أفغانستان في قبضة «طالبان»... بماذا تختلف نسختها الثانية عن الأولى؟

الحركة تواجه تحدي التحوّل من تمرّد إلى حكومة... وحل إشكالية العلاقة مع «القاعدة»... وكبح «داعش»

أفغان ينتظرون الفرار عبر أي طائرة مغادرة بعد سيطرة «طالبان» على الحكم في أغسطس الماضي (أ.ف.ب)
أفغان ينتظرون الفرار عبر أي طائرة مغادرة بعد سيطرة «طالبان» على الحكم في أغسطس الماضي (أ.ف.ب)
TT

أفغانستان في قبضة «طالبان»... بماذا تختلف نسختها الثانية عن الأولى؟

أفغان ينتظرون الفرار عبر أي طائرة مغادرة بعد سيطرة «طالبان» على الحكم في أغسطس الماضي (أ.ف.ب)
أفغان ينتظرون الفرار عبر أي طائرة مغادرة بعد سيطرة «طالبان» على الحكم في أغسطس الماضي (أ.ف.ب)

كانت السنة 2021، أفغانياً، سنة «طالبان» بامتياز. عادت هذه الحركة إلى السلطة في كابل بعد غياب دام 20 عاماً. عادت على جثة حكومة الرئيس أشرف غني التي سقطت وسقط معها رهان الغرب على إقامة حكومة أفغانية مركزية تصل إلى السلطة، وترحل عنها، عبر صناديق الانتخابات. عودة «طالبان» مثّلت أيضاً هزيمة للولايات المتحدة التي حزمت حقائبها ورحلت عن بلاد استنزفتها، بشرياً ومادياً، على مدى عقدين من الزمن في «حرب لا تنتهي». لم تُهزم أميركا عسكرياً، لكن «نفس طالبان» كان أطول منها. كما أن الخروج من «مقبرة الإمبراطوريات» كان ضرورياً لتصويب البوصلة في اتجاه الخطر الحقيقي الذي يهدد استمرار الهيمنة الأميركية عالمياً. فهذا الخطر، كما يقول الأميركيون، لم يعد مصدره «الإرهاب الدولي» بقدر ما بات يأتي من خصوم كالصين وروسيا.
ماذا تعني عودة «طالبان» إلى السلطة؟ وهل هناك مخاوف حقيقية من تحوّل أفغانستان، في ظل حكمها، إلى نقطة جذب للجماعات المتشددة، كما كان الحال في نسخته الأولى قبل العام 2001؟
هذا التقرير يتناول بعض التحديات والتهديدات المتوقعة من أفغانستان الجديدة في ظل حكم «طالبان» بنسخته الثانية.

