الكاتبة الصومالية نظيفة محمد... عن الظلم ومغريات الصمت

تنافس على البوكر هذا العام وتقول «حين أكتب أشعر كما لو أنني أحيا»

نظيفة محمد
نظيفة محمد
TT

الكاتبة الصومالية نظيفة محمد... عن الظلم ومغريات الصمت

نظيفة محمد
نظيفة محمد

في روايتها الأولى، «ولد مامبا الأسود»، كتبت نظيفة محمد عن رحلة أبيها الشاقة من شرق أفريقيا إلى أوروبا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. روايتها الثانية «حديقة الأرواح الضائعة» تدون حيوات ثلاث من النساء في الصومال على أعتاب الحرب الأهلية. لكن في كتابتها لروايتها الأخيرة، «رجال الحظ»، كما تقول نظيفة، اتضحت معالم الأشياء بصفة نهائية.
تسرد الرواية الحكاية الحقيقية لمحمود متان، وهو بحار صومالي في ويلز شنق عام 1952 بعد أن اتهم ظلماً بقتل صاحب دكان.
كانت كتابة رواية «رجال الحظ» بالنسبة لنظيفة محمد، التي ولدت في الصومال ونشأت في إنجلترا، «تطهرية»، فرصة للعودة إلى عالم والدها إلى جانب كونها طريقة لمعالجة موت أحد أخوالها الذي قتل خارج دكانه في (مدينة) هارغيسا. الرواية واحدة من ست روايات تضمنتها القائمة القصيرة لجائزة البوكر لهذا العام، ونظيفة محمد أول كاتبة صومالية بريطانية تصل إلى القائمة النهائية. قررت دار نشر نوبف، ناشرتها الأميركية، تقديم موعد إطلاق الرواية إلى ديسمبر (كانون الأول) بدلاً من مارس (آذار) 2022.
في محادثة بالفيديو من منزلها في لندن أوائل هذا الشهر تحدثت نظيفة، التي بلغت الأربعين، عن الدافع وراء كتابتها هذه القصة، عن صلة القصة بحياتها وكيف مكنتها الكتابة من الاتصال بماضي أسرتها. وفيما يلي مقاطع محررة من الحوار معها:

