبسيطات وبائسات، وتتناول حياة المرأة في المجتمع الأوربي «المتطور» بنقد تهكمي جارح.

شريك النساء على المسرح، ونديمهن، قد يكون التليفون، أو الراديو، أو التلفزيون، أو متحدث خارج المسرح، أو جارة وهمية في نافذة مقابلة، كما الحال في «امرأة وحيدة». لكنهن مرحات، شجاعات، وواعيات وتتراوح انفعالاتهن بين السخرية المرة من المجتمع الأوروبي الرجولي المتبجح بالانفتاح، واليأس حد الانتحار بحز شريان الرسغ.

عرضت هذه المسرحيات النسوية القصيرة على مسرح «بلازينا ليبرتي» في إيطاليا سنة 1979 لأول مرة. أدت فرنكا راما الأدوار فيها بمفردها، وساعد زوجها درايو فو في كتابة النصوص وإعداد سينوغراف المسرح. مسرحيات تعالج الاضطهاد المزدوج، الاجتماعي - الجنسي والطبقي، المسلط على المرأة وحياة النساء بين المطبخ والأطفال والكنيسة والمصنع.

كسبت العروض شعبية كبيرة بين النساء والرجال في إيطاليا، وقدمت آنذاك في معظم المدن الإيطالية الكبيرة. وجرى عرضها في المصانع والمراكز الاجتماعية والنسوية، وخُصصت مداخيلها لدعم نشاط دور النساء المضطهدات.

قدمت راما أحد هذه العروض على سطح أحد مراكز الدفاع عن حقوق المرأة في روما. وبعد كل هذه العروض التحريضية، التي ألهمت النساء الإيطاليات، انتقلت العروض إلى ألمانيا وبريطانيا والسويد، وخصصت مداخيل العرض في فرنكفورت لدعم السجناء الإيطاليين بالسجون الألمانية.

وبالرغم من أن هذه المسرحيات تحمل عنوان «فصول نسوية»، لكن الرجل حاضر بقوة فيها، مرات قليلة من خلال وجوده مباشرة على المسرح، ومرات أخرى من خلال صوته على الهاتف أو من خلال دمية تمثله على الخشبة، ومرات لا حصر لها من خلال سطوته الاجتماعية والجنسية وقيوده المرئية وغير المرئية المفروضة على النساء.

تقول فرنكا راما إن المرأة، على المستوى العالمي، حققت الكثير على طريق تحررها الاجتماعي والاقتصادي، لكن تحررها الجنسي لا يزال يراوح في مكانه تقريباً. وترى أن التحرر الجنسي للمرأة يبقى طوباوياً بالنسبة للنساء، لأن الفروق الجنسانية بين الرجل والمرأة ليست تشريحية فحسب، وإنما ذهنية أيضاً. فهناك كثير من الممنوعات والخطوط الحمراء، بل وكثير من العقوبات الاجتماعية المذلة، التي تحول دون هذا التحرر.

إن مسرحية «باركني أبي فقد أثمت!»، ومسرحية «امرأة وحيدة»، اللتين شاركت فرنكا راما زوجها «المهرج» داريو فو في كتابتهما، هما من أفضل المونودرامات النسوية التي جرى تمثيلها في إيطاليا بالسبعينات. وأسهمت فرنكا راما في تمثيل كثير من هذه المسرحيات، خصوصاً «امرأة وحيدة»، التي جمعها الزوجان في كتاب واحد يحمل اسم «فصول نسوية» (أكثر من 10 مسرحيات وقطع نثرية).

عرضت مسرحية «امرأة وحيدة» على مسارح مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والسويد، بعد أن نشر المترجم ماجد الخطيب النص على الإنترنت. المرأة في النص وحيدة ويائسة محاصرة باضطهاد متعدد الأوجه، ولا أنيس لها غير جارتها في البلكون المقابل (على الطريقة الإيطالية) تدردش معها. إنها مضطهدة من قبل زوجها، الذي يقفل عليها باب الشقة خشية أن تخونه، وأخ زوجها المعاق الذي يتحرش بها جنسياً وتسكت عنه حفاظاً على عائلتها، وجار بعيد يتلصص عليها بالناظور، وآخر يعاكسها على الهاتف. هذا، فضلاً عن دائن يلاحق زوجها عند باب الشقة، ومراهق وقع في حبها ويحاول اقتحام البيت. ابنها لا يكف عن البكاء وزوجها لا يكف عن المهاتفة ليتأكد من وجودها في البيت وحموها يناديها بنفخات البوق. وهكذا مرة واحدة: ابنها يصرخ، وحموها يناديها بالبوق، والهاتف يرن، والدائن يطرق على الباب، والمتلصص يراقبها بالناظور، وزوجها يهدد بالعودة لتأديبها. لا يبقى أمامها غير التقاط بندقية زوجها المعلقة على الجدار.

ومسرحية «سامحني أبي فقد أثمت!» تتحدث عن أم يسارية معتدلة تضطر لخوض المظاهرات والمواجهات مع الشرطة بالشارع، في محاولة لإنقاذ ابنها المتطرف من خطر الموت والانجراف في تيار المخدرات والتطرف. يسوقها القدر، وهي ملاحقة من قبل رجل الأمن، إلى كنيسة ما تهرباً من المطاردة. وتضطر، خشية الوقوع بيد رجال الشرطة، إلى تقديم اعترافاتها أمام قس وهمي في كابينة الاعتراف، وتقسم أمامه «بماركس ولينين» ألا تقول غير الحقيقة.

صدر الكتاب عن دار «لارسه» في فرنسا بكتاب من القطع المتوسط في 98 صفحة، وهو ترجمة الكاتب العراقي المغترب ماجد الخطيب.


مجسّمات أنثوية جنائزية من مقابر البحرين الأثرية

5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
TT

مجسّمات أنثوية جنائزية من مقابر البحرين الأثرية

5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة
5 مجسمات جنائزية أنثوية من محفوظات «متحف البحرين الوطني» في المنامة

يحتفظ «متحف البحرين الوطني» في المنامة بمجسّمين أنثويين صغيرين من الطين المحروق، مصدرهما مقبرة تُعرف باسم «مقبرة سار الأثرية»، كما يحتفظ بقطعة مشابهة لهذين المجسمين، مصدرها مقبرة أثرية أخرى تُعرف بـ«مقبرة الشاخورة». تتبع هذه القطع الثلاث تقليداً واحداً جامعاً شكّل بداية لطراز تكوّن لاحقاً، وبرز خلال مجموعة من التماثيل صُنعت بتقنية الجص المصبوب، عُرفت باسم مجموعة «تماثيل النائحات».

كما كشفت أعمال التنقيب المستمرة في مدافن البحرين الأثرية عن مجموعة من التماثيل الطينية تتبع تقاليد جنائزية فنية عدة، كما تشهد الدراسات الخاصة بهذا الميراث الأثري.

تمثّل هذه القطع الثلاث طرازاً من هذه التقاليد التي تنوّعت على مدى قرون من الزمن. تتماثل هذه المجسّمات في تكوينها، كما في ملامحها، إلى حد كبير، وتختلف في بعض التفاصيل الثانوية. يمثّل كل من مجسّمَي «مقبرة سار» امرأة تقف منتصبة على قاعدة مستطيلة، رافعة يدها اليمنى في اتجاه صدرها، غير أن إحداهما تبدو أطول من الأخرى. في المقابل، يمثل «مجسّم الشاخورة» امرأة تقف في وضعية مشابهة، إلّا إنها تحضر في كتلة غابت عنها القاعدة المستطيلة.