الطريق إلى كابل

تسلّمت حركة «طالبان» الحكم في العاصمة الأفغانية بعد السقوط الفوضوي لحكومة الرئيس أشرف غني في أغسطس (آب) الماضي. لم تحصل عملية تسلّم وتسليم، كما تصوّرها الأميركيون الذين راهنوا، في اتفاق الدوحة مع «طالبان» في 29 فبراير (شباط) 2020، على مفاوضات أفغانية - أفغانية تؤدي إلى تشكيل حكومة شراكة تضم الحركة وإدارة الرئيس غني. ضغط الأميركيون على غني للتنازل. تنازل، لكن ليس بالقدر الذي تريده «طالبان». ضغط الأميركيون أكثر. لم يستمع لهم. وفي الحقيقة، لم تكن «طالبان» مستعجلة لصيغة حكومة لا تشكل هي سوى جزء منها. فلماذا تنضم إلى حكومة مع غيرها ما دام في إمكانها أن تستحوذ عليها كلها؟ كان هذا الأمر واضحاً وضوح الشمس في الشهور التي سبقت فرار غني من كابل. فقوات الحكومة الأفغانية التي أنفق الأميركيون مليارات الدولارات على تدريبها وتجهيزها خلال السنوات العشرين الماضية، بدا فجأة كأنها فقدت الرغبة في القتال. كانت تسلّم مواقعها تباعاً أمام زحف «طالبان». ازدادت وتيرة الانهيار بعدما رفع الأميركيون الغطاء الجوي الذي كانوا يوفرونه لمواقع الجيش والشرطة الأفغانيين. والأرجح أن الجدل حول من يتحمل مسؤولية انهيار القوات الأفغانية سيستمر طويلاً. الأميركيون سيجادلون بأن الجنود الأفغان ألقوا أسلحتهم ولم يقاتلوا كما ينبغي. القادة الأفغان سيردون بأنهم ضحّوا بآلاف من جنودهم لكن الأميركيين تركوهم فريسة لأعدائهم بعدما بدأوا بإخلاء قواعدهم وتوقفوا عن تقديم الدعم للجيش الأفغاني، إلا في حالات محدودة جداً.
في منتصف أغسطس، كانت «طالبان» تطرق أبواب كابل. لم تهاجمها. فالتفاهم غير المعلن مع الأميركيين قضى بأن دخول العاصمة يتم باتفاق مع إدارتها. ما لم يتوقعه الأميركيون كان فرار غني، دون سابق إنذار ودون تنسيق معهم. كان غني يخشى، ربما، أن يلقى مصير الرئيس السابق نجيب الله الذي انتزعته قوات «طالبان» من مقر الأمم المتحدة في كابل عام 1996 وشنقته مع شقيقه على عمود إنارة في شارع عام. غني نفسه يبرر فراره بأنه أراد تجنيب العاصمة قتالاً دامياً في حال قرر البقاء والمقاومة.
تسبب فرار غني وسقوط حكومته في حالة هلع في أوساط آلاف الأفغان الذين عملوا على مدى سنوات ضمن إدارات الحكومة الأفغانية وأجهزتها الأمنية وباتوا الآن تحت رحمة خصومهم السابقين. كثير من الذين تجمعوا في العاصمة كانوا أصلاً من موظفي الحكومة وأفراد عائلاتهم ممن فروا من مناطق أخرى استولت عليها «طالبان». لم يكن أمام هؤلاء النازحين، وغيرهم من الخائفين من سكان كابل، أي وسيلة أخرى الآن للفرار بعدما سيطرت «طالبان» على معظم أرجاء البلاد وباتت تطوق كابل نفسها. المخرج الوحيد كان مطار حامد كرزاي الدولي. فتدفق هؤلاء إلى هناك بعشرات الآلاف، محاولين ركوب أي طائرة مغادرة عبر الجسر الجوي الذي أقامته الولايات المتحدة وحكومات أخرى لإجلاء الأجانب والمتعاونين معهم.
أعادت مشاهد الإجلاء الفوضوي للأجانب والأفغان من مطار كابل إلى الأذهان صور الانسحاب الأميركي من سايغون عام 1975 عندما تعلّق فيتناميون بطائرات وهي تُقلع من سطح السفارة الأميركية قبل سيطرة قوات «الفيتكونغ» على عاصمة ما كان يُعرف آنذاك بفيتنام الجنوبية. تكرر المشهد المحزن في كابل هذه المرة. حاول مواطنون أفغان التعلق بطائرات أميركية وهي تقلع من المطار، فسقطوا منها بعد قليل من إقلاعها. وستبقى، على الأرجح، صور الأفغان وهم يركضون وراء الطائرات المغادرة، رمزاً يذكّر الأميركيين، على مدى عقود مقبلة، بفشلهم في أفغانستان.

حكومة «طالبان»