> ولدت في الصومال وعشت في بريطانيا مذ كنت طفلة. كيف شكلت حياتك الرواية إن كان ذلك قد حدث فعلاً؟
- لم تكن متسقة لأنني عشت حياة يمكن وصفها بالسهلة. لكنها لم تكن أيضاً بالسهلة. لقد وصلت بريطانيا في الثمانينيات وجربت تصاعد العنف العنصري في أوائل التسعينيات حين كانت هناك تفجيرات وحوادث طعن وقتل من كل نوع، كان هناك إحساس بالعزلة التي يحس بها الأجنبي. لقد درنا دورة كاملة.
الإحساس بأنها بيئة غير آمنة، بيئة لا قيمة لك فيها، بل بيئة تحتقر فيها، ذلك ما أتفهمه. لم أجربها بالقدر الذي جربها محمود أو أبي أو أي شخص مثل أولئك. لكنها أيضاً بيئة لم تتغير بالطريقة التي يريد بها الناس أن تتغير.
> بموضوعات مثل الظلم العنصري والعنصرية المؤسسية وعنف الدولة، يتموضع كتابك في ماض يمكن المجادلة بقوة بأنه لا يزال معنا، لا سيما أن إنجلترا لا تزال تواجه، كما رأينا العام الماضي، ما يعنيه أن يكون المرء أسود وبريطانياً. هل كان هذا الكتاب محاولة لاستعادة العدالة أو المجادلة ضد ذلك التصور؟
- جاء هذا الكتاب سابقاً لأحداث العام الماضي وعلى نحو ما كان ثمة شعور بأن كل شخص كان ينتقل ليقف إلى جانبي، لأنني كنت دائماً أصرخ أو أهذي حول أوضاع مختلفة. فسواء كان ذلك ديفيد أولويل، الذي طارده البوليس حتى الموت عام 1969، أو جو غاردنر، الذي قتله الضباط أثناء ترحيله، أو جمي موبينغا، الذي قتل على رحلة للخطوط البريطانية، هذه الأشياء كانت دائماً تضغط علي بقوة. لم يكن صحواً مفاجئاً.
لقد كنت دائماً أرى هذا الجانب من الوضع، وهو ربما الذي مكنني من مواصلة الاهتمام بقصة محمود متان عبر كل تلك الأعوام، لأني كنت أعلم أن الوضع لن يتغير بسرعة. حتى في الوقت الحاضر حين أتحدث إلى الأطفال في أسرتي ويخبرونني عن تجاربهم مع العنصرية، الطريقة التي يتحدث بها المعلمون إليهم أو عنهم، يمكنك أن ترى أنهم جيل آخر مضطر لمواصلة الكفاح.
> قلت إنك وجدت بطريقة غريبة أن ثمة تشابهاً كبيراً بينك وبين محمود. هلا أوضحت ذلك؟
- وعيه السياسي انطلق من تجربة حية، وأظن أن ذلك ربما يصدق علي أيضاً. لا أستل مواقفي السياسية من النظريات النقدية، أستلها من تجربتي المعاشة بوصفي امرأة، امرأة سوداء، امرأة مسلمة سوداء. كل هذه تمكنني من التقاط القوة، حيث تكمن وحيث لا تكمن.
> كما أن لديه مسحة من التمرد قلت إنك تتماهين معها. كيف تتمظهر مسحتك أنت؟
- أظن أن ذلك يتمظهر في كوني كاتبة أولاً، وهو ما يتعارض نوعاً ما مع ما كانت أسرتي ستقول إنه إفادة جيدة من حياتي بوصفي خريجة أكسفورد وشخصاً أفاد من النظام التعليمي هنا بأكمله ولديها خيارات أخرى.
إن كونك كاتباً ترك الجامعة وتبدو عاطلاً ستكون موظفاً بذهنك ولكن على السطح تبدو كما لو أنك لا تفعل شيئاً. ومع ذلك فإن ثمة شيئاً تحرك فشعرت كما لو أنني عدت إلى الحياة. حين أكتب أشعر كما لو أنني أحيا.
إنني شديدة المقاومة للطريقة التي تعامل بها النساء في مجتمع الصومال وقوانينها. إن الصومال وأرض الصومال مختلفان جداً على عدة مستويات ولكنهما يتوحدان على مستوى معين، ذلك هو الرغبة في الإبقاء على النساء مواطنات من الدرجة الثانية. وذلك أمر لا يعجبني مطلقاً. وأشعر أنني ملزمة بأن أقول إنني «لست مخطئة، وإنكم مخطئون أيها الرجال وستدركون يوماً أنكم لا تستطيعون التصرف بهذا الشكل».