تقع منطقة سار في المحافظة الشمالية، على بعد نحو 10 كيلومترات غرب العاصمة المنامة، وتحدّها من جهة الشرق منطقة الشاخورة التي تقع شمال غربي القرية التي تحمل اسمها. يتألّف الموقع الأثري في سار من مستوطنة، ومعبد، والقليل من تلال المدافن. تقع المقبرة على بعد نحو 500 متر إلى الجنوب من المستوطنة، وفيها تنفصل كل غرفة دفن عن جاراتها على غرار أقراص خلية النحل. عثرت بعثة محلية على المجسّمَين في أثناء حملة التنقيب التي أجرتها خلال عام 1991. خرج أحدهما من القبر الذي حمل رقم «44»، وخرج الآخر من قبر مجاور حمل رقم «47».

تقف المرأة الأكبر حجماً على قاعدة تأخذ شكل مكعّب مجرد، ويبلغ طولها مع هذه القاعدة 14 سنتيمتراً. ترتدي هذه السيدة، كما يبدو، ثوباً طويلاً يحجب تفاصيل جسدها بشكل كامل، ومن خلف هذا الثوب، يبرز نتوء الساقين المنتصبتين على قدمين غابت ملامحهما. الذراعان ملتصقتان بالصدر. تنثني الذراع اليمنى، وترتفع يدها وتلتصق بالصدر. تنحني الذراع اليسرى انحناءة طفيفة، وتلتصق يدها بأعلى الفخذ. يرتفع الرأس فوق عنق ناتئة طويلة، وتكلّله «طَرْحَة» عريضة ينسدل طرفاها على الكتفين بشكل متواز. العينان دائريتان ضخمتان ناتئتان، يتوسط كل منهما بؤبؤ يحل على شكل نقطة غائرة. الأنف كتلة مثلثة تستقر بين العينين، والفم غائب وممحو بشكل كلّي. الأذنان كبيرتان، توازيان في ضخامتهما حجم العينين، وتتميزان بأقراط كبيرة تتدلى منهما. في هذه العلياء، تقف هذه السيدة في صمت مطبق، وتحدّق في المجهول.

تحضر نظيرة هذه المرأة في كتلة مشابهة، وتقف في وضعية مماثلة فوق قاعدة مستطيلة بسيطة. ساقاها قصيرتان للغاية قياساً بحجم النصف الأعلى من جسدها، وعناصر بدنها ممحوة. الذراع اليمنى مثنية نحو الأعلى، واليسرى متدلية، مع انحناءة بسيطة عند الكوع. العنق طويلة، وهي أشبه بوصلة تمتدّ بين الرأس والجسد، وتشكل قاعدة للوجه البيضاوي. تتكرر ملامح هذا الوجه وسماته الخاصة المتمثلة في العينين الدائريتين الشاسعتين والأذنين البيضاوين الضخمتين المزينتين بقرطين متدليين. يحيط بهذا الوجه وشاح يحجب الشعر، ويتدلى من خلف الكتفين.

خرج المجسم الثالث كما أشرنا من مقبرة أثرية تقع شمال غربي قرية الشاخورة، على بعد نحو 700 متر جنوب شارع «البديع»، شمال المنامة، ومصدره قبر حمل الرقم «12» في التل الذي حمل الرقم «1». يتكرّر المثال الجامع في هذه القطعة، ويظهر الاختلاف الثانوي في بنية العنق التي بدت هنا عريضة، والاتساع العجيب للعينين اللتين اتخذتا شكلاً بيضاوياً. تعود هذه القطع الأثرية الثلاث إلى الفترة الممتدة من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول للميلاد، وتتبنّى تقليداً فنياً مستقلاً لم ينتشر انتشاراً واسعاً كما يبدو؛ إذ لا نجد ما يماثلها في الميراث الجنائزي الذي يعود إلى تلك الحقبة.

مهّد هذا التقليد لنشوء طراز متطوّر، تمثل في ظهور مجسمات جنائزية أكبر حجماً وأكثر إتقاناً، صُنعت بتقنية الجص المصبوب والمطلي بالألوان. يجسّد كلّ من هذه التماثيل امرأة تثني ذراعيها، وتمسك بيديها خصلات شعرها المتدلية على كتفيها، في حركة تعبّر عن النحيب. وصلت إلينا مجسّمات عدة تختزل هذا المثال، ودخلت «متحف البحرين الوطني» في المنامة، أشهرها مجسّم خرج من مقبرة تُعرف باسم «المقشع»، نسبة إلى قرية تقع غرب المنامة، وتبعد عنها بنحو 5 كيلومترات، وتطل على شمال شارع «البديع».

يبلغ طول هذا المجسم 24 سنتيمتراً، وتشابهه قطع عدة من الحجم نفسه، تتبنّى هذا الطراز. يبرز الطابع الهلنستي بقوة في هذا النتاج، ويظهر في الثوب الإغريقي التقليدي، المطلي بخطوط سوداء وحمراء تُحدّد ثناياه عند حدود الصدر والخصر وأسفل الساقين. القامة منتصبة ومستقيمة، ونسبها التشريحية واقعية. ملامح رأس الباكية واضحة، وعيناها محددتان باللون الأسود. خصل الشعر مطلية كذلك بهذا اللون، ومنها خصلتان طويلتان تحدّان الوجنتين وتنسدلان على الصدر.

يحضر هذا النموذج بشكل مغاير في قطعة دائرية عُثر عليها في تل من تلال «مقبرة سار»، دخلت بدورها «متحف البحرين الوطني». تغيب القامة التقليدية المستقيمة، ويحضر النصف الأعلى منها وسط قرص قطره 13.6 سنتيمتراً، حدّد إطاره الناتئ باللون الأحمر. تطلّ المرأة النادبة، وترتفع خصلتا شعرها الطويلتان التقليديتان، وتشكلان نصف دائرة حول وجهها. تحدّق الباكية بعينيها المكحّلتين عبر هذه النافذة، وتندب صاحب القبر الذي ترافقه في مرقده الأرضي.

تشكّل هذه المجسّمات طرازاً من طُرز النحت والنقش الجنائزية المتعدّدة التي راجت في البحرين خلال الحقبة الطويلة التي حملت فيها الجزيرة اسم «تايلوس» اليوناني، وهو الاسم الذي أُطلق عليها عند استكشاف أرخبيل البحرين. يقابل هذا الطراز تقليد آخر وصلت منه عشرات الأمثلة، يتمثّل في شواهد القبور التي عُثر عليها في كثير من الأماكن خلال العقود الأخيرة في أثناء حملات المسح والتنقيب في مقابر «تايلوس» الحافلة بالمفاجآت الأثرية.


بودلير: جنون الشعر أو شعر الجنون

بودلير
بودلير
TT

بودلير: جنون الشعر أو شعر الجنون

بودلير
بودلير

يقول بعض الذين تعرفوا عليه شخصياً في تلك الفترة بأنه كان يلبس ثياباً نظيفة عموماً، ولكن قديمة شبه بالية، ومنظره الخارجي كان يوحي بالإهمال والهجران. (وهذا ما توحي به صوره أصلاً). كان بودلير يبدو وكأنه يشبه بيتاً متصدعاً لم يُسكن منذ زمن طويل. كان يبدو عليه وكأنه مُدمَّر من الداخل. وهو بالفعل مُدمّر. لقد استسلم بودلير لتقادير الحياة وألقى سلاحه منذ البداية. كانت الصدمة أكبر منه. لماذا تزوجت أمه بعد وفاة والده؟ لماذا لم تبق له وحده؟ لطالما عاتبها بكل حرقة، بكل مرارة: من كان لها ابن مثلي لا تتزوج! بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم مشبوهاً في نظر شارل بودلير. أصبح العالم ملغوماً، أو شبه ملغوم. بدءاً من تلك اللحظة عرف أن الشر موجود في أحشاء العالم كالدودة في قلب الثمرة.

