المشهد الثقافي المصري: ذائقة متغيرة ومسارات بديلة

كسر حواجز «كورونا» واستعاد الكثير من الأنشطة المعتادة

محمود نسيم  -  شاكر عبد الحميد
محمود نسيم - شاكر عبد الحميد
TT

المشهد الثقافي المصري: ذائقة متغيرة ومسارات بديلة

محمود نسيم  -  شاكر عبد الحميد
محمود نسيم - شاكر عبد الحميد

انشغلت الثقافة المصرية طيلة العام الفائت بالبحث عن مسارات بديلة تستعيد من خلالها عافيتها وحيويتها، واختراق الحواجز التي فرضتها جائحة كورونا وتحورات الفيروس المباغتة التي لا تزال تثير الرعب في العالم. عادت الكثير من الأنشطة الأدبية والفنية، وأصبح التعايش مع الجائحة وتبعاتها بمثابة حافز للمقاومة ونقطة انطلاق لهذه المسارات، ساعد على ذلك رغبة المثقفين والكتاب والشعراء والفنانين في كسر هذه الحواجز، وتضافر المؤسسات الرسمية المعنية التي ترى في هذه العودة تجديدا لحضورها ومواصلة الدور المنوط بها.
ورغم الإيجابية البادية لهذه العودة، إلا أن معظمها اتسم بالسرعة، وافتقد التخطيط والرؤية الصحيحة، وغيرها من العناصر التي توائم بين عنصري الكم والكيف، خاصةً في الأنشطة ذات الطابع التراكمي الجماعي، مثل مهرجانات السينما والأغنية والمسرح التي أقيمت هذا العام واحتضنتها دار الأوبرا، أيضاً معارض الفن التشكيلي الموسمية، فظل الحشد والحرص على الكم هو السائد، في المقابل شكل الاستثناء ندرة لافتة. ولا يخلو الأمر من مفارقة تكاد تكون مزمنة؛ فمعظم هذه الأنشطة تدور في فلك مؤسسة وزارة الثقافة وقطاعاتها الرسمية ويتوافر لها التمويل والإمكانات، ومن أبرزها المعرض العام، وصالون الفن المعاصر في دورته الأولى بعنوان «ما بعد الفكرة» بقصر الفنون، واللذان شارك فيهما حشد من الفنانين من شتى الأطياف الفنية، تنوعت أعمالهم ما بين الفنون المركبة، والتجهيز في الفراغ، والفيديو آرت، والنحت والتصوير، لكن لم ينج المعرضان وكلاهما يستمر لمدة شهر، من العشوائية والاكتظاظ دون سياق فني، ولم نعرف ما المقصود بشعار «ما بعد الفكرة»: هل هو الانفلات من الإطار، أيا كان، إطار اللوحة والوجود، أم ترك الحبل على الغارب، تشكله الفوضى والعبث باسم الفن، أو أي شيء آخر، إلى حد الاستخفاف، وأن تصبح مجموعة من البالونات المنفوخة المعلقة في سقف حجرة عملا فنيا، وغيرها من الأعمال التي لا ترقى إلى الاشتراك في صالون فني يؤسس لدورته الأولى؟! هذه العوامل وغيرها جعلت أغلب الأنشطة تفتقر إلى المعنى والحضور الجماهيري الواسع الفعال والذي اقتصر على الافتتاح الرسمي، كما غاب الحوار الحي مع الجمهور وأصبحت عودة هذه الأنشطة مجرد حشد شكلي لملء الفراغ.
في المقابل برز عدد من المعارض الفردية، اتخذت من مفردات البيئة والموروث الشعبي ومعايشة الطبيعة، أفقا لمغامرة تشكيلية متنوعة، ومنها معارض للفنانين: محمد عبلة، عمر الفيومي، عبد الوهاب عبد المحسن، أحمد عبد الكريم، سماء يحيي، إيمان عزت، فتحي عفيفي، وإبراهيم الطنبولي.
