«فجر المسرح المصري»... من الترفيه عن «الخديو» إلى قضايا الناس

الباحثة إيمان النمر تصحّح صورته بالوثائق والمذكرات وشهادات الفنانين

«فجر المسرح المصري»... من الترفيه عن «الخديو» إلى قضايا الناس
TT

«فجر المسرح المصري»... من الترفيه عن «الخديو» إلى قضايا الناس

«فجر المسرح المصري»... من الترفيه عن «الخديو» إلى قضايا الناس

كثيرة هي الكتابات حول تاريخ المسرح المصري، لكنها غالباً ما تقع أسيرة الانطباعات الشخصية أو التركيز على جانب ما دون آخر، أو تفتقد الجهد الحقيقي في البحث والتوثيق. كل هذه المآخذ تجنبتها الباحثة د. إيمان النمر في كتابها «المسرح المصري والمجتمع المصري - من النهضة إلى 1919»، الصادر عن دار الكتب والوثائق القومية مدعماً بوثائق مصرية وعربية وفرنسية، فضلاً عن مذكرات كوكبة من الفنانين والأدباء الرواد الذين كانوا بمثابة شهود عيان.
اعتمدت الباحثة منهج البحث التاريخي القائم على النقد والتحليل. وبداية تدحض مسلمات الدراسات التاريخية الحديثة بأن الحملة الفرنسية على مصر 1798 كانت جذوة تحضرنا، على نحو أعطى للاستعمار شرعيته، وصور بونابرت مخلّصاً وليس غازياً، وكأن حياتنا هنا في الشرق كانت منعدمة عن كل مظهر حضاري يشهد لإنسانيتنا بالوجود!؛ لافتة إلى أن هذه النظرة الكلاسيكية التغريبية تتجاهل، بل تلغي الذات الاجتماعية الفاعلة التي قاومت وثارت من أجل تحررها. وتؤكد على سبيل المثال، أن المسرح المصري لم ينشأ على أكتاف الفرنسيين لأن الممثلين الذين جاءوا إلى مصر، كان كل همهم تسلية ورفاهية جنود ورعايا وطنهم الغازي. ولم يكن مسرح الجمهورية والفنون الذي أنشأه «جيفال» الحارس الخاص لبونابرت في منطقة «الأزبكية» بالقاهرة يختلف كثيراً عن العروض المسرحية الشعبية التي كانت تقدمها الفرق المتجولة في الشوارع. إذ يقول أحد الرحالة الذين جاءوا إلى مصر عام 1780: «لم نكن نتوقع رؤية عرض مسرحي في مصر... وعند وصولنا القاهرة وجدنا فرقة كبيرة من الممثلين مكونة من مسلمين ومسيحيين ويهود وكان يدل مظهرهم على قلة المال الذي كانوا يحصلون عليه في هذا القطر فكانوا يذهبون لعرض مسرحياتهم في البيوت حيث كان يدفع لهم أجراً زهيداً جداً».
وتنوه الباحثة بأن المجتمع المصري كان يمتلك وعياً موروثاً هائلاً من التراث الشعبي مثل السيرة الهلالية وعنترة والظاهر بيبرس وحكايات ألف ليلة وليلة والزير سالم وغيرها، وكانت تلقى بأداء تمثيلي يحاكيها ويصلها بوجدان الناس فعرفت البلاد ما يسمى بالحكواتي أو الراوي والسامر ومنشد الربابة الذين يطوفون بالقرى والشوارع والحواري في مناسبات الموالد وغيرها.
وتذكر أن سعيد باشا اهتم بإقامة مجموعة من المسارح والملاهي بحدائق قصر القباري بالإسكندرية وكان يقام فيها حفلات نهارية وليلية تعرض شتى فنون الأوبرا والباليه، تعبيراً عن حفاوته وترحيبه بالجالية الأوروبية التي ساندته ورحبت باعتلائه العرش ومن هنا تم مأسسة وحوكمة المسرح، إذ أصبح مؤسسة لها قوانينها الإدارية والتنظيمية تحت إشراف ورعاية السلطة الحاكمة نفسها.