لكن هذه التجربة المريرة مع الحياة، هذه الضربة الساحقة الماحقة، كانت مفيدة جداً وذات مردود هائل من الناحية الشعرية. وبالتالي، فرب ضارة نافعة. فإذا لم يكن يستطيع أن يرضي أمه بأن يصبح موظفاً كبيراً في سلك الديبلوماسية الفرنسية أو سلك القضاء أو سوى ذلك، فإنه على الأقل استطاع أن يرضي آلهة الشعر وربات الجمال... يضاف إلى ذلك أن الانحطاط في مهاوي الحياة إلى الدرك الأسفل يتيح لك أن تتعرف على الوجه الآخر للوجود: قفا الوجود. إنه يتيح لك أن تعانق الوجه السلبي، الوجه المظلم للأشياء. كان النزول إلى الطبقات السفلية والدهاليز المعتمة شيئاً ضرورياً جداً لكي يصبح بودلير أكبر شاعر في عصره وربما في كل العصور. ويقال بأن أمه لم تعرف قيمته إلا بعد موته وانفجار شهرته الأسطورية. عندئذ بكت وتحسرت، حيث لم يعد ينفع التحسر والندم... صحيح أن بودلير حاول بكل الوسائل أن ينجح ويحقق الرفاهية المادية والوجاهات الاجتماعية كبقية البشر. ولكنه في كل مرة كان ينتكس ويفشل. إنه كسيزيف الذي يرفع الصخرة من أسفل الوادي لكي يضعها على قمة الجبل. ولكن ما أن يصل بها إلى القمة تقريباً حتى تتدحرج وتسقط، وهكذا دواليك... عندئذ عرف بودلير أنه فاشل لا محالة، وراح يتحمل مسؤوليته لأول مرة كشخص فاشل، متسكع، يعيش على هامش المجتمع. بدءاً من تلك اللحظة راح بودلير يصبح الشاعر الأساسي للحداثة الفرنسية وربما العالمية. راح يصبح شاعر التمزقات والتناقضات الحادة التي لا حل لها (على الأقل مؤقتاً!) إلا بقصيدة جديدة. وقد جرّب الانتحار أكثر من مرة ولكنه لم ينجح. حتى في الانتحار فشل! راح يصبح شاعر الخطيئة الأصلية التي تلاحق الإنسان المسيحي من المهد إلى اللحد. ولكن في حالته خطيئة بلا خلاص ولا غفران. كل ديوانه «أزهار الشر» ما هو إلا مرآة لروحه، أو سيرة ذاتية مقنَّعة لشخصه. حياة بودلير كلها كانت تمزقاً أو تذبذباً بين السماء/ والأرض، بين المثال الأعلى/ والحضيض، بين الله/ والشيطان... هذا التوتر الذي لا يهدأ بين المتناقضات القاتلة، هذا النزول إلى المهاوي السحيقة، هو الذي جعل من بودلير أعمق شاعر في تاريخ الآداب الفرنسية. يمكنك أن تتهم بودلير بكل شيء ما عدا أنه شاعر سطحي مثلاً! الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعرف تقريباً إلا الجانب الفرح والمبتسم من الحياة. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعش تجارب مزلزلة في معمعة الوجود: أقصد تجارب قصوى تصل به إلى حافة الهاوية. ولكن نحن في حضرة أشخاص من نوع آخر. نحن في حضرة المتنبي أو المعري أو دانتي أو شكسبير، إلخ... الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً. هنيئاً له. مبروك وألف مبروك. ولكن نحن في حضرة الشاعر غير السطحي: أي في حضرة أشخاص من نوعية إدغار آلان بو أو دوستوفيسكي أو ريلكه أو بعض المجانين الآخرين... الشاعر غير السطحي (لماذا لا نقول الشاعر العميق؟) هو ذلك الشخص الذي عاش إلى جانب الحنين والأنين لسنوات طويلة، هناك حيث الأعماق السفلية، هناك حيث الدهاليز والعتمات والمطبات. وحيث الوحدة والهجران أيضاً. الشاعر الذي نقصده هنا شخص مهجور أبدياً، سرمدياً، أنطولوجياً. بعدئذ ينفجر الشعر، يتدفق الشعر. كل شيء له ثمن. ينبغي أن تموت ألف موتة لكي تكتب قصيدة واحدة لها معنى. الشاعر السعيد، الناجح، المتفوق، ليس شاعراً بالمعنى البودليري للكلمة: إنه فقط يطرب الناس أو يدغدغ المشاعر والحواس السطحية، ويحظى بشعبية هائلة. وتحبه الفتيات والمراهقون والسيدات الأرستقراطيات... هذا لا يعني بالطبع أنه عديم القيمة، أبداً لا. ولكن لا يهمنا أمره هنا. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل. نحن لا نشتم أحداً. نحن لا نهتم هنا إلا بالشعراء السيزيفيين: شعراء الأعماق والمهاوي السحيقة. نحن نريد أن نقيم علاقة بين «الشعر والعمق» كما يقول الناقد الفرنسي جان بيير ريشار في كتاب مشهور. كل ما نريد قوله هو التالي: الشاعر الذي لا ينزل إلى الأعماق السفلية، ويخاطر، ويغامر، ويقذف بنفسه في فوهة المجهول ليس شاعراً بالمعنى الذي نقصده. كان بودلير يشعر بالضجر والفشل وسأم باريس. كان يشعر بفراغ العالم وعبثية الأشياء. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح شاعراً. بدءاً من اللحظة التي يحصل فيها تناقض حاد بينك وبين العالم، بدءاً من اللحظة التي يصبح فيها العالم إشكالياً في نظرك، فإن ذلك يعني أنك قد تصبح شاعراً، أو فناناً، أو فيلسوفاً، أو مجنوناً... أول شرط من شروط الإبداع هو اختلال الثقة بينك وبين العالم، هو حصول شرخ عميق بينك وبين نظام الأشياء. لماذا يوجد الشر في العالم؟ لماذا تزوجت أمه؟ لماذا لا يوجد إلا الخير والصفاء والنقاء والشفافية في هذا العالم؟ لماذا نُفجع بأنفسنا، بأحبتنا الذين غابوا؟ لماذا؟ لماذا؟ ربما لهذا السبب لا يوجد شاعر كبير واحد في التاريخ كان متصالحاً مع نفسه أو مجتمعه أو زمنه:

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم

ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن الفلاسفة والمفكرين الكبار. بالطبع يوجد في كل العصور عشرات الشعراء والكتاب الذين ينعمون بالحياة والثروات والوجاهات ولا يشعرون بأي مشكلة مع أي شيء كان. عن هؤلاء لا نتحدث هنا، ولا يهمنا أمرهم في قليل أو كثير. نحن نتحدث هنا فقط عن الشعراء الإشكاليين: أي الشعراء الذين فُجعوا بأنفسهم، الذين أصيبوا في الصميم منذ طفولتهم الأولى. نحن نتحدث عن كتّاب من نوعية بودلير، أو رامبو، أو فرلين، أو نيتشه، أو هولدرلين، إلخ... ذلك أن الصراع الداخلي مع الذات لا يقل خطراً عن الحروب العالمية أو الخارجية. حرب الداخل أخطر من حرب الخارج لأن العدو يصبح منك وفيك. وبودلير عاش هذا الصراع المحتدم ومشى به إلى نهاياته. هل كان بودلير شيزوفرينياً يعاني من انفصام الشخصية؟ بالطبع، كمعظم الكتَّاب الكبار. كل عقد الأرض، كل أوجاع الأرض، كانت موجودة فيه. ومن ذلك نتجت القصائد العبقرية! يكفي أن نفتح ديوانه على أي صفحة لكي نجد آثار هذه المعركة أو أشلاءها بادية للعيان:

أنا الطعنة والسكين

أنا الصفعة والخدان

أنا العجلة والعضوان

أنا الضحية والجلاد

أنا لَقلبي مصّاص الدم!