لكن يبدو أن الهم الأساسي الذي تواجهه الثقافة المصرية هو البحث عن مسارات بديلة وسط ذائقة متغيرة، أصبحت تتمرد على الماضي، وترفض أن تكون حبيسة في قفصه أو رهينة له، تقيس عليه حضورها وغيابها. عزز هذا التمرد عالم الميديا والإنترنت والسماوات المفتوحة، وفقدان المجتمع فكرة المثال الذي يمكن الاحتذاء به، ويشكل حافزا حيا، ممتدا في الزمان والمكان. هذه الذائقة المتغيرة أصبحت تفرض نفسها في كل أنماط الحياة، بداية من الثقافة والتعليم، الفن والأدب، التربية والفكر والأنشطة الاجتماعية، وحتى المجال السياسي؛ كما فرضت النظر إلى المستقبل من منظور يضع الحرية شرطا أساسيا للفن والإبداع والحياة، حيث «أنت سيد نفسك... وإن لم تستطع حاول أن تكون».
على الجانب الآخر، وبعيدا عن مفارقات هذا المنظور، حفل المشهد الثقافي المصري خلال هذا العام، بالكثير من الأعمال الإبداعية اللافتة والمهمة صدرت عن دور نشر تتسم بوعي ثقافي، تتصدرها أربعة أعمال سردية كانت الأوسع انتشاراً، من حيث المتابعة النقدية والصحافية، وهي: رواية «الكل يقول أحبك» للكاتبة مي التلمساني عن دار الشروق، ورواية «في حانة الست» للكاتب الصحافي محمد بركة عن دار المثقف، وكتاب «مقهى ريش... عين على مصر» للشاعرة والكاتبة ميسون صقر، عن دار نهضة مصر، و«زيارة حميمة تأخرت كثيرا» للناقدة الأكاديمية سامية محرز، عن دار الشروق. وعلى بعد خطوات من هذه الأعمال تأتي روايتا «موت منظم» للكاتب أحمد مجدي همام، عن دار نوفل ببيروت، و«عظومة» للكاتب عصام البرعي، والتي صدرت أخيرا عن دار ميريت.
تندرج هذه الأعمال تحت فضاء السيرة الذاتية بتنويعات مختلفة، تتراوح ما بين السيرة الشخصية، وسيرة المكان، وسيرة الزمن، وسيرة المأساة. ويبدو تكنيك الخطوط المتوازية قاسما فنيا مشتركا فيما بينها. كما أن الزمن في هذه الأعمال يعمل من خلال آليتين، فهو زمن استرجاعي في بعضها، وزمن معيش في البعض الآخر. لكنه في كلتا الحالتين يبحث عن نقطة التقاء في تخوم اللحظة الحاضرة، يشتبك معها ليس كعلاقة ظل وصورة أو نوستالجيا خاطفة إنما كخط موازٍ، يصنع جسرا بين الماضي والحاضر؛ بين ما قد كان، وما هو كائن بالفعل، تاركا للمتلقي/ القارئ استشراف ما يمكن أن يكون.
أعمال مغمورة بمحبة الكتابة. تلتقي في خطوط متوازية وتفترق في اللعب على براح الخيال، والمقدرة على جعله واقعا موازيا لتعارضات الروح والجسد، والحلم والحقيقة، سعيا للإمساك بنافذة رؤية جديدة، للذات والواقع والعالم والأشياء.
يتناثر الوعي بهذه الخطوط المتوازية، في فضاء فكرة الهجرة والترحال، والنظرة إلى الوطن الأم من ثقوب الغربة، ومرايا الوطن البديل، هكذا تعزف مي التلمساني في روايتها، مستبطنة حكايات وحيوات كتلة من البشر العرب يعيشون في المهجر الكندي، وكأنها صدى لحياة البطلة الكاتبة الساردة التي تشاركهم هموم المهجر نفسه، وتعيشه بالفعل كمعبر آخر للحياة. بأناقة مخيلة ترصد مي صراعاتهم في محيط العائلة والعمل، وعلاقات الحب ومكابداته، والتواطؤ ضده أحيانا، بعلاقات عاطفية موازية تحاول كسر رتابة الواقع والمألوف. تنسج الرواية لعبتها في ظل لحظة زمنية مضطربة يصارع العالم فيها وباء الكورونا.