دخلت «طالبان» كابل دخول المنتصرين. لم تلقَ أي مقاومة من القوات الحكومية السابقة التي خلع كثير من عناصرها زيهم العسكري وتجمعوا حول مطار العاصمة ينتظرون إجلاءهم، كعشرات الآلاف غيرهم من المحتشدين حول أسوار المطار أملاً بالفرار في أي طائرة مغادرة. والحقيقة أن «طالبان» لم تقم بما كان كثيرون يخشون قيامها به، وتحديداً ارتكاب فظاعات ضد خصومها السابقين. فقد أرسلت الحركة، عبر مسؤوليها الكبار الذين تسلموا مقاليد الحكم في كابل، رسائل طمأنة لجميع معارضيها بأنها لن تمسسهم بأذى وبأن صفحة جديدة فُتحت معهم وبأنها تريدهم أن يشكلوا جزءاً من مستقبل أفغانستان. والأكثر من ذلك، تحدثت الحركة عن رغبتها في تشكيل «حكومة جامعة»، وهو ما فُسّر بأنه يعني إشراك شخصيات محسوبة على الإدارة السابقة في السلطة الجديدة. والتقى مسؤولو «طالبان» بالفعل مع شخصيات بارزة من الحكم السابق ممن لم يغادروا كابل وبعضهم كان أصلاً جزءاً من مفاوضات الدوحة الفاشلة مع الحركة، مثل الرئيس السابق حامد كرزاي، ورئيس المجلس الأعلى للمصالحة عبد الله عبد الله. لكنّ هذه الاتصالات لم تسفر، كما يبدو، عن اتفاق على إشراك أيٍّ من هؤلاء في السلطة الجديدة. فقد أعلنت «طالبان» حكومتها الأولى من قياديين في الحركة من عرقية البشتون، مع تهميش واضح لمكونات أخرى في المجتمع الأفغاني، مثل الطاجيك والأوزبك والهزارة. والأكثر من ذلك، منحت «طالبان» مناصب بارزة في حكومتها لعناصر كانت سابقاً مدرجة على لوائح الإرهاب، مثل كبار قادة ما تُعرف بـ«شبكة حقاني»، أو لسجناء سابقين في غوانتانامو أو سجون الحكومة الأفغانية. أوحى ذلك بأن الحركة ربما تريد العودة إلى طريقة حكمها المتشدد بنسخته الأولى، علماً بأن هذه الخطوة يُمكن أيضاً أن تُفسّر بأنها نابعة من سعي «طالبان» إلى إرضاء شريحة من عناصرها ممن يرون أن «الانتصار» الذي تحقق إنما تم نتيجة تضحيات المقاتلين على الأرض وليس نتيجة مفاوضات القادة السياسيين مع الأميركيين في الدوحة.
في أي حال، وجدت حكومة «طالبان» الأولى نفسها فوراً أمام اختبار التحوّل من حركة تمرّد إلى سلطة مسؤولة عن توفير حاجات شعبها، وهي مهمة شاقة في بلد مثل أفغانستان، يفرّ منه أبناؤه المتعلمون، وتعاني مصارفه من خزائن فارغة، فيما ودائعه الخارجية مجمدة، واقتصاده منهار بعدما كان قائماً لسنوات طويلة على مساعدات تأتيه من الخارج لكنها جفّت الآن بعد سقوط الحكومة الأفغانية.
والأكثر من ذلك، وجدت حكومة «طالبان» نفسها أمام مخاوف وتحذيرات دولية من أزمة إنسانية بالغة الخطورة ستواجه ملايين الأفغان خلال فصل الشتاء القارس. وهذا الوضع الإنساني كان عاملاً أساسياً وراء تحرك دول إسلامية، بقيادة المملكة العربية السعودية وباكستان، لعقد اجتماع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، في ديسمبر (كانون الأول)، خُصص لمساعدة الشعب الأفغاني.

التحدي الإرهابي

لم تواجه حكومة «طالبان» الجديدة تحدياً يُذكر من بقايا النظام السابق الذي انهار بشكل سريع مع الانسحاب الأميركي. النواة الصلبة من هؤلاء انكفأت إلى معقلها التقليدي في وادي بنجشير، شمال كابل، والذي شكّل عقبة كأْداء أمام حكم «طالبان» الأول في تسعينات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة. لكنّ أحمد مسعود، نجل الزعيم الطاجيكي الشهير أحمد شاه مسعود، الذي صدّ «طالبان» في بنجشير ومنعها من إكمال سيطرتها على أفغانستان، فشل في تكرار إنجاز والده هذه المرة. فقد اقتحم مقاتلو الحركة معقله بعد معركة قصيرة وتمكنوا من إلحاق الهزيمة بأنصاره الذين فرّوا إلى دول أخرى أو انكفأوا للتحصن في جبال نائية. والحقيقة أن هؤلاء المعارضين لم يكن في إمكانهم صد الحركة رغم استفادتهم من صعوبة تضاريس منطقتهم. فقد كانوا معزولين عن العالم الخارجي، ولم يكن هناك طرف على استعداد لمدّهم بالسلاح في مواجهة الحكم الجديد في كابل (ناشد نجل مسعود الأميركيين دعمه لكنهم لم يستجيبوا لطلبه).
ولا يُعتقد أن هناك تهديداً جدياً يمكن أن يواجه حكم «طالبان» في السنة الجديدة على أيدي معارضيها المهمشين من إثنيات الطاجيك والأوزبك والهزارة.