بودلير جلاد نفسه وليس في حاجة إلى شخص آخر لكي يجلده. لنقل بأنه استبطن العدوان الخارجي (القدر، الطفولة، زوج الأم، ضربات الغدر...) إلى درجة أنه أصبح قضية داخلية. لم يعد بودلير في حاجة إلى عدو خارجي لكي يعذبه. أصبح هو يعذب نفسه بنفسه. زوج الأم، هذا العدو المطلق، تحول وحشاً أخطبوطياً لا خلاص منه حتى ولو مات!

لكي يتخلَّص من نفسه، من مرضه الداخلي الذي يقضّ مضجعه، كان دوستويفسكي يتمنى أحياناً لو أن الأرض انشقَّت وابتلعته. وأما نيتشه فكان يتمنى لو يحصل زلزال هائل يدمّر الأرض ويخسفه معها. فيما يخص بودلير، نلاحظ أن شهوته كانت تتمثل في حصول إعصار كاسح يجرفه مع السيول:

أيها السيل لماذا لا تجرفني في انهياراتك؟ الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً


العالم والفيلسوف... والمثقف والشاعر

أفلاطون
أفلاطون
TT

العالم والفيلسوف... والمثقف والشاعر

أفلاطون
أفلاطون

لو كان الحديث عن الأزمنة القديمة لأضفت الساحر والكاهن لأضفت إلى العنوان، غير أن حديثنا عن الأزمنة المتأخرة نسبياً. ولربما كان حقيقاً أن نذكر الفقيه، لكنه سيجعل العنوان مزدحماً فوق ازدحامه. والغرض هنا هو تحديد عمل كل واحد من هؤلاء الأربعة، فهم مَن يصنعون الفكر والحضارات. هؤلاء الفرسان الأربعة جديرون بأن نميّز بعضهم عن بعض ليتضح دور كل واحد على حدة.

إنشتاين

كان ابن رشيد فيلسوفاً وفقيهاً، لكنني أستطيع أن أمسك بابن رشد الفيلسوف وهو يتسلل إلى منطقة ابن رشد الفقيه عندما أنظر في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهو في الفقه المقارن، فأجده يذكر الآراء المختلفة في مسألة، ثم يقول: «وسبب اختلافهم هو كذا وكذا». الفقيه لا يسأل أبداً عن السبب، بل جُلّ همّه أن ينصر القول الراجح عنده، أو يلوذ بالمذهب. الفيلسوف هو المشغول بـ«لماذا؟» وهذا ميدان عمله.

علامة أخرى على الفيلسوف أنه ذلك الشخص الذي يقول قولاً أصيلاً. عندما تنظر في كل أعمال فولتير، فلن تجد قولاً أصيلاً واحداً. هو مقلّد لفيلسوفين إنجليزيين جون لوك وإسحاق نيوتن ويتابعهما في تجربتيهما التي أصبحت علامة على الفلسفة الإنجليزية، ولم يكن يميل إلى الفلسفة العقلية لابن بلده ديكارت. هو نظير توماس هوبز الإنجليزي العازف عن تجريبية قومه، الميّال إلى عقلانية ديكارت.

لا أرى فولتير فيلسوفاً، وكم له من الأحكام المتهورة، كاتهامه أفلاطون وأرسطو بأنهما كانا لاهوتيين! لكن أين سنصنّف هذا الرجل الذي خصّه ويل ديورانت بمجلد في قصة الحضارة، سماه «عصر فولتير»؟ إنه أقرب إلى شخصية المثقف التي هي دون منزلة الفيلسوف، وشهرته بسبب نشاطه الاجتماعي ومعاركه الشجاعة ضد اللاهوتيين المتعصبين، وقد كان أحد المؤثرين في الثورة الفرنسية. هذه من وظائف المثقف، لا الفيلسوف، أنه قائد الجماهير وصاحب المعارك الفكرية التي لا تنتهي. الفيلسوف لا يفعل شيئاً من هذا ولا يملك هذه الحرارة، ولا الحماسة للقتال.

فولتير

من جهة أخرى، العالم هو ذلك الباحث المشغول بالجزئي، معنيّ بدراسة الطبيعة، وقد يحفظ قوانين الحركة عند نيوتن والنظرية النسبية عند أينشتاين، لكنه لا يملك رؤية شمولية عن العالم. المفهوم الكلّي عنده مفهوم ميتافيزيقي لا يمكن التأكد من صحته بيقين، ولذلك لا ينبغي الانشغال به، لأن مثل هذه القضايا غير قابلة للتحقق وغير قابلة للتكذيب. من هنا سعى العلماء الفلاسفة، أعني الوضعيين والبراغماتيين وفلاسفة اللغة في القرن العشرين، إلى تقليص مساحة الفلسفة بهدم مصطلحاتها الميتافيزيقية، وجعلوها مجرد خادمة للعلم الحديث، ومنهم من دعا صراحةً إلى قتلها، أي قتل الميتافيزيقا، رغم أنه قد اتضح أن الجميع ميتافيزيقيون، ومن ضمنهم ألبرت أينشتاين.

قد يقال إن نيوتن لم يكن كالعلماء في عصرنا، فما كتبه في فلسفة الدين أكثر بكثير مما كتبه في الفيزياء، حسب شهادة ديورانت. تفسير هذا هو أن نيوتن كان عالماً وفيلسوفاً أيضاً (بالمعنى الكلاسيكي) وينبغي أن نتذكر أن عنوان كتابه الأشهر هو «الأصول الرياضية لفلسفة الطبيعة» وهناك أعلن عن المنهج الجديد الذي يستخدم الرياضيات لدراسة الطبيعة ويُسقط فلسفة الطبيعة الأرسطية.

كل عالم يتجاوز الجزئي هو في حقيقة أمره يعلن أنه فيلسوف بالإضافة إلى كونه عالماً، وكل الثورة العلمية التي أسقطت العلم القديم كانت تنطلق من موقف فلسفي واضح. لكننا نستطيع أن نميّز العالم المشغول بالمحسوس والفيلسوف الذي يدرس الرياضيات لكي تدفع بالعقل ليتسامى عن العالم المحسوس فيرتقي إلى عالم المُثل والمعقولات.