ذلك أنه من السهل أن تكون محبوباً إن التزمت الصمت. أعتقد أنني أفضل أن يستمع إلي بدلاً من أن أكون محبوبة... الشيء الذي استدعى اهتمامي أكثر من غيره في محمود كانت ثقته الخاطئة بالعدالة البريطانية.
> هل كان من الصعب عليك معالجة هذا الأمر؟
- حاولت أن أساير كل شيء فكر به، حتى لو لم تكن لدي ثقة مثله بالمؤسسات البريطانية. لكن علي أن أفهم لم فعل ذلك.
> هل وضحت ما تقصدين؟
- حسناً، إنني أعرف أكثر من ذلك. لقد مررت عبر النظام التعليمي، وأعرف حالات متنوعة من فشل العدالة، حالات تحتاج بطبيعة الحالات زمناً طويلاً قبل أن تكشف. لذا سواء كانت حالة أربعة غيلد فورد أو ستة برمنغهام أو حالة محمود متان، فقد كان هناك صدق أو صراحة أكبر حول حالات الفشل المؤسسي الذي لم يحدث بالطريقة نفسها في خمسينيات القرن الماضي.
غير أنني أعرف أن أي أشياء سيئة تحدث الآن لن نعرف عنها إلا بعد خمسين عاماً. حتى (حريق برج) غرينفيل، كانت لدي ثقة بأن الحريق حين حدث سينتهي إلى حل. كانت لدي ثقة بالأنظمة. ثقة بفرق الإطفاء، بكل شيء. ومع ذلك فإن تواجه بـ72 شخصاً بريئاً خسروا حياتهم. كان ذلك فقدانا هائلا للثقة بالمؤسسات بالنسبة لي.
> جئت إلى بريطانيا صغيرة جداً. كم كان عمرك؟
- أربعة أعوام.
> في أثناء كل ذلك الوقت كانت هناك حرب أهلية في الوطن. كيف تعاملت مع كل ذلك في تلك السنوات المبكرة من حياتك؟
- كان الوضع صعباً جداً لأن ماما رفضت الخروج، ونحن لم نرد الخروج، كان أجدادي هناك، كل أسرتي كانت هناك. لذا أنت تدخل بلاداً لا ترحب بك. ولم يعرف عن بريطانيا أنها بلاد ترحب. ولم يكن الطقس مرحباً. هناك من يعتني بك، لديك الخدمة الصحية الوطنية، التعليم المجاني، لديك كل ذلك، لكنها صلة شديدة البرودة. يستغرق الأمر وقتاً طويلاً تحتاجها الحميمية لكي تنمو مع بريطانيا، كما أظن. لكننا كنا نتوق إلى هذا المكان الذي تركناه، وفجأة ها أنت تراه على التلفزيون. اختفت الصومال عن الأعين بالنسبة لنا – ثم عاودت الظهور في حالة من الفوضى. في جوع. في عملية إعادة الأمل. في عنف. لكن جداتي صرن لاجئات، فقدت خالاً في مخيم للاجئين أصابه التيفوئيد أو التايفوس، وقتل خال آخر، وكان ذلك رابطاً. إنك لا تفهم تلك الروابط حتى يكون الوقت قد تأخر كثيراً، لكن خالي قتل خارج دكانه.
انتظر، لقد أدركت أن القتل الذي يحدث في «رجال الحظ» شبيه بما حدث لخالي، وهي فيما يبدو الطريقة التي يأخذك بها عقلك إلى أماكن تحتاج للذهاب إليها.
> ماذا يعني لك أن تكوني في القائمة القصيرة للبوكر؟
- معناه أن روايتي منحت هذه الحياة الإضافية، هذا الجمهور العالمي، ومعناه أن اهتماماً أكبر سيتجه إلى ما حدث لمحمود وكما أرجو للظلم المتكرر. وهناك شيء أود توضيحه، هو أنه كان فعلاً ضحية للظلم والتحيز العنصري، ولكن هذا الشيء يحدث للآخرين لأسباب مختلفة.
هذه الأنظمة موجودة في كل مكان من العالم، وتجد تبرير وجودها على أسس مختلفة. اتصلت بي مؤخراً منظمة في زيمبابوي تشن حملة من أجل إلغاء عقوبة الإعدام. لذا إن توفر لي أي نوع من الاتصال أو أي جزء من هذه الحوارات، فإن القيام بذلك يبدو بالنسبة لي شيئاً رائعاً وإنجازاً كبيراً ينجزه كتاب.