التهديد «الداعشي»: «ولاية خراسان»

في مقابل غياب التهديد من فصائل النظام السابق والإثنيات المهمشة للحكم الجديد في كابل، تواجه «طالبان» تحدياً من نوع آخر. فهناك التهديد «الداعشي» الذي نشأ من نفس بيئة «طالبان» وبين قادتها المستائين من عدم تشددها بما فيه الكفاية. يتركز تهديد هؤلاء في ولايات شرق البلد، لا سيما في كونار وننغرهار حيث يتحصن مئات، وربما بضعة آلاف، من مقاتلي «ولاية خراسان»، فرع «داعش» في أفغانستان. وقد واجه هؤلاء قوات الأمن الأفغانية على مدى سنوات، مثلما تواجهوا مع مقاتلي «طالبان» الذين عجزوا عن إخضاعهم، رغم تلقيهم أحياناً دعماً جوياً من القوات الأميركية وقوات الحكومة الأفغانية السابقة. وقد برز خطر «الدواعش» بشكل خاص بعد سيطرة «طالبان» على الحكم وفتحها أبواب السجون التي كان يُحتجز خلفها عدد كبير من مقاتلي «ولاية خراسان» وقادتها. وسارع هذا التنظيم بالفعل إلى «عرض عضلاته» بسلسلة تفجيرات انتحارية. استهدف أولها القوات الأميركية المشرفة على الجسر الجوي في مطار كابل ما أدى إلى مقتل 13 عسكرياً أميركياً، فيما استهدف التفجيران الثاني والثالث مسجدين للشيعة الهزارة في قندوز وقندهار، ما أدى إلى سقوط عشرات الضحايا. ولم يكتفِ «ولاية خراسان» بهذه الهجمات بل لجأ أيضاً إلى شن عمليات خاطفة تمثلت على وجه الخصوص في زرع عبوات ناسفة استهدفت عناصر «طالبان» في شرق البلاد تحديداً. وردّت «طالبان»، كما يبدو، بعمليات قتل خارج نطاق القضاء في حق مقاتلي «داعش».
وليس واضحاً كيف سينتهي الصراع بين «طالبان» و«داعش»، لكن المؤشرات توحي بأن الطرف الأول لن يسمح للثاني بأن يشكل تهديداً لحكمه، ما ينذر بمواجهة أكبر بين الطرفين قد تشهدها السنة الجديدة.

التهديد الإرهابي الخارجي

لكنّ التهديد الإرهابي لا يقتصر في الواقع على «داعش»، إذ إن أفغانستان تواجه اليوم مخاطر التحول من جديد إلى ساحة اجتذاب من يُسمَّون «الجهاديين الأجانب»، كما كان عليه الحال في تسعينات القرن الماضي. آنذاك، خلال النسخة الأولى من حكم «طالبان»، كانت أفغانستان بمثابة «مصنع» لتفريخ المتشددين الذين كانوا يتدفقون إلى معسكرات أقامتها جماعات أجنبية عديدة لتدريب عناصرها قبل إرسالهم في عمليات خارجية. سرق تنظيم «القاعدة» الوهج من هؤلاء نتيجة قيامه بهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 انطلاقاً من أفغانستان. لكن الحقيقة أن الساحة الأفغانية آنذاك كانت قاعدة خلفية لعدد كبير من الجماعات المحظورة في بلادها والتي انتقلت للإقامة في ظل حكم الملا عمر، زعيم «طالبان». ولم تمنع مبايعة «القاعدة» للملا عمر قيام هذا التنظيم بهجمات 11 سبتمبر، وقبلها هجمات إرهابية عديدة أخرى، رغم الجدل داخل تنظيم أسامة بن لادن حول شرعية شن اعتداءات من دون الحصول على إذن زعيم «طالبان».
ويُفترض الآن أن بيعة «القاعدة» لزعيم «طالبان» ما زالت مستمرة بعد تولي الدكتور أيمن الظواهري القيادة خلفاً لأسامة بن لادن، وبعد تولي الملا أخوندزادة قيادة «طالبان» خلفاً للملا أختر منصور (الذي تولى بدوره قيادة الحركة بعد وفاة الملا عمر). ويكرر قادة «طالبان» اليوم تعهدهم بعدم السماح لأي جماعة بأن تستغل أراضي أفغانستان لتهديد طرف خارجي، ما يعني أن تنظيم الظواهري، أو أي تنظيم آخر، لن يكون حراً في تكرار شن هجمات انطلاقاً من أفغانستان. ويُفترض أن ذلك سيشمل، مثلاً، الإيغور الصينيين والأوزبك والطاجيك وجماعات عربية كانت تنشط سابقاً انطلاقاً من أفغانستان.
وليس واضحاً في الواقع ما إذا كان الظواهري نفسه قد انتقل أو يخطط للانتقال الآن للإقامة في أفغانستان، خصوصاً أنه قد يكون أكثر حرية في موقع اختبائه الحالي لمواصلة التحريض على شن هجمات ضد الأميركيين، وهو أمر دأب عليه في إصداراته الإعلامية، لكن «طالبان» ربما لن تسمح به الآن.
والواقع أن «القاعدة» ليست بحاجة ماسّة لأفغانستان، تحديداً، للتحضير لمهاجمة الأميركيين. فلديها خلاياها داخل مناطق القبائل بباكستان. ولديها وجود داخل إيران نفسها، بالتنسيق أحياناً مع أجهزة استخباراتها. كما أن فروعها ناشطة في أكثر من بلد، سواء من خلال حركة «الشباب»، فرع «القاعدة» في شرق أفريقيا، أو من خلال «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» و«تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي» في شمال أفريقيا والساحل الأفريقي. كما أن لـ«القاعدة» فرعها في سوريا ممثلاً بتنظيم «حراس الدين» الذي حافظ على الولاء للظواهري بعدما فكت «جبهة النصرة» بحُلّتها الجديدة (هيئة تحرير الشام) بيعتها له.
ووجود كل هذه الفروع لـ«القاعدة» يخفّف الضغط على قيادة التنظيم لاستخدام أفغانستان من جديد منطلقاً للتخطيط لهجماته. ولكن، رغم ذلك، ثمة معلومات متداولة على نطاق ضيق تشير إلى انتقال عناصر من «القاعدة» بالفعل مع عائلاتهم إلى مناطق في جنوب أفغانستان حيث يعيشون حالياً في ظل حكم «طالبان». لكن ليس واضحاً حتى الآن ما إذا كان وجودهم يمكن أن يتحول لاحقاً إلى نسخة مشابهة لما كان عليه وجود «القاعدة» في السابق. وستحمل السنة الجديدة مؤشرات أكثر وضوحاً على الأرجح لنوع العلاقة التي ستنشأ بين «طالبان» وضيوفها الجدد.