وثمة فرق مهم يذكره أفلاطون حين يصف الفلاسفة بأنهم من يعشقون الحقيقة، يعشقونها من كل اتجاه وليس عشقاً في اتجاه واحد، على خلاف الشاعر الذي طرده أفلاطون من جمهوريته لأنه يُبعد الناس عن الحقيقة، وهذا تضليل من وجهة نظر الحكيم، والفلسفة عنده أسمى من كل فاعلية فكرية، فلا يقارنها بالدراسات التجريبية أو الأدب أو التاريخ أو الشعر.

هناك فلاسفة استخدموا النظم لتقييد أفكار فلسفية مثل قصيدة «في الطبيعة» لبارمنيدس، حيث يذكر ما يعتقد أنها حقيقة الوجود المطلقة على نحو دوغمائي يقيني. هذا ليس بشعر، وبارمنيدس ليس بشاعر. ولكي نتصور الشاعر تصوراً واضحاً سنقارنه بالفيلسوف، فهو يزعم أنه صاحب فكر، وهذا ليس موضع نزاع، لكن غاية الفيلسوف تختلف عن غاية الشاعر. فالأول مشغول بتمييز الحقيقة عن الزيف، ولا توجد لديه غايات أخرى. بينما الشاعر، مهما حاول المحاكاة، لا تشغله الحقيقة، بل ما وراء الحقيقة. إنه تلك النفس التواقة للعذاب الذي يأتي بالإبداع:

فشبّ بنو ليلى وشبّ بنو ابنها

وأعلاق ليلى في فؤادي كما هي

صورة مؤلمة للغاية يُبكينا بها ويستميل تعاطفنا، لكنّ ظاهرها غير باطنها. فالشاعر بحاجة أبديّة إلى قصة حب تعذبه أو قضية أكبر تشغل باله لكي يبدع، ولو أعطته المعشوقة ما يريد لوقع في ورطة ولجفّ الإبداع. الشعراء يشبهون الفراشات الراقصة حول النار، تتلذذ بالاحتراق. كل الأربعة يستخدم الخيال، بمن فيهم العالم، لكنّ خيال الشاعر جامح أشد الجموح ولا يمكن قياس مدى إبداعه إلا بالشعور وحده، أعني الشعور المتغير من شخص لآخر، مهما حاولت كتب الأدب أن تعرّف الشعر والإبداع فإنها لن تحقق نجاحاً كبيراً، لأنه كالتصوف يُحسّ ولا يوصَف.

هكذا نشأت العداوة بين الشاعر والفيلسوف، فطردهم أفلاطون من جمهوريته الموعودة. تصوير شعراء الملاحم للآلهة بشكل حسّي شهوانيّ أغضب أفلاطون التقيّ، وبقيت الخصومة حتى أعادهم هايدغر من جديد وخلق نوعاً من الحوار البنّاء بين الاثنين، وحين جعل الشاعر كالفيلسوف كاشفاً عن الوجود، كشفاً لا يعني أنهم سيوصلوننا إلى حقيقة واحدة، بل إلى حقائق بعدد المتأملين.

* كاتب سعودي


«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»

«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»
TT

«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»

«شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»

صدر حديثاً عن «دار التكوين» كتاب «شرائع الشرق القديم: من حمورابي إلى موسى»، وهو من تأليف مجموعة من المؤلّفين، وترجمة أسامة سراس، وتحرير ومراجعة فراس السوّاح، ويضم النصوص الكاملة للشرائع البابلية والسومريّة والحثيّة.

ومما جاء في تقديمه: «هذا الكتاب ذو أهمية كبيرة؛ لأنه يعود إلى أولى الشرائع المكتوبة في تاريخ البشرية؛ من حمورابي إلى موسى، التي وضعت لتنظيم العلاقات بين الأفراد على أساس من العدل والمساواة. كما تُعدّ الهيئات القضائية وتنظيماتها في حواضر الشرق القديم أوّل محاولة لتنظيم المؤسسات الحقوقية في مجتمع المدينة الذي أخذ شكله الأول في هذه المنطقة».


مجلة «المسرح» الإماراتية... مقالات وحوارات ومتابعات

TT

مجلة «المسرح» الإماراتية... مقالات وحوارات ومتابعات

صدر حديثاً عن «دائرة الثقافة» في الشارقة العدد الجديد الـ55 (أبريل/ نيسان 2024) من مجلة «المسرح» الشهرية، التي تضمنت مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات. ففي باب «مدخل» نشرت المجلة إفادات لعدد من الفنانين الإماراتيين حول مسيرة وأثر «مهرجان الشارقة للمسرح المدرسي»، لمناسبة دورته الحادية عشرة التي تنطلق في النصف الثاني من شهر أبريل، وتستمر إلى النصف الثاني من شهر مايو (أيار) المقبل.

كما تضمن الباب تغطية لفعاليات الدورة الثالثة والثلاثين من «أيام الشارقة المسرحية»، التي أقيمت في 2 مارس (آذار) 2024 وحتى التاسع منه.

في «قراءات» كتبت منار خالد عن مسرحية «جريمة بيضاء»؛ أحدث عروض المخرج المصري سامح بسيوني، وتناول حسام مسعدي «آخر البحر» التي قدمها أخيراً المخرج التونسي فاضل الجعايبي، وقرأ محمد الكشو «بعض الأشياء» للمخرج الإماراتي محمد جمعة، بينما حلّل عبد الكريم قادري «استراحة المهرجين» للمخرج الجزائري وحيد عاشور، وكتب سامر إسماعيل عن «المفتش العام» للمخرج السوري فؤاد العلي، وكتبت ميسون علي عن «تكنزا... قصة تودة» للمخرج المغربي أمين ناسور، وتناولت سعيدة شريف «كلام» للمخرج المغربي بوسلهام الضعيف... وتضمن الباب كثيراً من القراءات الأخرى.

في «حوار» نشرت المجلة مقابلة أجراها الحسام محيي الدين مع المخرج والباحث المسرحي اللبناني جان داود، تطرقت إلى بداياته وتجاربه في التنظير للمسرح وتأهيل وتدريب ممثليه، وتجربته الأكاديمية. وفي «أسفار» تحدث فريد أمعضشو عن رحلته إلى «مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي»، الذي نُظمت دورته السابعة في النصف الثاني من فبراير (شباط) الماضي.

أما في «أفق» فتطرقت آنا عكاش إلى تجربة المخرج السوري أمجد فضة في إخراج مسرحية «اللعبة الخطرة» بوساطة فريق تمثيلي من المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق.

وفي «رسائل» كتبت إيمان الصامت من منظور سينوغرافي عن عروض الدورة المنقضية من «مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي»، وتناول رابح هوادف تجربة مسرح الجنوب في الجزائر، ورصد شريف الشافعي أجواء المسرح خلال شهر رمضان في العاصمة المصرية، وكتب عامر عبد الله عن الدورة الأولى من «مهرجان مندوس لمسرح الشارع» في سلطنة عمان، ونشر كريم رشيد مقالاَ عن مقاربة سويدية جديدة لمسرحية «روميو وجولييت».

في «مطالعات» كتبت هادية عبد الفتاح عن كتاب «تطور فنون الأداء في مصر...» للباحثة والمخرجة نورا أمين الذي صدر أخيراً باللغة الإنجليزية. وفي «متابعات» نشرت المجلة حوارات قصيرة مع المخرج التونسي فاضل الجعايبي، والمخرج الفلسطيني بشار مرقص، والكاتب المغربي المسكيني الصغير.