نشأة المسرح المصري

تتابع الباحثة: في عهد الخديو إسماعيل (1863 - 1879) نشأ المسرح المصري بحلته الحديثة في ظل طفرة متنوعة من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تهدف إلى تحديث مصر على النمط الأوروبي. وقد أنشئ ذلك المسرح بالطرف الجنوبي بالأزبكية في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1867 في مدة وجيزة لم تتعدَ 40 يوماً، حيث تم الافتتاح في مساء 4 يناير (كانون الثاني) 1868 وهو ما أثار تعجب المؤرخ إلياس الأيوبي حين تحدث عنه واصفاً إياه بأنه كان شديد الفخامة ومزين بأبهى الرسوم والزخارف، لا سيما تلك الأماكن التي خصصت للخديوي والأميرات. وقد أراد إسماعيل أن يكون ذلك المسرح على غرار مسرح المنوعات بباريس لتقديم العروض المتنوعة ما بين الكوميدي والأوبرا. ولذلك تم الاتفاق مع «ماناس»، وهو مخرج فرنسي من أصل أميركي للتعاقد مع ثلاثين ممثلاً وممثلة من فرنسا وتم الافتتاح بأوبرا «هيلين الجميلة» من تلحين «أونباخ» 1819 - 1880. وهو مؤلف فرنسي من أصل بروسي. وحضر الافتتاح كثير من الشخصيات المهمة على رأسهم الخديو إسماعيل وولي العهد توفيق وكبار موظفي الدولة وقناصل الدول الأوروبية وبلغ من النجاح درجة جعلت إدارة المسرح تضع المقاعد في الأروقة الخالية من القاعة. ومما يلفت الانتباه وجود ما سمي بجورنال «لوبرجرام التياترات» المصرية وكان يطبع بمطبعة الخواجة «دلبوس دموريث» بالأزبكية، وتبين أن أول إصداراته كان مع افتتاح المسرح الكوميدي ووظيفته كانت نشر برنامج العروض المسرحية ومواعيدها، وكتابة المقالات النقدية والتوعية بفن المسرح في ثوبه الأوروبي الحديث. والتعرف على أسماء بعض العروض المسرحية منها «فرنندة وأسرار الصيف» التي حرص الخديو إسماعيل على حضورها وقام بالتصفيق الحار للمثلين والممثلات.
وتوضح الباحثة أنه من طبيعة العروض المقدمة آنذاك يمكن أن نستشف نوعية البنية الموضوعية لتلك العروض المسرحية، إذ تعكس نمط العلاقات العاطفية بين أروقة وغرف القصور الأرستقراطية وتزاوج السلطة بالغواية، حيث لا انشغال بقضية ولا فكرة ولا هم حقيقي، فالحاكم يذهب للمسرح كي يلهو. ومن الطلبات المتكررة من بعض المخرجين لاستغلال المسرح الكوميدي بشكل أفضل نستنتج مروره بأزمات حقيقية ستتفاقم وتظهر جلياً في المواسم التالية. وقد توالت خسارته خلال موسم 1873 - 1874 رغم ارتفاع معدلات الإنفاق الخاصة بالمسارح التي أثقلت بقروض استدانة من بنك «الأنجلو إيجيبسيان». وكان الموسم المسرحي 1874 - 1875 لا يقل في تفاصيله ولا ميزانيته عن العام السابق حيث قدرت بمليون ومائتي ألف فرانك، إضافة إلى مبلغ ستة عشر ألف ليرة أسترالينية. وكان يتم شراء لوحات جديدة كل موسم مسرحي بقيمة مالية ثابتة بلغت 6560 فرنكاً.