ومن نقطة في الماضي ينبش محمد بركة في سيرة حياة أم كلثوم، محاولا أن يصنع من خلالها موازاة لواقع آخر، حيث المهمش والمسكوت عنه في هذه السيرة، راصدا تداعياتها، في ظلال الطفولة والنشأة، تحت وطأة الفقر وشظف العيش، ثم في ظلال المجد والصعود والتربع على عرش الغناء العربي. من جهة أخرى وفي خطين متوازيين، تتقاطع فيهما سيرة الذات الساردة/ الكاتبة، وسيرة الجد. تنكش محرز في وثائق ومخطوطات جدها لأمها «شاعر الأطلال» إبراهيم ناجي والذي مات قبل أن تولد بعامين، وتكشف الكثير من الوقائع غير المعروفة عن حياته كإنسان وطبيب وشاعر بارز؛ ويكشف الكتاب عن وجهين متقاطعين للزيارة، زيارة للجد، وفي الوقت نفسه زيارة لطفولتها التي تأخرت أكثر من نصف قرن. بينما تتكئ ميسون صقر على مقهي «ريش» بوسط القاهرة، كنقطة انطلاق لفضاء أوسع، كاشفة الكثير من الوقائع حول سيرته ونشأته وملاكه، والأدوار التي لعبها في محيط الثقافة والفن والسياسة، وفي لحظة فارقة من تاريخ مصر، شهدت بزوغ فجر نهضتها الحديثة في عصر محمد علي. تتخذ ميسون من جدل المتن والهامش بؤرة لسرد حكائي شيق تمتزج فيه الأفكار والرؤى في أنساقها الفلسفية المجردة، بواقع الحياة المصرية وإيقاعها الشعبي وحكايات شوارعها وميادينها ومقاهيها ومبانيها ذات الطرز العتيقة، ليتحول مقهى ريش من مجرد حيز ومرتكز مكاني إلى عين ترصد كل هذا المتغيرات في خطوط متوازية، تتجاور وتتقاطع بتلقائية الروح ومحبة الحياة.
ويلعب أحمد مجدي همام على سرد المأساة، في خطوط متوازية ما بين ماضي الأرمن وما تعرضوا له من تشريد ومجازر على يد الأتراك، وبين حاضرهم الذي يطل على هذا الماضي. وبعين صحافي شاب يحاول أن يتتبع مسارات وجذور هذه المأساة في إطار مهني وإنساني، من خلال النبش في حكاية الجالية الأرمينية في مصر، وكيف حافظوا على لغتهم وهويتهم وتعايشوا وسط بلد حاضنة لهم بمحبة وسلام. تجسد هذه الهموم بطلة الرواية «ماجدة» الأرمينية التي ولدت في مصر وتعيش من ريع صيدلية تركها لها زوجها، وتملك الكثير من الوثائق والمستندات. في ظلال علاقة حميمة تنشأ بينها وبين الصحافي الشاب تنفتح الرواية على تاريخ الأرمن ومأساتهم بلغة سردية شديدة التلقائية والعذوبة. وفي محاولة لاستعادة خطى الزمن ينسج عصام البرعي من خيوط السرد فضاء موازيا لزمن السبعينيات في مصر إبان حكم السادات، متخذا من متاهة بطله وعزلته ومرضه وتركه عمله، خطا موازيا لما تعرض له الوطن من انكسارات سياسية واجتماعية وثقافية، في زمن شهد أعنف موجات اعتقال للمثقفين والكتاب، وفصلهم من وظائفهم. يتهم البطل بالجنون، لكنه جنون الواقع وما آل إليه من ضعة وهوان.
يبقى كتاب «الحرية والحقيقة – تحديات الثقافة والمثقف المصري» لنبيل عبد الفتاح الصادر عن دار ميريت واحدا من أهم الكتب الفكرية النقدية الصادرة هذا العام، حيث يقدم مراجعة رصينة وفي إطار رواية مفتوحة على شتى الحدوسات المعرفية، يكشف من خلالها التحديات الفارقة التي يواجهها العقل والإبداع المصري، راصدا ومحللا للأدوار التي لعبها هذا العقل في لحظات المد والجذر، وتنوعه الرحب الخصب، ثم لحظات انكساره وسكونه في عالم يموج بالتحول والتغير في شتى النظم العلمية والثقافية.
ولا يخلو هذا العام من لحظات شجن وأسى جراء الرحيل المباغت لكتاب وشعراء أصابهم وباء كورونا في مقتل، من بينهم الباحث والناقد والمترجم دكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق، صاحب الإسهام الأصيل في المقاربة بين علم النفس والإبداع، والشاعر محمود نسيم، الذي جعل من القصيدة ساحة مسرح، تتعدد عليها مستويات الرؤية والحوار بين الذات والعالم، بإيقاع درامي مسكون بالبحث عن غد أفضل في فضاء الحرية والجمال.



إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
TT

إسرائيل ستشارك في «يوروفيجن 2026»

المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)
المغنية الإسرائيلية إيدن جولان الممثلة لبلدها على خشبة المسرح خلال التدريبات قبل الجولة النهائية لمسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2024 في مالمو بالسويد يوم 10 مايو 2024 (رويترز)

قال مصدران في دولتين من أعضاء اتحاد البث الأوروبي، لوكالة «رويترز»، إن إسرائيل ستتمكن من المشاركة في مسابقة «يوروفيجن» 2026، بعد أن قرر أعضاء الاتحاد، اليوم (الخميس)، عدم الدعوة إلى التصويت بشأن مشاركتها، رغم تهديدات بمقاطعة المسابقة من بعض الدول.

وذكر المصدران أن الأعضاء صوتوا بأغلبية ساحقة لدعم القواعد الجديدة التي تهدف إلى ثني الحكومات والجهات الخارجية عن الترويج بشكل غير متكافئ للأغاني للتأثير على الأصوات، بعد اتهامات بأن إسرائيل عززت مشاركتها هذا العام بشكل غير عادل.

انسحاب 4 دول

وأفادت هيئة البث الهولندية (أفروتروس)، اليوم (الخميس)، بأن هولندا ستقاطع مسابقة «يوروفيجن» 2026؛ احتجاجاً على مشاركة إسرائيل.

وذكرت وكالة «أسوشييتد برس» أن إسبانيا انسحبت من مسابقة «يوروفيجن» للأغنية لعام 2026، بعدما أدت مشاركة إسرائيل إلى حدوث اضطراب في المسابقة.

كما ذكرت شبكة «آر تي إي» الآيرلندية أن آيرلندا لن تشارك في المسابقة العام المقبل أو تبثها، بعد أن قرر أعضاء اتحاد البث الأوروبي عدم الدعوة إلى تصويت على مشاركة إسرائيل.

وقال تلفزيون سلوفينيا الرسمي «آر تي في» إن البلاد لن تشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) لعام 2026، بعد أن رفض أعضاء اتحاد البث الأوروبي اليوم (الخميس) دعوة للتصويت على مشاركة إسرائيل.

وكانت سلوفينيا من بين الدول التي حذرت من أنها لن تشارك في المسابقة إذا شاركت إسرائيل، وفقاً لوكالة «رويترز».

وقالت رئيسة تلفزيون سلوفينيا الرسمي ناتاليا غورشاك: «رسالتنا هي: لن نشارك في مسابقة الأغنية الأوروبية (يوروفيجن) إذا شاركت إسرائيل. نيابة عن 20 ألف طفل سقطوا ضحايا في غزة».

وكانت هولندا وسلوفينيا وآيسلندا وآيرلندا وإسبانيا طالبت باستبعاد إسرائيل من المسابقة؛ بسبب الهجوم الذي تشنّه على المدنيين الفلسطينيين في غزة.

وتنفي إسرائيل استهداف المدنيين خلال هجومها، وتقول إنها تتعرض لتشويه صورتها في الخارج على نحو تعسفي.


صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب
TT

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

صور الجمال وتجلياته في أدب الغرب

لم يكن الجمال بوجوهه المتغايرة مثار اهتمام الفلاسفة والعلماء وحدهم، بل بدت أطيافه الملغزة رفيقة الشعراء إلى قصائدهم، والفنانين إلى لوحاتهم والموسيقيين إلى معزوفاتهم، والعشاق إلى براري صباباتهم النائية. والأدل على تعلق البشرفي عصورهم القديمة بالجمال، هو أنهم جعلوا له آلهة خاصة به، ربطوها بالشهوة تارة وبالخصب تارة أخرى، وأقاموا لها النصُب والمعابد والتماثيل، وتوزعت أسماؤها بين أفروديت وفينوس وعشتروت وعشتار وغير ذلك.