تيارات «طالبانية»

ولا شك أن وجود «الجهاديين الأجانب» مرتبط أيضاً بملف أفغاني داخلي محض له علاقة بوجود تيارات داخل «طالبان» تمثل فكراً أكثر تشدداً من تيارات أخرى. وفي هذا الإطار، سيكون من المهم جلاء موقف ما يُعرف بـ«شبكة حقاني» الواسعة النفوذ داخل هيكل الحكم الجديد لـ«طالبان» في كابل. وكان قد تردد على نطاق واسع في الأيام الأولى التي أعقبت سيطرة «طالبان» على العاصمة الأفغانية، في أغسطس الماضي، أن خلافاً كبيراً وقع بين قادة الحركة الذين انقسموا بين تيار عسكري تهيمن عليه «شبكة حقاني» وبين الجناح السياسي الذي فاوض الأميركيين في الدوحة ومثّله على وجه الخصوص الملا عبد الغني برادار. وأشارت معلومات آنذاك إلى أن العسكريين جادلوا بأن الفضل في «النصر» يعود بجزء كبير منه إلى تضحياتهم وليس إلى السياسيين الذين كانوا يفاوضون في فنادق فارهة ويجولون على عواصم العالم. وأثار غياب الملا برادار عن كابل وقتها إشاعات بأنه ذهب إلى قندهار للشكوى عند الملا أخوندزادة. لكن «طالبان» نفت وجود خلافات في صفوفها، مؤكدة أن «شبكة حقاني» جزء لا يتجزأ منها. في مقابل هذا النفي، يصرّ متشككون على أن «شبكة حقاني» تضم فعلاً أطرافاً أكثر تشدداً من غيرهم داخل «طالبان»، معتبرين أن نشاط الجماعات المتشددة الأجنبية يمكن أن يحصل على الأرجح في مناطق سيطرة هذه الشبكة بجنوب شرقي البلاد على الحدود مع باكستان. ولا شك أن هذا الرأي يتقاطع مع حقيقة أن فرع «طالبان» الباكستاني، «تحريك باكستان طالبان»، لديه امتداد واضح داخل مناطق جنوب شرقي أفغانستان، حيث يتخذ منها مقاتلو الحركة منطلقاً لهجماتهم داخل باكستان وملجأ للاختباء من رد القوات الباكستانية. وانطلاقاً من حقيقة هذا الارتباط بين «طالبان» الأفغانية و«طالبان» الباكستانية، لم يكن غريباً أن تلعب الأولى دوراً في ترتيب المفاوضات التي جرت أخيراً بين حكومة رئيس الوزراء عمران خان وقادة «تحريك طالبان».
وسيكون محورياً على الأرجح موقف الزعيم الأعلى لـ«طالبان» الأفغانية الملا أخوندزادة سواء لجهة حسم الخلافات داخل «طالبان» نفسها، بين السياسيين والعسكريين، أو لجهة العلاقة مع الجماعات الأجنبية المتشددة كـ«القاعدة» أو «تحريك طالبان»، خصوصاً أن هذه الجماعات التي تعيش في ظل حمايته يُفترض أن تكون مبايعة له. لكن القليل فقط يُعرف عن أخوندزادة الذي يسير، على ما يبدو، على خطى الملا عمر. فليس هناك سوى صورة واحدة له تم توزيعها لدى توليه قيادة «طالبان» خلفاً للملا أختر منصور قبل أعوام. والفارق الوحيد بينها وبين الصورة اليتيمة للملا عمر أن هذه الأخيرة كانت من بعيد وغير واضحة، بينما صورة أخوندزادة كانت «رسمية» يظهر فيها بوضوح. ولم توزع «طالبان» أبداً أي صور أخرى يظهر فيها وجه أخوندزادة الذي يبدو أنه يعيش منعزلاً في قندهار تاركاً إدارة الحكم في كابل لقادة حركته، مكتفياً بتوجيهات عامة للسياسات التي يفترض أن تتبعها حكومته.