السورياليون والحرب

لويس أراغون
لويس أراغون
TT

السورياليون والحرب

لويس أراغون
لويس أراغون

منذ بروزها في مطلع العشرينات من القرن الماضي، أعلنت الحركة السوريالية، عبر بياناتها النظرية ونصوصها الشعرية والأدبية وأعمالها الفنية، عن معاداتها للحرب، مُدينةً المجازر الفظيعة التي ارتكبت خلال الحرب الكونية الأولى، وما خلفته هذه الحرب من دمار وخراب عمراني وأخلاقي وإنساني. ويعود ذلك إلى أن أغلب مناصري هذه الحركة كانوا قد جُنّدوا وأرسلوا إلى جبهات القتال ليعيشوا الموت في كل ساعة، وفي كل يوم. لذا لم يحتفظوا من تلك الحرب «القذرة» إلا بذكريات سيئة. ورغم أنه نال وساماً تكريماً لشجاعته، فإن لوي أراغون كتب يقول: «أنا أنتسب إلى صفّ المجندين سنة 1917. أقول هنا، وربما يكون لي طموح في أن أحدث من خلال هذه الكلمات مُنافسة عنيفة لدى كل المُجندين، أقول هنا بأنني لن أرتدي الزيّ العسكريّ الفرنسيّ، ولن أضع الشارة التي وضعوها على كتفيّ قبل نحو 11 عاماً، ولن أكون خادماً للضباط، وأرفض أن أحيي تلك الكائنات المتوحشة ورتبها وقبّعاتها الملونة من نوع (غاسلار)». وفي مكان آخر، كتب لوي أراغون يقول: «سيكون لي الشرف في هذا الكتاب، وفي هذا المكان، أن أقول وأنا بكامل وعيي وبكامل مداركي العقلية، بأني أدوس على الجيش الفرنسي بكلّ أركانه». ولم يكن السورياليون الآخرون من أمثال أندريه بروتون وبول إيلوار وفيليب سوبو وبنجامين بيريه وغيرهم يختلفون عن لوي أراغون. وجميعهم كانوا يُدينون وحشيّة الحرب وعنفها واستخفافها بالحياة البشرية. ومجدّداً رفض صديقه جاك فاشي للحرب، ومُعاداته لكل ما يمتّ إليها بصلة، كتب أندريه بروتون يقول: «أمام أهوال وفظائع هذه الأزمنة، التي لم أر حولي ما يعارضها غير الصمت والهمسات، بدا لي هو الوحيد (يقصد جاك فاشي) الذي كان سليماً ومُعافى تماماً، والوحيد الذي أعدّ الدرعَ الذي يحميه من كل عدوى». ومُنتقداً غيوم أبولينير الذي مجّد الحرب قائلاً: «يا إلهي كم هي جميلة الحرب»، كتب أندريه بروتون يقول: «أعتقد أن الشعر لديه (أي لدى أبولينير) كان عاجزاً عن تجاوز المحنة، وأكثر أحداث العصر شناعة نجدها مُغيّبة هنا». وعندما اندلعت الحرب الكونية الثانية، لم يغفر أندريه بروتون للشعراء الذي انخرطوا في «الجوقة الوطنية»، ووجّه لهم انتقادات لاذعة، وناعتاً إياهم بـ«الجبناء» الذين يخونون الكلمة، ويهللون لزمن «تكميم الأفواه والعيون». ولمّا احتل الجيش الألماني بلاده سنة 1942، غادرها أندريه بروتون ولم يعد إليها إلا سنة 1947. أما رموز السوريالية الآخرون فقد انخرطوا في حركة المقاومة ضد النازية وساندوها،

بول إيلوار

سواء بالكلمة مثلما فعل إيلوار وأراغون، أو بالسلاح مثلما فعل رينيه شار الذي من وحيها كتب في أثره المعروف «أوراق هيبنوس»: «لا يُمكن للشاعر أن يظل لزمن طويل داخل سجن الكلمة. عليه أن يلتفّ بنفسه في دموع جديدة وأن يدفع أمره مسافة أبعد».

وخلافاً للدادئية التي نشأت في مدينة زيوريخ السويسرية سنة 1916، والتي أعلنت في بياناتها عن انسلاخها الكلي من عالم السياسة، أكدت الحركة السوريالية التي ولدت من رحمها أنها تتبنى «المادية التاريخية» لكارل ماركس لأنها «تحرّض على الثورة». وأضاف بروتون قائلاً بأنها -أي الحركة السوريالية- تستند إلى كل من رامبو وماركس، وإلى الثورة والشعر من دون أن تنفصل لا عن هذه ولا عن تلك، لأن الحرية لها «لون الإنسان».

لويس أراغون

واعتماداً على بيانهم التأسيسي، كان السورياليون يُدينون ما كانوا يُسمّونه بـ«الحروب الظالمة»، أي الحروب التي تخوضها الإمبراطوريات الاستعمارية والإمبريالية بهدف السيطرة على البلدان الضعيفة واستغلال ثرواتها، وتزوير تاريخها وهويتها. إلاّ أنهم كانوا يُظهرون تعاطفاً مع الحروب التحريرية، ومع ثورات وانتفاضات الشعوب ضد الاستبداد والظلم مثل حرب المغاربة بقيادة عبد الكريم الخطابي ضد الجيشين الإسباني والفرنسي. وفي شهر يوليو (تموز) 1925، أمضى السورياليون مع مجموعة «وضوح»، ومجموعة «فلسفة»، بياناً بعنوان «نداء للعمال المثقفين هل أنتم مع الحرب أو ضدها؟»، وفيه جاء ما يلي: «نُعلن مرة أخرى عن حقّ الشعوب، كل الشعوب، بقطع النظر عن جنسيتها، في تقرير مصيرها». وبعد مرور بضعة أسابيع على البيان المذكور، ازداد السورياليون راديكاليةً في توجهاتهم السياسية، وأصدروا بياناً بعنوان: «الثورة أولاً ودائماً»، وفيه هاجموا «القومية الشوفينية» باعتبارها «هيستيريا جماعية، جوفاء، وقاتلة». أما الوطن فهو «المفهوم الأكثر حيوانية، والأقل فلسفة». ومُخاطبين قادة الإمبريالية، أضاف السورياليون في بيانهم المذكور ما يلي: «نحن نُمثّلُ ثورة الفكر، ونعتبر الثورة الدموية عمليّة انتقام لا مفرّ منها للفكر المُهان بسبب أعمالكم الدنيئة. ونحن لسنا طوباويين، وهذه الثورة نحن لا نفهمها ولا نمارسها إلا في شكلها الاجتماعي... إن فكرة الثورة هي الحماية الأفضل والأكثر نجاعة للفرد». وفي بياناتهم اللاحقة، خصوصاً تلك التي صدرت في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي، أكد السورياليون مرة أخرى أنهم لا يساندون إلا ما سمّوه بـ«الحروب الثورية»، وأيضاً الانتفاضات الشعبية الكبيرة التي تطيح بالأنظمة الفاسدة والمستبدة مثل الثورة الفرنسية، وكومونة باريس، والثورة المكسيكية، والحروب التي تشنها الشعوب من أجل حريتها واستقلالها، والحرب الأهلية الإسبانية التي كتب عنها أندريه بروتون يقول بأنها «جسّدت كل الطموحات من أجل إنسانية أفضل» لأنها كانت صراعاً عنيفاً بين القوى الظلامية، وبين المتطلعين إلى الحرية في معناها العميق والحقيقي. وفي بيان صدر سنة 1936، أي بعد أن استولى الفاشيون والنازيون على السلطة في كل من إيطاليا وألمانيا، جاء ما يلي: «نحن من أجل عالم موحد تماماً، من دون أن تكون لهذا العالم صلة أو قاسم مُشترك مع هذا التحالف البوليسي ضد العدو رقم1. نحن ضدّ الخرق الورقيّة، وضدّ نثر عبيد الدواوين القنصلية. ونحن نعتقد أن النصوص التي كتبت حول البساط الأخضر لا تربط الناس إلاّ بأجسادهم التي تقاوم». وفي الخمسينات من القرن الماضي، لم يتردد السورياليون في إدانة الحرب التي شنها الجيش الفرنسي على الحركات الوطنية في فيتنام، وفي الجزائر... غير أن السورياليين لا يفكرون في الحروب إلاّ للإعلان عنها، إلاّ أنها لم تكن موحية لهم على المستوى الإبداعي والفني. لذا لم يكتبوا عنها لا قصائد ولا روايات. مع ذلك يمكن أن نجد آثاراً لها في «الموت للأبقار في ميدان الشرف» لبنجامين بيريه، وفي «الشرفة في الغابة» لغوليان غراك، وفي «الشيوعيون» للوي أراغون. عند اندلاع الحرب الكونية الثانية، تحديداً في سنة 1940، كتب بنجامين بيريه يقول: «لا يمكن تجييش الشعر». ثم أضاف قائلاً: «لو كنت هناك، فلعلي أساهم في المقاومة بالنضال المسلح. لكن ليس بكتابة قصائد». وفي ربيع عام 1948، توفي طونان أرتو الذي انتسب إلى الحركة السوريالية إلاّ أنه كان رافضاً لتوجهاتها السياسية باعتبار أن السياسة بالنسبة له «تفسد الحياة واللغة»، وأنبه صديقه أندريه بروتون قائلاً: «باعتبار أحداث السنوات الأخيرة، يبدو لي أن كل شكل من أشكال الالتزام السياسي مُثيرٌ للامتعاض والسخرية إذا ما ظلّ دون الهدف الثلاثي الذي لا يتجزأ: تغيير العالم، تغيير الحياة، إعادة تركيب الإدراك البشري من كلّ القطع».