- ترجمة سعد البازعي (خدمة نيويورك تايمز)



جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
TT

جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب تسلّم جوائزها للفائزين وتطلق دورة عمانية

الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)
الفائزون بجائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في صورة جماعية مع راعي الحفل (العمانية)

أعلنت جائزة السُّلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب، عن إطلاق الدورة الثالثة عشرة للجائزة، المخصصة للعمانيين فقط، وتشمل فرع الثقافة (في مجال دراسات الأسرة والطفولة في سلطنة عُمان)، وفي فرع الفنون (في مجال الخط العربي)، وفي فرع الآداب في مجال (القصة القصيرة).

وجاء الإعلان في ختام حفل توزيع جوائز الدورة الـ12 للجائزة، الذي أقيم مساء الأربعاء بنادي الواحات بمحافظة مسقط، برعاية الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة، بتكليفٍ سامٍ من السُّلطان هيثم بن طارق.

وتمّ تسليم الجوائز للفائزين الثلاثة في مسابقة الدورة الثانية عشرة، حيث تسلّمت «مؤسسة منتدى أصيلة» في المغرب، عن مجال المؤسسات الثقافية الخاصة (فرع الثقافة)، وعصام محمد سيد درويش (من مصر) عن مجال النحت (فرع الفنون)، والكاتبة اللبنانية، حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب).

واشتمل الحفل على كلمة لمركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم ألقاها حبيب بن محمد الريامي رئيس المركز، استعرض فيها دور الجائزة وأهميتها، مؤكداً على أن الاحتفال اليوم يترجم استحقاق المجيدين للثناء، ليكونوا نماذج يُحتذى بها في الجد والعطاء.

حبيب بن محمد الريامي رئيس مركز السُّلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (العمانية)

وأشار إلى أن المدى المكاني الذي وصلت إليه الجائزة اليوم، والاتساع المستمر للحيز الجغرافي الذي يشارك منه المبدعون العرب على مدار دوراتها، يأتيان نتيجة السمعة الطيبة التي حققتها، واتساع الرؤى المعوّل عليها في مستقبلها، إلى جانب الحرص المتواصل على اختيار لجان الفرز الأولي والتحكيم النهائي من القامات الأكاديمية والفنية والأدبية المتخصصة، في المجالات المحددة للتنافس في كل دورة، ووفق أسس ومعايير رفيعة تكفل إقرار أسماء وأعمال مرموقة تليق بنيل الجائزة.

كما تضمن الحفل أيضاً عرض فيلم مرئي تناول مسيرة الجائزة في دورتها الثانية عشرة وآلية عمل اللجان، إضافة إلى فقرة فنية قدمها مركز عُمان للموسيقى.

يذكر أن الجائزة تأتي تكريماً للمثقفين والفنانين والأدباء على إسهاماتهم الحضارية في تجديد الفكر والارتقاء بالوجدان الإنساني، والتأكيد على الإسهام العماني، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً في رفد الحضارة الإنسانية بالمنجزات المادية والفكرية والمعرفية.

الدّكتور محمد بن سعيد المعمري وزير الأوقاف والشؤون الدينيّة العماني يكرم ابنة الفائزة حكمت الصبّاغ المعروفة بيمنى العيد عن مجال السيرة الذاتية (فرع الآداب) (العمانية).

وتُمنح الجائزة بالتناوب بشكلٍ دوري بحيث تخصّص في عام للعُمانيين فقط، وفي العام الذي يليه تكون للعرب عموماً، ويمنح كل فائز في الدورة العربية للجائزة وسام السُّلطان قابوس للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره مائة ألف ريال عُماني (260 ألف دولار)، أما في الدورة العُمانية فيمنح كُل فائز بالجائزة وسام الاستحقاق للثقافة والعلوم والفنون والآداب، ومبلغاً ماليّاً قدره خمسون ألف ريال عُماني (130 ألف دولار).

وأنشئت الجائزة بمرسوم سلطاني، في 27 فبراير (شباط) 2011، اهتماماً بالإنجاز الفكري والمعرفي وتأكيداً على الدور التاريخي لسلطنة عُمان في ترسيخ الوعي الثقافي، ودعماً للمثقفين والفنانين والأدباء خصوصاً، ولمجالات الثقافة والفنون والآداب عموماً، لكونها سبيلاً لتعزيز التقدم الحضاري الإنساني.


إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم
TT

إرفين ومارلين يالوم في رقصة الحياة الأخيرة

مارلين يالوم
مارلين يالوم

قد تكون العلاقة العاطفية التي جمعت بين كلّ من الكاتب والمعالج النفسي الأميركي إرفين يالوم، ومواطنته مارلين كونيك، الباحثة في شؤون الأدب المقارن والمرأة والحب، واحدة من أنجح العلاقات التي جمعت بين باحثين كبيرين في القرن المنصرم، وبداية القرن الحالي. على أن ثبات العلاقة بين الطرفين في وجه الزمن لم يكن ليتحقق لولا تصميمهما الراسخ على تخليص ارتباطهما الزوجي من طابعه النمطي الرتيب، وجعله مساحة للصداقة والتكامل الفكري وتشاطر النجاحات والخيبات.

الأرجح أن العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن المنصرم، واللذين جمعهما الحب في سن مبكرة، يتمثل في دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه ومشروعه الفكري والإبداعي. ففي حين عملت مارلين في جامعة ستانفورد الأميركية، باحثةً في شؤون المرأة والحب وتاريخ النساء والأدب المقارن، عمل إرفين في الجامعة نفسها، منصرفاً إلى التعليم والطب النفسي والكتابة الروائية. والأهم في كل ذلك أن أحدهما لم ينظر إلى الآخر بوصفه خصماً أو منافساً ينبغي تجاوزه، بل بوصفه شريكاً عاطفياً وإبداعياً، ومحفزاً على المزيد من التنقيب المعرفي والإيغال في طلب الحقيقة.

إرفين يالوم

وإذا لم يكن بالمستطاع التوقف المتأني عند أعمال مارلين المهمة، وبينها «شقيقات الدم» و«تاريخ الزوجة » و«ميلاد ملكة الشطرنج»، فلا بد من الإشارة إلى أن هذه الأعمال قد لاقت رواجاً واسعاً في أربع رياح الأرض، وتمت ترجمتها إلى أكثر من 20 لغة عالمية، فيما نال كتابها الشيق «كيف ابتكر الفرنسيون الحب» جائزة المكتبة الأميركية في فرنسا.

أما كتاب مارلين المميز «القلب العاشق»، فهو واحد من أفضل الكتب التي تصدت لموضوع القلب، سواء من حيث كون هذا الأخير عاصمة الجسد ومركزه ومنظم شؤونه، أو من حيث اعتباره عبر التاريخ منزل الحب ومقر الروح، والدريئة التي يسدد إليها كيوبيد سهام الحب، وفق الأسطورة اليونانية. ولأنه كذلك فقد تم تكريس دوره العاطفي المركزي في مختلف الأديان والفلسفات والمجتمعات، واحتفى به الشعراء والفنانون، وبات الشفرة الموحدة لعيد العشاق وهدايا المحبين. وفيما حرص إرفين من جهته على استثمار شغفه بالطب النفسي في الانغماس بالكتابة الروائية، فقد آثر عدم الابتعاد عن دائرة اختصاصه، ليصدر أعمالاً عميقة وفريدة في بابها، من مثل «علاج شوبنهاور» و«مشكلة سبينوزا»، ولينال جوائز عدة أهمها «جائزة سيغموند فرويد للعلاج النفسي».