وحيث كان الجمال ولا يزال، محلّ شغف الشعراء والمبدعين واهتمامهم الدائم، فقد انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع، وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغاني. كما تلمّسته النظرات الذاهلة للواقعين في أشراكه، بأسئلة ومقاربات ظلت معلقة أبداً على حبال الحيرة والقلق وانعدام اليقين. وقد بدا ذلك القلق واضحاً لدى الشاعر الروماني أوفيد الذي لم يكد يُظهر شيئاً من الحكمة والنضج، حين دعا في ديوانه «الغزليات» الشبان الوسيمين إلى أن «يبدعوا لأنفسهم روحاً مشرقة صيانةً لجمالهم»، حتى أوقعه الجمال المغوي بنماذجه المتعددة في بلبلة لم يعرف الخروج منها، فكتب يقول: «لا يوجد جمال محدد يثير عاطفتي، هنالك آلاف الأسباب تجعلني أعيش دائماً في الحب، سواء كنت أذوب حباً في تلك الفتاة الجميلة ذات العينين الخجولتين، أو تلك الفتاة اللعوب الأنيقة التي أولعتُ بها لأنها ليست ساذجة. إحداهن تخطو بخفة وأنا أقع في الحب مع خطوتها، والأخرى قاسية ولكنها تغدو رقيقة بلمسة حب».

على أن الجمال الذي يكون صاعقاً وبالغ السطوة على نفوس العاجزين عن امتلاكه، يفقد الكثيرمن تأثيراته ومفاعيله في حالة الامتلاك. ذلك أن امتناع المتخيل عن تأليف صورة الآخر المعشوق، تحرم هذا الأخير من بريقه الخلاب المتحالف مع «العمى»، وتتركه مساوياً لصورته المرئية على أرض الواقع. وفضلاً عن أن للجمال طابعه النسبي الذي يعتمد على طبيعة الرائي وثقافته وذائقته، فإن البعض يعملون على مراوغة مفاعيله المدمرة عن طريق ما يعرف بالهجوم الوقائي، كما هو شأن الشعراء الإباحيين، وصيادي العبث والمتع العابرة، فيما يدرب آخرون أنفسهم على الإشاحة بوجوههم عنه، تجنباً لمزالقه وأهواله. وهو ما عبر عنه الشاعر الإنجليزي جورج ويذر المعاصر لشكسبير، بقوله:

«هل عليّ أن أغرق في اليأس

أو أموت بسبب جمال امرأة

لتكن أجمل من النهار ومن براعم أيار المزهرة

فما عساني أبالي بجمالها إن لم تبدُ كذلك بالنسبة لي».

وإذ يعلن روجر سكروتون في كتابه «الجمال» أن على كل جمال طبيعي أن يحمل البصمة البصرية لجماعة من الجماعات، فإن الشاعر الإنجليزي الرومانسي وردسوورث يعلن من جهته أن علينا «التطلع إلى الطبيعة ليس كما في ساعة الشباب الطائشة، بل كي نستمع ملياً للصوت الساكن الحزين للإنسانية».

والأرجح أن هذا الصوت الساكن والحزين للجمال يعثر على ضالته في الملامح «الخريفية» الصامتة للأنوثة المهددة بالتلاشي، حيث النساء المعشوقات أقرب إلى النحول المرضي منهن إلى العافية والامتلاء. وقد بدوْن في الصور النمطية التي عكستها القصائد واللوحات الرومانسية، مشيحات بوجوههن الشاحبة عن ضجيج العصر الصناعي ودخانه السام، فيما نظراتهن الزائغة تحدق باتجاه المجهول. وإذا كان بعض الشعراء والفنانين قد رأوا في الجمال الساهم والشريد ما يتصادى مع تبرمه الشديد بالقيم المادية للعصر، وأشاد بعضهم الآخر بالجمال الغافي، الذي يشبه «سكون الحسن» عند المتنبي، فقد ذهب آخرون إلى التغني بالجمال الغارب للحبيبة المحتضرة أو الميتة، بوصفه رمزاً للسعادة الآفلة ولألق الحياة المتواري. وهو ما جسده إدغار آلان بو في وصفه لحبيبته المسجاة بالقول: «لا الملائكة في الجنة ولا الشياطين أسفل البحر، بمقدورهم أن يفرقوا بين روحي وروح الجميلة أنابيل لي، والقمر لا يشع أبداً دون أن يهيئ لي أحلاماً مناسبة عن الجميلة أنابيل لي، والنجوم لا ترتفع أبداً، دون أن أشعر بالعيون المتلألئة للجميلة أنابيل لي».