«اعتقال نتنياهو وغالانت»: التزام أوروبي ورفض أميركي... ومجموعة السبع تدرس الأمر

بنيامين نتنياهو (يسار) ويوآف غالانت (أ.ب)
بنيامين نتنياهو (يسار) ويوآف غالانت (أ.ب)
TT

«اعتقال نتنياهو وغالانت»: التزام أوروبي ورفض أميركي... ومجموعة السبع تدرس الأمر

بنيامين نتنياهو (يسار) ويوآف غالانت (أ.ب)
بنيامين نتنياهو (يسار) ويوآف غالانت (أ.ب)

أعلنت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، اليوم (الجمعة)، أن وزراء خارجية مجموعة السبع سيناقشون خلال اجتماعهم يومي الاثنين والثلاثاء قرب روما، مذكرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، والتي شملت خصوصاً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وفق ما ذكرته «وكالة الصحافة الفرنسية».

وقالت ميلوني في بيان، إن «الرئاسة الإيطالية لمجموعة السبع تعتزم إدراج هذا الموضوع على جدول أعمال الاجتماع الوزاري المقبل الذي سيعقد في فيوجي بين 25 و26 نوفمبر (تشرين الثاني). وتستهدف مذكرات التوقيف الصادرة يوم الخميس، نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، وقائد الجناح العسكري لحركة «حماس» الفلسطينية، محمد الضيف.

وأضافت ميلوني: «هناك نقطة واحدة ثابتة: لا يمكن أن يكون هناك تكافؤ بين مسؤوليات دولة إسرائيل وحركة (حماس) الإرهابية».

رفض أميركي

وندَّد الرئيس الأميركي جو بايدن بشدة، أمس (الخميس)، بإصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر الاعتقال بحق نتنياهو وغالات، وعدّ هذا الإجراء «أمراً شائناً».

وقال بايدن في بيان: «دعوني أكُن واضحاً مرة أخرى: أياً كان ما قد تعنيه ضمناً المحكمة الجنائية الدولية، فلا يوجد تكافؤ بين إسرائيل و(حماس)». وأضاف: «سنقف دوماً إلى جانب إسرائيل ضد التهديدات التي تواجه أمنها».

المجر

بدوره، أعلن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الجمعة، أنه سيدعو نظيره الإسرائيلي إلى المجر في تحدٍ لمذكرة التوقيف الصادرة في حقه.

وقال في مقابلة مع الإذاعة الرسمية: «لا خيار أمامنا سوى تحدي هذا القرار. سأدعو في وقت لاحق اليوم نتنياهو للمجيء إلى المجر، حيث يمكنني أن أضمن له أن قرار المحكمة الجنائية الدولية لن يكون له أي تأثير».