وإذا كانت رواية إرفين المميزة «حين بكى نيتشه» قد حققت قدراً عالياً من الذيوع والانتشار، فليس فقط لأن مؤلفها تصدى لأحد أبرز فلاسفة الغرب النابغين بالقراءة والتحليل، بل لأن ذلك العمل دار على محورين بالغي الأهمية، محور العلاقة العاطفية الأحادية واليائسة التي جمعت بين نيتشه والكاتبة الروسية الجميلة على ذكاء مفرط لو سالومي من جهة، ومحور اللقاء الافتراضي بين صاحب «غسق الأوثان»، الغارق في تصدعه النفسي وآلامه الجسدية ويأسه الانتحاري، والطبيب النفسي اللامع جوزف بروير من جهة أخرى. وإذ عثر عالم النفس الشهير في مريضه الاستثنائي على واحد من أبرز فلاسفة الغرب وأكثرهم فرادة وجرأة، فقد عرض عليه صفقة رابحة للطرفين، تقضي بأن يعمل الطبيب على شفاء الفيلسوف من آلام الجسد، فيما يعمل الفيلسوف على شفاء الطبيب من آلام الروح.

وفي كتابه «التحديق في الشمس» الذي يستهله بمقولة دو لاروشفوكو حول تعذر التحديق في كلٍّ من الشمس والموت، يقدم إرفين لقرائه كل الحجج والبراهين التي يمكنهم من خلالها تجاوز مقولة الفيلسوف الفرنسي، والتغلب على رعبهم من الموت بوسائل عديدة ناجعة. وفي طليعة هذه الحجج تأتي حجة أبيقور ذات المنطق المحكم، ومفادها أن خوفنا من الموت لا معنى له، لأننا لا نوجد معه في أي زمان أو مكان، فحيث نكون لا يكون الموت، وحيث يكون الموت لا نكون نحن.

ويطرح يالوم في السياق نفسه فكرة الموت في الوقت المناسب، وعيش الحياة بالكامل، بحيث «لا نترك للموت شيئاً سوى قلعة محترقة»، كما فعل زوربا اليوناني. وإذ يذكّرنا المؤلف بقول هايدغر «إن الموت الحقيقي هو استحالة وجود احتمالية أخرى» يدعونا في الوقت نفسه إلى فتح أبواب الحياة أمام ضروب كثيرة من احتمالات العيش وخياراته، وعدم حصر الحياة في احتمال واحد. كما يخصص إرفين الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الجهود الشاقة التي بذلها في مساعدة مرضاه، بخاصة أولئك الذين طعنوا في المرض والعمر، على التخلص من رهاب الموت وفكرة العدم، مشيراً إلى أنه حقق نجاحات ملموسة في بعض الأحيان، وأخفق في أحيان أخرى.

العامل الحاسم في نجاح العلاقة بين الطرفين المولودين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي دعم كل منهما للآخر في تحقيق طموحاته وأهدافه

إلا أن إصابة مارلين بسرطان نقي العظم بدت بمثابة الحدث الزلزالي الذي كان إرفين يظن نفسه بمنأى عنه، كما هو حال البشر جميعاً، حتى إذا وقع في بيته وإلى جواره، بدت المسافة بعيدة بين النظرية والتطبيق، وأوشك بناؤه البحثي على التهاوي. وفي أوج الوضع الحرج للطرفين، اقترحت مارلين على زوجها، وبضربة ذكاء حاذقة، أن يقوما بمراوغة الكوابيس السوداء للمرض، من خلال القيام بوضع عمل سردي مشترك، يعرضان فيه ليوميات المواجهة الضارية مع السرطان، فيما يتكفل العمل من ناحية أخرى بحفظ اسميهما وتجربتهما العاطفية المشرقة في ذاكرة الأجيال.

وإذا كانت أهمية الكتاب المذكور الذي وضعا له عنوان «مسألة موت وحياة»، قد تجسدت في ما أثاره الزوجان من أسئلة وهواجس متصلة بقضايا الحب والصداقة والحياة والمرض والموت، وصولاً إلى معنى الوجود على الأرض، فإن المفارقة الأكثر لفتاً للنظر في الكتاب، لا تتمثل في تناوبهما الدوري على إنجاز فصوله فحسب، بل في الطريقة الهادئة والعقلانية التي تقبّلت بها الزوجة المريضة فكرة الموت، مقابل حالة الهلع والإنكار التي بدت على إرفين، وهو الذي طالما نصح مرضاه بأن يتقبلوا الزائر الثقيل بروح رياضية وتفكير رصين.