لكن المفهوم الرومانسي للجمال سرعان ما أخلى مكانه لمفاهيم أكثر تعقيداً، تمكنت من إزالة الحدود الفاصلة بينه وبين القبح، ورأت في هذا الأخير نوعاً من الجمال الذي يشع من وراء السطوح الظاهرة للأشياء والكائنات. إنه القبح الذي وصفه الفيلسوف الألماني فريدريك شليغل بقوله «القبح هو الغلبة التامة لما هو مميز ومتفرد ومثير للاهتمام. إنه غلبة البحث الذي لا يكتفي، ولا يرتوي من الجديد والمثير والمدهش». وقد انعكس هذا المفهوم على نحو واضح في أعمال بودلير وكتاباته، وبخاصة مجموعته «أزهار الشر» التي رأى فيها الكثيرون المنعطف الأهم باتجاه الحداثة. فالشاعر الذي صرح في تقديمه لديوانه بأن لديه أعصابه وأبخرته، وأنه ليس ظامئاً إلا إلى «مشروب مجهول لا يحتوي على الحيوية أو الإثارة أو الموت أو العدم»، لم يكن معنياً بالجمال الذي يؤلفه الوجود بمعزل عنه، بل بالجمال الذي يتشكل في عتمة نفسه، والمتأرجح أبداً بين حدي النشوة والسأم، كما بين التوله بالعالم والزهد به.

وليس من المستغرب تبعاً لذلك أن تتساوى في عالم الشاعر الليلي أشد وجوه الحياة فتنة وأكثرها قبحاً، أو أن يعبر عن ازدرائه لمعايير الجمال الأنثوي الشائع، من خلال علاقته بجان دوفال، الغانية السوداء ذات الدمامة الفاقعة، حيث لم يكن ينتظره بصحبتها سوى الشقاء المتواصل والنزق المرَضي وآلام الروح والجسد. وليس أدل على تصور بودلير للجمال من قوله في قصيدة تحمل الاسم نفسه:

«أنا جميلة، أيها الفانون، مثل حلمٍ من الحجر

وصدري الذي أصاب الجميع بجراح عميقة

مصنوعٌ لكي يوحي للشاعر بحب أبدي وصامت كالمادة

أنا لا أبكي أبداً وأبداً لا أضحك».

وكما فعل آلان بو في رثائه لجمال أنابيل لي المسجى في عتمة القبر، استعار رامبو من شكسبير في مسرحيته «هاملت» صورة أوفيليا الميتة والطافية بجمالها البريء فوق مياه المأساة، فكتب قائلاً: «على الموج الأسود الهادئ، حيث ترقد النجوم، تعوم أوفيليا البيضاء كمثل زنبقة كبيرة. بطيئاً تعوم فوق برقعها الطويل، الصفصاف الراجف يبكي على كتفيها، وعلى جبينها الحالم الكبير ينحني القصب». وإذا كان موقف رامبو من الجمال قد بدا في بعض نصوصه حذراً وسلبياً، كما في قوله «لقد أجلست الجمال على ركبتيّ ذات مساء، فوجدت طعمه مراً» فهو يعود ليكتب في وقت لاحق «لقد انقضى هذا، وأنا أعرف اليوم كيف أحيّي الجمال».

ورغم أن فروقاً عدة تفصل بين تجربتي بودلير ورامبو من جهة، وتجربة الشاعر الألماني ريلكه من جهة أخرى، فإن صاحب «مراثي دوينو» يذهب بدوره إلى عدّ الجمال نوعاً من السلطة التي يصعب الإفلات من قبضتها القاهرة، بما دفعه إلى استهلال مراثيه بالقول:

«حتى لو ضمني أحدهم فجأة إلى قلبه

فإني أموت من وجوده الأقوى

لأن الجمال بمثابة لا شيء سوى بداية الرعب

وكلُّ ملاكٍ مرعب».

انشغل به الأدب والفن الغربيان على نحو واسع وكتبت عنه وفيه القصائد والمقطوعات والأغانيrnولا يزال الشغف به مشتعلاً

وفي قصيدته «كلمات تصلح شاهدة قبر للسيدة الجميلة ب»، يربط ريلكه بين الجمال والموت، مؤثراً التماهي من خلال ضمير المتكلم، مع المرأة الراحلة التي لم يحل جمالها الباهر دون وقوعها في براثن العدم، فيكتب على لسانها قائلاً: «كم كنتُ جميلة، وما أراه سيدي يجعلني أفكر بجمالي. هذه السماء وملائكتك، كانتا أنا نفسي».