مكتبة خالتي

مكتبة خالتي
TT

مكتبة خالتي

مكتبة خالتي

جميع الأشياء في الوجود متصلة بشكل مقدّس... وإذا لم تكن تؤمن بقدرة السحر التي في الأشياء فليس مسموحاً لك السكن في محراب الفنّ

أحياناً يكون فِعل الموتى أكثر قوّة من تأثير الأحياء. ثلاثون عاماً مضت على وفاة خالتي جميلة، ومراجعي الأولى في القراءة مصدرها خزانة للكتب مصنوعة من خشب الصّاج اللامع، من إبداع النّجار عباس القرملي، وقد شغلت جانباً من غرفتها في بيت أهلي في مدينة (العمارة)، في أقصى جنوب العراق. قبل الحديث عنها لا بد من وصف للغرفة والمنزل، ولا أقول لمدينتي لأنّ الحديث عنها ربما أغراني بالتوسّع في هذا الموضوع، حتى الخروج منه إلى باب آخر.

لم تتخلّ البلدان التي احتلّها العثمانيّون عن آثار حكمهم بعد أن جاء الإنجليز وتحرّرت البلاد واستقلّت. فلو درسنا تاريخ العراق الحديث، لرأيناه صورة مطابقة لبلاد الأتراك، مثل الصراع بين الأحزاب القوميّة واليساريّة، وطريقة تغيير الحاكم عن طريق الانقلاب العسكريّ، بالإضافة إلى صور عديدة في نمط المعيشة من مأكل وملبس وعادات... وفي إحدى زياراتي إلى تلك البلاد، اكتشفتُ أن بيت أهلي المبني في الستينات، نسخة من بيوت حي نيشان طاش في إسطنبول التي شهدت نهضة معماريّة تأثّرت كثيراً بالعمارة الأوروبيّة في تلك السنين.

تحاول الطبقة المتوسطة في بلداننا تقليد الطبقات البرجوازيّة في البلدان الأخرى بأي صورة، منها تصميم البيت الهندسي وطريقة المعيشة، ولأننا لا نمتلك طبقة برجوازية واسعة في العراق -مثلما هي الحال في مصر محمد علي- صار المتوسّطون في المعيشة -مثل أهلي- يقلِّدون أثرياء العالم، وفقدوا بالنتيجة صفات الاثنين، وهذا أحد أسباب انهيار هذه الطبقة سريعاً على أيدي الحكومات العسكريّة الثوريّة اليساريّة... إن 7 أجيال على الأقل يحتاجها البلد من حالة الاستقرار في ظلّ نظام وطني، لكي تترسّخ فيه جذور هذه الفئة، وهذا ما لم يحدث في العراق في تاريخه القديم أو الحديث، وهذا ليس موضوعنا.

بعد الحديقة الواسعة، ينفتح البيت إلى الداخل عبر بوّابتين كبيرتين متجاورتين: إحداهما تؤدي إلى غرفة الضيوف، والأخرى إلى بهو المعيشة، ويُلحق بالبهوِ في بعض البيوت مكتب واسع يخصّ جميع من في البيت، ولا يخصّ أحداً، ويُشرف على حديقة خاصّة به عبر نافذة واسعة.

كانت خالتي تعمل مديرة مدرسة، ولأنها قضت حياتها عزباء، استقلّت في هذه الحجرة التي صارت مُلكاً للجميع، ننتقل إليها من غرفة المعيشة بحريّة كاملة.

تتلمذ النجّار الذي صمم خزانة الكتب التي ألهمت فيّ حبّ الأدب، على أيدي فنانين أسطوات يهود، تمّ تهجيرهم في العهد الملكي (الوطني) إلى فلسطين المحتلة، وهذا ليس موضوعنا أيضاً. أي براعة فنيّة! أي توازن! تقف المكتبة بأبوابها الخشبيّة والزجاجيّة فائقة الأناقة على سيقان بهيئة أسطوانيّة تستدقّ في الأسفل، كأنها كعب حذاء امرأة فاتنة. مع كتب التاريخ والأدب، تحتوي الخزانة على دوريّات شهريّة من مجلّة «بوردا» الخاصّة بالفساتين والثياب والعطور والحقائب، كلّ ما يخصّ سِحر المرأة اجتمع في المجلّة، وصار مثل عالم جديد وفاتن، انعكس في عيني الطفل الذي تعلّم القراءة في الرابعة من عمره، وكان يشعر بأنه يصير إنساناً جديداً، أو أنه يُولد ثانية وبطريقة فنيّة هذه المرّة، كلّما تشبّعت عيناه بصفحات المجلّة الملوّنة؛ حيث ينام الورق على هدهدات خطوات فاتنات أوروبا، بأثوابهنّ وعطورهنّ وزينتهنّ.

شيئاً فشيئاً انعكس هذا الشعور على بقيّة الكتب في المكتبة. يفتح الطفل الصفحة الأولى ويكتشف أنه صار مخلوقاً جديداً؛ لأن ثمة امرأة تختبئ بين طيّاته، وكلّ كلمة تزداد عمقاً ومعنى، لكونها ترتفع في إطار من زينة وعطر ونور، وعندما يبلغ الصفحة الأخيرة، تتألّف عِشرة بينه وبين امرأة الكتاب، تُضيف صفة جديدة إلى تكوينه الأوّلي. بأي إيمان طفولي وإخلاص عجيب كنتُ أستكشف هذا الإغواء، وأنا جالس في حديقة البيت، أقرأ بين أشجار التفاح والسّدر والنخل، وهناك نافورة في الوسط! مُذّاك صار الكتاب وجوداً أبحث فيه عن روح وجسد متألقَين سوف يسكناني حتماً، وأصير بواسطتهما كائناً جديداً. يقول غوته: «نحن لا نتعلّم أي شيء عبر القراءة، وإنما نصبح شيئاً آخر».