وفيما يتابع الزوجان في الكتاب ما تكابده مارلين من آلام، وما يطرأ على وضعها من تغيرات، يعمدان في بعض الأحيان إلى الهروب مما يحدث على أرض الواقع، عبر نقل المشكلة إلى إطار آخر يتعلق بمشكلات نظرية شائكة، أو الانكفاء باتجاه الماضي بحثاً عن الأطياف الوردية لسنوات زواجهما الأولى. كما يتبدل عصب السرد وأسلوبه تبعاً لحالة الزوجة، التي تقع فريسة القنوط القاتم في بعض الأحيان، فيما تحاول تجاوز محنتها أحياناً أخرى، عبر اللجوء إلى الدعابة السوداء والسخرية المُرة، فتكتب ما حرفيته «إننا نشكل زوجاً جيداً، فأنا مصابة بالسرطان النقوي، وهو يعاني من مشكلات في القلب واضطراب التوازن. فنحن عجوزان في رقصة الحياة الأخيرة».

أما المفارقة اللافتة في الكتاب، فلا تتمثل في سعي الزوجة المتألمة إلى إنهاء حياتها بواسطة ما يعرف بالموت الرحيم، أو بمكاشفة إرفين لمارلين برغبته في إنهاء حياته معها، وهو المصاب ببعض أعراض النسيان وبمرض في القلب، بل في رد مارلين المفعم بالدعابة والتورية اللماحة، بأنها «لم تسمع في كل أنحاء أميركا عن تابوت تقاسمه شخصان اثنان». والأرجح أن الزوجة المحتضرة، التي ما لبثت أن رحلت عن هذا العالم عام 2019، كانت تهدف من خلال إجابتها تلك لأن توصل لزوجها الخائف على مصيره رسالة مبطنة مفادها أنه لن يلبث أن يفعل إثر رحيلها ما يفعله الرجال في العادة، وهو الارتباط بامرأة أخرى تخفف عنه أثقال الوحشة والعجز والتقدم في السن. ومع أن الزوج الثاكل قد برر تراجعه عن فكرة الانتحار، برغبته في عدم خذلان مرضاه أو خيانة مسيرته المهنية، فإن لجوءه بعد رحيل زوجته إلى الزواج من الطبيبة النفسية ساكينو ستيرنبرغ، وهو في الثالثة والتسعين من عمره، كان سيقابل من قبل مارلين، لو قُدِّر لها أن تعلم، بأكثر ابتسامات النساء اتصالاً بالحيرة والإشفاق والدهشة الساخرة.


«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني
TT

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

«البيرق.. هبوب الريح»... اشتباك مع الموروث الشفاهي العماني

تستحضر الكاتبة العمانية شريفة التوبي في روايتها «البيرق... هبوب الريح»، التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية 2026، التاريخ بوصفه عنصراً رئيساً في مجمل أعمالها، مستلهمة الكثير من الحكايات التراثيّة، وقد أُعيد تشكيلها وبثّ الروح فيها من جديد.

تسبر التّوبي، في روايتها الجديدة، وهي خاتمة ثلاثية بعنوان البيرق، أغوار السّرد الشفاهي العُمانيّ، وتبحث في دهاليزه وعوالمه عن حكايات تتواءم مع الأفكار التي تريد مشاركتها مع القارئ، مقدمة نموذجاً في اشتباك الروائي المعاصر مع التاريخ والموروث الشفاهي.

في هذه الرواية التي صدرت هذا العام عن «الآن ناشرون وموزعون»، في عمّان، وجاءت في نحو 600 صفحة، بغلاف من تصميم الفنانة العُمانية بدور الريامي، تعود التّوبي إلى تلك الحكايات التي كان يرويها جدّها عن ذلك التاريخ القديم لعُمان.