أما لويس أراغون، أخيراً، فيذهب بعيداً في التأويل، حيث في اللحظة الأكثر مأساوية من التاريخ يتحول الجمال مقروناً بالحب، إلى خشبة أخيرة للنجاة من هلاك البشر الحتمي. وإذا كان صاحب «مجنون إلسا» قد جعل من سقوط غرناطة في قبضة الإسبان، اللحظة النموذجية للتماهي مع المجنون، والتبشير بفتاته التي سيتأخر ظهورها المحسوس أربعة عقود كاملة، فلأنه رأى في جمال امرأته المعشوقة، مستقبل الكوكب برمته، والمكافأة المناسبة التي يستحقها العالم، الغارق في يأسه وعنفه الجحيمي. ولذلك فهو يهتف بإلسا من أعماق تلهفه الحائر:

« يا من لا شبيه لها ويا دائمة التحول

كلُّ تشبيه موسوم بالفقر إذا رغب أن يصف قرارك

وإذا كان حراماً وصفُ الجمال الحي

فأين نجد مرآة مناسبة لجمال النسيان».


فخار مليحة

فخار مليحة
TT

فخار مليحة

فخار مليحة

تقع منطقة مليحة في إمارة الشارقة، على بعد 50 كيلومتراً شرق العاصمة، وتُعدّ من أهم المواقع الأثرية في جنوب شرق الجزيرة العربيَّة. بدأ استكشاف هذا الموقع في أوائل السبعينات من القرن الماضي، في إشراف بعثة عراقية، وتوسّع في السنوات اللاحقة، حيث تولت إدارة الآثار في الشارقة بمشاركة بعثة أثرية فرنسية مهمة إجراء أعمال المسح والتنقيب في هذا الحقل الواسع، وكشفت هذه الحملات عن مدينة تضم أبنية إدارية وحارات سكنية ومدافن تذكارية. دخلت بعثة بلجيكية تابعة لمؤسسة «المتاحف الملكية للفن والتاريخ» هذا الميدان في عام 2009، وسعت إلى تحديد أدوار الاستيطان المبكرة في هذه المدينة التي ازدهرت خلال فترة طويلة تمتدّ من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الرابع للميلاد، وشكّلت مركزاً تجارياً وسيطاً ربط بين أقطار البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي ووادي الرافدين.

خرجت من هذا الموقع مجموعات متعدّدة من اللقى تشهد لهذه التعدّدية الثقافية المثيرة، منها مجموعة من القطع الفخارية صيغت بأساليب مختلفة، فمنها أوانٍ دخلت من العالم اليوناني، ومنها أوانٍ من جنوب بلاد ما بين النهرين، ومنها أوانٍ من حواضر تنتمي إلى العالم الإيراني القديم، غير أن العدد الأكبر من هذه القطع يبدو من النتاج المحلّي، ويتبنّى طرازاً أطلق أهل الاختصاص عليه اسم «فخار مليحة». يتمثّل هذا الفخار المحلّي بقطع متعدّدة الأشكال، منها جرار متوسطة الحجم، وجرار صغيرة، وصحون وأكواب متعدّدة الأشكال، وصل جزء كبير منها على شكل قطع مكسورة، أُعيد جمع بعض منها بشكل علمي رصين. تعود هذه الأواني المتعدّدة الوظائف إلى الطور الأخير من تاريخ مليحة، الذي امتدّ من مطلع القرن الثاني إلى منتصف القرن الثالث للميلاد، وتتميّز بزينة بسيطة ومتقشّفة، قوامها بضعة حزوز ناتئة، وشبكات من الزخارف المطلية بلون أحمر قانٍ يميل إلى السواد. تبدو هذه الزينة مألوفة، وتشكّل من حيث الصناعة والأسلوب المتبع امتداداً لتقليد عابر للأقاليم والحواضر، ازدهر في نواحٍ عدة من الجزيرة العربية منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد.