في عمر الرابعة، جرّب الطفل -بالإضافة إلى القراءة- أول مرّة، كيف ينفصل عن روحه كي يستطيع رؤية المرأة التي هي غيرُ أمّه وخالته وأختيه؛ أنعام وأحلام. في مدينة العمارة كان هناك متنزّه اسمه «حديقة النساء»، وكنت أزوره بصحبة أمّي وخالتي وأختيّ. لن يغيب عن بالي مشهد الفساتين القشيبة ترتديها النسوة، مع الغموض في العيون الواسعة والكحيلة، وكانت زيارة الحديقة تمنحني الشعور ذاته بالسكينة وعلوّ النفس الذي يعقب معاينة صفحات المجلّة بتروٍّ، من أجل ألا يفوتني أي تفصيل.

عندما دخلت «البوردا» في حياة الناس أحدثت طموحاً شديداً لدى النساء، مع سعي مستمر للهروب من الواقع المتخلف. انتقلت الحياة في المدينة بفضل هذه المجلّة من عصور الظلام إلى المدنيّة. ما زلتُ أذكر مشهد خالتي جميلة وهي تدرس خرائط «الباترون» (ورق رقيق تؤشر عليه علامات تفصيل الثوب النسائي) تساعدها أمي أو أختي من أجل أن يكون المقاس والهيئة مطابقاً لما مثبّت في الصورة الموديل.

إن للمجلّة –الكتاب– القدرة على تغيير الواقع، كلّ الواقع؛ لأن المرأة هي كلّه، وعلى إنقاذ الرجل في الوقت ذاته. الكتابُ هدّامٌ وأخلاقي أيضاً، ويشبه تأثيره ما كانت تقوم به المجلّة النسائيّة في بيئة شرقيّة في مدينة العمارة؛ حيث كانت النساء ممتلئات بالمرارة، يتحجبن خارج البيوت بالعباءة والبوشي يغطي الوجه، قبل سنين قليلة فقط من دخول المجلة وانتشارها في مكتبات المدينة العامّة والخاصّة. هل نقول إن ما يفعله الكتاب لدى الفرد يماثل انعكاس تأثيره في المجتمع؟

إن جميع الأشياء في الوجود متصلة بشكل مقدّس، وإذا لم تكن تؤمن بقدرة السحر التي في الأشياء، فليس مسموحاً لك السكن في محراب الفنّ، وبالتالي العيش فيما يُدعى بالواقع، على أن يتملّكك هذا السّحر فلا يتركك إلا بعد أن يغيّرك بصورة كاملة. أكتب هذه الأسطر في مقهى على رصيف شارع العامل في مدينة الكوت، وصار لدي إحساس بأن ثمة شخصاً يراقبني بعينين حارّتين صديقتين. كان يمرّ في الشارع المزدحم طفل يقودُه أبوه ويبلغ نحو الرابعة. راح ينظر إليّ، ولمّا التقت عيناه عينيّ علَتْ محيّاه ابتسامة عريضة. ظلّ دائراً رأسه للوراء، يتطلّع إليّ عندما تجاوزاني هو وأبوه وصارا بعيدَين. هل انتقلت قوّة السحر في مكتبة خالتي إلى الطفل، فأصبح يعاينها بقلبه وعينيه وعقله؟! إنه افتراض لا يخلو من الصحّة إذا كنا نؤمن بأعاجيب عالمنا والقصص الخيالية والخرافات التي نعيشها، والتي يترجمها الأدباء إلى صور حقيقيّة على الورق؟ لو ثبتت صحّة الأمر لاكتشفنا مدى التأثير والقدرة على التغيير اللذين يحملهما مطبوع يخرج إلى النور وينتشر بين الجميع.


«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد

«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد
TT

«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد

«عازف الغياب»... رواية «سوريالية» لنبيل أبو حمد

عن «الدار العربية للعلوم ناشرون» ببيروت، صدرت للكاتب والفنان نبيل أبو حمد رواية بعنوان «عازف الغياب»، وهي، كما جاء على الغلاف الأخير «رواية سوريالية»... ربما منذ قرن لم يُكتب بالعربية مثلها... ربما في خمسينات القرن الماضي كتبت نصوص سوريالية عربية لكتاب مهاجرين إلى باريس هرباً من دكتاتورية النص والحكام.

وجاء في كلمة الناشر: «تتناول هذه الرواية سيرة حياة فنان يظهر وهو يحمل لوحة من القماش (الكانفاس) وعقله منشغل بالألوان والأشكال التي ينوي أن يمليها على بياض القماش وعندما يحاول العبور للوصول إلى المقهى في الضفة الأخرى من الشارع حيث ينتظره فنجان «الكابتشينو» كعادته كل صباح؛ تأتي سيارة مسرعة وتقذفه بمقدمتها طائراً في فضاء عبثي مليء بالجنون والضياع.

عبر هذا الحدث الفجائي «الاصطدام»، يرسم الكاتب لأحداث روايته فضاءً مجازياً لا وجود له في الواقع المحسوس. فالراوي «عازف الغياب» وهو - بطل الرواية - سوف يدخل في غيبوبة لا يفرّق فيها عقله بين الواقع والخيال، وليجد نفسه على ظهر ببغاء تحمله وتطير به بعيداً، خارج المكان والزمان، ومع كل محطة يتوقف عندها، يتغير حاله ويقابل أناساً مختلفين في صورهم وأشكالهم، ومنهم الزعماء، والكتّاب، والشعراء، والحكماء، والملائكة، والشياطين، والحيوانات، والطيور وغيرهم من الناس العاديين. لكن عند الحديث معهم يتحولون إلى أشكال غرائبية غير مألوفة، ويمارسون أفعالاً خارج المعقولية.

وربما أراد الروائي هنا من وضع شخصية «الفنان - عازف الغياب» على مفترق طرق بين النجاة والهلاك، وإدخالها في عالم غرائبي للتعبير عن أزمة الإنسان المعاصر وخيبته في تحقيق ما تصبو إليه ذاته داخل العالم الحقيقي؛ كما يكشف هلاكها عن شعور مليء بالعدمية واليأس».

وهذه الرواية هي التاسعة لنبيل أبو حمد، الذي كان قد أصدر من قبل «العطيلي» و«بيت من الشرق» و«راكمان وعبد الرحمن» و«الرحيقيون» و«تغريدة الصوفي»، و«النمر» و«شيخوخة الأمير الصغير»، و«حدث في باريس»، إضافة إلى مجاميع قصصية، وعدد من المطبوعات الفنية، منها «هواء نبيل أبو حمد، لوحات كاريكاتورية»، و«لوحات كاريكاتورية لمشاهير العالم» و«قصيدة ميا مع الشاعر نزار قباني» و«ساعة الموت شعراً، مع الشاعر السعودي غازي القصيبي»، وغيرها.

جاءت الرواية في 182صفحة من الحجم الصغير، وكانت لوحة الغلاف لأبو حمد.