وبحسب أوربان، فإن «القرار وقح ومقنّع بأغراض قضائية لكن له في الحقيقة أغراض سياسية»، ويؤدي إلى «الحط من صدقية القانون الدولي».

الأرجنتين

وعدّت الرئاسة الأرجنتينية أن مذكرتي التوقيف الصادرتين بحق نتنياهو وغالانت، تتجاهلان «حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها».

وذكر بيان نشره الرئيس الأرجنتيني خافيير ميلي بحسابه على منصة «إكس»، أن «الأرجنتين تعرب عن معارضتها الشديدة لقرار المحكمة الجنائية الدولية الأخير»، الذي يتجاهل «حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن نفسها في مواجهة هجمات مستمرة تشنها منظمات إرهابية مثل (حماس) و(حزب الله)».

وأضاف: «إسرائيل تواجه عدواناً وحشياً، واحتجاز رهائن غير إنساني، وشن هجمات عشوائية على سكانها. إن تجريم دفاع مشروع تمارسه دولة ما مع تجاهل هذه الفظائع هو عمل يشوه روح العدالة الدولية».

الصين

ودعت الصين، الجمعة، المحكمة الجنائية الدولية، إلى «موقف موضوعي وعادل» غداة إصدارها مذكرات التوقيف. وقال لين جيان الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية في مؤتمر صحافي دوري: «تأمل الصين في أن تحافظ المحكمة الجنائية الدولية على موقف موضوعي وعادل وتمارس صلاحياتها وفقاً للقانون».

بريطانيا

ولمحت الحكومة البريطانية، الجمعة، إلى أن نتنياهو يمكن أن يتعرض للاعتقال إذا سافر إلى المملكة المتحدة.

وقال المتحدث باسم رئيس الوزراء كير ستارمر للصحافيين: «هناك آلية قانونية واضحة ينبغي اتباعها. الحكومة كانت دائمة واضحة لجهة أنها ستفي بالتزاماتها القانونية». وأضاف: «ستفي المملكة المتحدة دائماً بالتزاماتها القانونية كما هو منصوص عليه في القوانين المحلية والقانون الدولي»، لكنه رفض الإدلاء برأي محدد في شأن رئيس الوزراء الإسرائيلي.

هولندا

بدورها، نقلت وكالة الأنباء الهولندية (إيه إن بي)، الخميس، عن وزير الخارجية، كاسبار فيلدكامب، قوله إن هولندا مستعدة للتحرّك بناءً على أمر الاعتقال الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية بحقّ نتنياهو، إذا لزم الأمر.

الاتحاد الأوروبي

وقال مسؤول السياسة الخارجية لدى الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، خلال مؤتمر صحافي، الخميس، إن جميع الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، ومنها دول أعضاء في الاتحاد، كلها ملزَمة بتنفيذ قرارات المحكمة. وأضاف بوريل: «هذا ليس قراراً سياسياً، بل قرار محكمة. وقرار المحكمة يجب أن يُحترم ويُنفّذ».

وكتب بوريل، في وقت لاحق على منصة «إكس»: «هذه القرارات ملزمة لجميع الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي (للمحكمة الجنائية الدولية) الذي يضم جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي».

آيرلندا

كذلك قال رئيس الوزراء الآيرلندي، سيمون هاريس، في بيان: «القرار... خطوة بالغة الأهمية. هذه الاتهامات على أقصى درجة من الخطورة». وأضاف: «آيرلندا تحترم دور المحكمة الجنائية الدولية. ويجب على أي شخص في وضع يسمح له بمساعدتها في أداء عملها الحيوي أن يفعل ذلك الآن على وجه السرعة»، مؤكداً أنه سيتم اعتقال نتنياهو إذا جاء إلى آيرلندا.

إيطاليا

وقال أنطونيو تاياني، وزير الخارجية الإيطالي، إن روما ستدرس مع حلفاء كيفية تفسير القرار واتخاذ إجراء مشترك. وأضاف: «ندعم المحكمة الجنائية الدولية... لا بد أن تؤدي المحكمة دوراً قانونياً، وليس دوراً سياسياً». بينما أكد وزير الدفاع الإيطالي جويدو كروزيتو، أن روما سيتعين عليها اعتقال نتنياهو إذا زار البلاد.