تختزل هذا الطراز جرة جنائزية مخروطية ذات عنق مدبب، يبلغ طولها 30.8 سنتيمتر، وقطرها 22 سنتيمتراً. عنق هذه الجرة مزين بأربع دوائر ناتئة تنعقد حول فوهتها، تقابلها شبكة من الخطوط الأفقية الغائرة تلتف حول وسطها، وبين هذه الدوائر الناتئة وهذه الخطوط الغائرة، تحلّ الزينة المطلية باللون الأحمر القاتم، وقوامها شبكة من المثلثات المعكوسة، تزين كلاً منها سلسلة من الخطوط الأفقية المتوازية. تشهد هذه الجرة لأسلوب متبع في التزيين يتباين في الدقّة والإتقان، تتغيّر زخارفه وتتحوّل بشكل مستمرّ.

تظهر هذه التحوّلات الزخرفية في قطعتين تتشابهان من حيث التكوين، وهما جرتان مخروطيتان من الحجم الصغير، طول أكبرهما حجماً 9.8 سنتيمتر، وقطرها 8.5 سنتيمتر. تتمثّل زينة هذه الشبكة بثلاث شبكات مطليّة، أولاها شبكة من الخطوط الدائرية الأفقية تلتف حول القسم الأسفل من عنقها، وتشكّل قاعدة له، ثمّ شبكة من المثلثات المعكوسة تنعقد حول الجزء الأعلى من حوض هذا الإناء، وتتميّز بالدقة في الصوغ والتخطيط. تنعقد الشبكة الثالثة حول وسط الجرّة، وهي أكبر هذه الشبكات من حيث الحجم، وتتكوّن من كتل هرمية تعلو كلاً منها أربعة خطوط أفقية متوازية. في المقابل، يبلغ طول الجرة المشابهة 9 سنتيمترات، وقطرها 7.5 سنتيمتر، وتُزيّن وسطها شبكة عريضة تتكون من أنجم متوازية ومتداخلة، تعلو أطراف كلّ منها سلسلة من الخطوط الأفقية، صيغت بشكل هرمي. تكتمل هذه الزينة مع شبكة أخرى تلتفّ حول القسم الأعلى من الجرة، وتشكّل عقداً يتدلى من حول عنقها. ويتكوّن هذا العقد من سلسلة من الخطوط العمودية المتجانسة، مرصوفة على شكل أسنان المشط.

تأخذ هذه الزينة المطلية طابعاً متطوّراً في بعض القطع، أبرزها جرة من مكتشفات البعثة البلجيكية في عام 2009، وهي من الحجم المتوسط، وتعلوها عروتان عريضتان تحيطان بعنقها. تزين هذا العنق شبكة عريضة من الزخارف، تتشكل من مثلثات متراصة، تكسوها خطوط أفقية متوازية. يحد أعلى هذه الشبكة شريط يتكوّن من سلسلة من المثلثات المجردة، ويحدّ أسفلها شريط يتكوّن من سلسلة من الدوائر اللولبية. تمتد هذه الزينة إلى العروتين، وقوامها شبكة من الخطوط الأفقية المتوازية.

من جانب آخر، تبدو بعض قطع «فخار مليحة» متقشّفة للغاية، ويغلب عليها طابع يفتقر إلى الدقّة والرهافة في التزيين. ومن هذه القطع على سبيل المثال، قارورة كبيرة الحجم، صيغت على شكل مطرة عدسية الشكل، تعلوها عروتان دائريتان واسعتان. يبلغ طول هذه المطرة 33.5 سنتيمتر، وعرضها 28 سنتيمتراً، وتزيّن القسم الأعلى منها شبكة من الخطوط المتقاطعة في الوسط على شكل حرف «إكس»، تقابلها دائرة تستقر في وسط الجزء الأسفل، تحوي كذلك خطين متقاطعين على شكل صليب.

يُمثل «فخار مليحة» طرازاً من أطرزة متعددة تتجلّى أساليبها المختلفة في مجموعات متنوّعة من اللقى، عمد أهل الاختصاص إلى تصنيفها وتحليلها خلال السنوات الأخيرة. تتشابه هذه اللقى من حيث التكوين في الظاهر، وتختلف اختلافاً كبيراً من حيث الصوغ. يشهد هذا الاختلاف لحضور أطرزة مختلفة حضرت في حقب زمنية واحدة، ويحتاج كل طراز من هذه الأطرزة إلى وقفة مستقلّة، تكشف عن خصائصه الأسلوبية ومصادر تكوينها.