تصوّر الروائيّة في الجزء الأول مقاومةَ سكّان حارة الوادي للوجود البريطاني الذي كان يفرض سيطرته على البلاد، في خمسينات القرن الماضي، ومناصرتَهم لحكم الإمام، في صراع غير متكافئ، تمخّضت عنه معاناة قاسية لأهل الوادي. ولأن هذه الحكاية لم تُذكر في كتب التاريخ، فقد نسجت الروائيّةُ خيوطها، وقدّمت أبطالها برؤية سردية أضاءت المناطق المعتمة في الحكاية، مازجةً الواقع بالخيال الفنيّ فقدمت وصفاً لطبيعة الحياة الشعبية وتفاصيل العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وتتناول التّوبي في الجزء الثاني أحداث الفترة التي سمَّاها المؤرخون «حرب الجبل»، التي دارت في المرحلة الزمنية «1956- 1959». إذ تقوم حبكة هذا الجزء على وقع الحرب التي دارت رحاها في خمسينات القرن العشرين وستيناته، بكل ما دفعه البسطاء من ثمن وتضحية.

وتستكمل التّوبي في الجزء الثالث «هبوب الرِّيح» أحداثَ هذا المسار التاريخي الذي شهد ولادة مقاومة وطنية ذاتِ توجهات ثورية (قومية وماركسية)، وهي مواجهة انتهت أيضاً إلى الهزيمة والنكوص لأسباب تتعلّق باختلال موازين القوى بين الطرفين. فقد بدت الحركة الوطنية وكأنها تحمل مزيجاً آيديولوجيّاً أُملِيَ من الخارج، ولم تنتجه خصوصية الواقع الاجتماعي والثقافي العماني.

تعتني التّوبي في روايتها الجديدة بالجانب الاجتماعي، بالمرأة، بالعائلة، بزوجة السجين أو المناضل وأمه، في النصف الثاني من عمر القرن الماضي، وقد سلّطت الضوء على المشاعر الداخلية التي يعيشها ذلك الإنسان الفقير الذي تغرّب في بقاع الأرض، باحثاً عن لقمة العيش وعن التعليم، وتفاجأ أن الحياة خارج الحدود لا تشبه داخل الحدود.

تحكي الرواية عن ذلك الإنسان الحالم بالتغيير في مرحلة زمنية كانت تعج بالأفكار الثورية التي سيطرت على مختلف أنحاء العالم، في مرحلة صعبة عاشها مجتمعنا العُماني، مرحلة لاقى فيها الفكر الشيوعي لدى الشباب العربي والخليجي قبولاً في تلك الفترة، وكان من السهل انسياق هؤلاء الشباب المغتربين لهذه الأفكار الجديدة.

وترصد الرواية الأسباب التي دفعت ثلّةً من الشباب للانضمام إلى «الفكر الجديد»، والتي كانت نابعة من حلمهم بالتغيير، فضلاً عن أن لكلٍّ منهم أسبابه الخاصة به. كما أوجدت الكاتبة في هذا الجزء شخصيات جديدة؛ مثل: «أحمد سهيل»، و«عبد السلام»، و«أبو سعاد»، و«باسمة»، و«طفول» الثائرة في وجه العادات والتقاليد والأعراف والرافضة للاستغلال والتهميش.

ويجد المتلقي نفسه يخوض في «هبوب الريح» تفاصيل الأحداث المفصلية كما خاضها الأبطال مع مجتمعهم وعائلاتهم وأنفسهم، وسيعيش أحداث تلك المرحلة من تاريخ عُمان، وسيعثر على إجابات لأسئلة حول مصائر الشخصيات التي التقاها في الجزأين، الأول (حارة الوادي)، والثاني (سراة الجبل).