النرويج

أما وزير الخارجية النرويجي، إسبن بارت أيدي، فقال إنه «من المهم أن تنفذ المحكمة الجنائية الدولية تفويضها بطريقة حكيمة. لديّ ثقة في أن المحكمة ستمضي قدماً في القضية على أساس أعلى معايير المحاكمة العادلة».

السويد

وقالت وزيرة الخارجية السويدية، ماريا مالمر ستينرغارد، إن استوكهولم تدعم «عمل المحكمة» وتحمي «استقلالها ونزاهتها». وأضافت أن سلطات إنفاذ القانون السويدية هي التي تبتّ في أمر اعتقال الأشخاص الذين أصدرت المحكمة بحقّهم مذكرات اعتقال على أراضٍ سويدية.

كندا

بدوره، قال رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، إن بلاده ستلتزم بكل أحكام المحاكم الدولية، وذلك رداً على سؤال عن أمري الاعتقال بحقّ نتنياهو وغالانت. وأضاف، في مؤتمر صحافي، بثّه التلفزيون: «من المهم حقاً أن يلتزم الجميع بالقانون الدولي... نحن ندافع عن القانون الدولي، وسنلتزم بكل لوائح وأحكام المحاكم الدولية».

تركيا

ووصف وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي التوقيف، بأنه «مرحلة بالغة الأهمية».

وكتب فيدان على منصة «إكس»: «هذا القرار مرحلة بالغة الأهمية بهدف إحالة المسؤولين الإسرائيليين الذين ارتكبوا إبادة بحق الفلسطينيين أمام القضاء».

ألمانيا

قال شتيفن هيبشترايت، المتحدث باسم الحكومة الألمانية، الجمعة، إن الحكومة ستدرس بعناية مذكرتي الاعتقال الصادرتين بحق نتنياهو وغالانت، لكنها لن تخطو خطوات أخرى حتى تكون هناك بالفعل زيارة لألمانيا.

وأضاف هيبشترايت: «أجد صعوبة في تخيل أننا سنجري اعتقالات على هذا الأساس»، مشيراً إلى أنه كان من الضروري توضيح المسائل القانونية المتعلقة بمذكرتي الاعتقال. ولم يحدد ما هي هذه المسائل. ولم يرد على سؤال عما إذا كان نتنياهو محل ترحيب في ألمانيا.

وقال المتحدث إن موقف الحكومة الألمانية بشأن تسليم أسلحة إلى إسرائيل لم يتغير بعد إصدار مذكرتي الاعتقال، ولا يزال خاضعاً لتقييم كل حالة على حدة.

فرنسا

بدوره، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية، الخميس، إن ردّ فعل باريس على أمر المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو، سيكون متوافقاً مع مبادئ المحكمة، لكنه رفض الإدلاء بتعليق حول ما إذا كانت فرنسا ستعتقل نتنياهو إذا وصل إليها.

ورداً على سؤال خلال مؤتمر صحافي حول ما إذا كانت فرنسا ستعتقل نتنياهو، قال كريستوف لوموان إن السؤال معقد من الناحية القانونية، مضيفاً: «إنها نقطة معقّدة من الناحية القانونية، لذا لن أعلّق بشأنها اليوم».

أمل فلسطيني

وأفادت وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية الرسمية (وفا) بأن السلطة الفلسطينية أصدرت بياناً ترحب فيه بقرار المحكمة الجنائية الدولية. وطالبت السلطة جميع الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية وفي الأمم المتحدة بتنفيذ قرار المحكمة. ووصفت القرار بأنه «يعيد الأمل والثقة في القانون الدولي ومؤسساته».

وأصدرت المحكمة الجنائية الدولية، أمس (الخميس)، أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بخصوص «جرائم حرب في غزة»، وكذلك القيادي في حركة «حماس» محمد الضيف.

وقالت المحكمة، في بيان، إن هناك «أسباباً منطقية» لاعتقاد أن نتنياهو وغالانت ارتكبا جرائم، موضحة أن «الكشف عن أوامر الاعتقال هذه يصبّ في مصلحة الضحايا».

وأضاف بيان المحكمة الجنائية الدولية أن «قبول إسرائيل باختصاص المحكمة غير ضروري». وأشارت المحكمة الجنائية الدولية إلى أن «جرائم الحرب ضد نتنياهو وغالانت تشمل استخدام التجويع سلاح حرب... وكذلك تشمل القتل والاضطهاد وغيرهما من الأفعال غير الإنسانية».