عروض الإسكندرية

يذكر الكتاب أن مدينة الإسكندرية شهدت نشاطاً ملحوظاً للفرق الأجنبية المختلفة، نظراً لطبيعتها الثقافية والتاريخية والجغرافية التي تركزت فيها الجاليات الأجنبية المتنوعة، لا سيما من بلاد حوض البحر المتوسط مثل الإيطاليين واليونانيين، إضافة إلى كون الإسكندرية ميناء وصول ووداع الفرق الأجنبية الآتية لتقديم عروضها بالمسارح الخديوية بالقاهرة، والتي كانت تستكمل موسمها على مسارح الإسكندرية على سبيل الترفيه لجاليات بلادها. وكان من أهمها مسارح: الكونت دي زيزينيا والمسرح العباسي ومسارح الحمراء والبرداويز والهمبرا.
وتذكر الباحثة أنه لم يكن يُسمح للفرق الشامية بتقديم عروضها على المسارح الخديوية إلا بعد انتهاء الفرق الأوروبية من مواسمها المتعاقد عليها وفي ليال محدودة، ومن نماذج هذه الفرق فرقة سليم النقاش الذي اتسم بالذكاء، إذ استغل إمكانياته ومهاراته الاجتماعية للحصول على موافقة مجيء فرقته إلى مصر. والإطراء والتمجيد لشخص الخديوي إسماعيل في افتتاحية كل من مسرحية «عايدة» و«مي» وإهدائه الأخيرة للخواجة أنطونيادس أحد الأجانب المشهورين المقيمين بالإسكندرية.
كان من الطبيعي أن تهتم جريدة الأهرام التي أسسها الأخوان اللبنانيان بشارة وسليم تقلا في ديسمبر (كانون الأول) عام 1875 بالإعلان عن نشاط الفرقة بصفتها فرقة لبنانية وأن ترصد تنقلاتها ومواعيدها وحث الناس على متابعة وحضور عروضها التي كان أولها مسرحية «هارون الرشيد» ثم رواية «الحسود السليط» كما كتب الشيخ محمد عبده فقرة عن سليم النقاش واصفاً إياه بـ«حضرة الشاب النبيه الجليل والذكي وأن مجيئه إلى مصر أحد المظاهر الحضارية التي تحسب للخديوي إسماعيل»، وتلك كانت لفتة مهمة من رجل دين شهير يتحدث عن الفن وممثليه بوصفه مظهراً حضارياً.
وخلال شهر أبريل (نيسان) عام 1882 قدمت فرقة سليمان القرداحي ثماني روايات على مسرح دار الأوبرا الخديوية بدأتها برواية «تليماك»، وهي من أشهر الروايات التي كررتها دار الأوبرا في حفلاتها ومواسمها آنذاك. وفي عام 1900 تقدم القرداحي بطلب إلى نظارة «وزارة» الأشغال للحصول على تعويض مادي مقابل هدم مسرحه بالإسكندرية أو بناء مسرح آخر له في الأزبكية، وقد اتضح من الطلب والتقارير التي بين نظارة الأشغال والجهات المختصة أن الفرقة تقريباً منذ عام 1897 أصبحت في منحنى الانهيار والإفلاس.

جدل الريادة

تتطرق المؤلفة إلى قضية مهمة تثار عادة مشحونة بالكثير من الجدل وهي قضية ريادة يعقوب صنوع للمسرح المصري حيث تشير إلى أن صنوع 1839 - 1912 ولد من أبوين إيطاليين وقد أجمعت عديد من الدراسات العربية والأجنبية التي أرخت لتاريخ المسرح المصري أنه رائد ومؤسس المسرح المصري عام 1870 واستندت بشكل أساسي على إحدى محاوراته المنشورة بصحيفة أبو نظارة وفيها ذكر أنه أنشأ «تياترو عربي للمصريين امتد وجوده إلى عامين». وذكر أنه أنشأ مسرحه في مقهى موسيقي بحديقة الأزبكية 1870 متأثراً بالفرق الإيطالية والفرنسية في مصر. وبحسب صنوع استطاعت الفرقة أن تحقق نجاحاً جماهيرياً باهراً استدعى أن يضم إلى فرقته فتاتين تقومان بالأدوار النسائية بدلاً من الصبيان الصغار.
تتحفظ الباحثة على ريادة صنوع استناداً إلى عدم وجود أي وثائق رسمية أو دوريات أو دراسات معاصرة للفترة الخاصة بصنوع الذي تحدث عن تجربته بما لا يتناسب مع حجم الشهرة والنجاح الجماهيري والنخبوي الذي بلغته مسرحياته. وتشير إلى عدم وجود تاريخ محدد لتأسيس ذلك المسرح أو إغلاقه والاكتفاء بتحديده ما بين عامي 1870 – 1872 وأيضاً عدم العثور على أي أوامر معلنة تثبت منح الخديوي إسماعيل لقب «موليير مصر» لصنوع الذي يبالغ مبالغة شديدة حين يتحدث عن عروض فرقته ويقول إنها تجاوزت المئات خلال عامين فقط!
يقع الكتاب في 250 صفحة من القطع الكبير، وقد بذلت فيه الباحثة جهداً مشهوداً ونجحت في عمل توازن بين الرصد التاريخي الموثق وبين التحليل المبني على أسس موضوعية، لكن ورود قائمة الهوامش والإشارات في ذيل كل فصل أدى إلى قطع تسلسل وتدفق السرد، حيث تبلغ هذه الهوامش في بعض الحالات 15 صفحة وكان يُفضل أن تبقيها في نهاية الكتاب مرة واحدة إلى جوار قائمة المراجع.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!