التجاذب الروسي – الأطلسي حول أوكرانيا بين المناورات السياسية واحتمالات الحرب

جنود روس خلال تدريب في منطقة روستوف بجنوب البلاد (أ.ب)
جنود روس خلال تدريب في منطقة روستوف بجنوب البلاد (أ.ب)
TT

التجاذب الروسي – الأطلسي حول أوكرانيا بين المناورات السياسية واحتمالات الحرب

جنود روس خلال تدريب في منطقة روستوف بجنوب البلاد (أ.ب)
جنود روس خلال تدريب في منطقة روستوف بجنوب البلاد (أ.ب)

كلام عالي النبرة، تهديد بعقوبات، أكثر من 100 ألف جندي على الحدود...
هل ستحصل الحرب فعلاً بغزو روسي لأوكرانيا وردّ حاسم من حلف شمال الأطلسي (ناتو)؟
يتهم الرئيس الأميركي جو بايدن ورهط من حلفائه الأوروبيين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتخطيط لغزو الجارة الأقرب التي خرجت من الحضن الروسي قبل سنوات واختارت المعسكر الغربي، ليصل الأمر برئيسها فولوديمير زيلينسكي إلى طرق باب «الناتو» بإلحاح طالباً بطاقة عضوية فيه.
والواقع أن أوكرانيا قامت في الآونة الأخيرة بسلسلة خطوات أثارت قلق موسكو بشكل حاد، فهي تطلب شراء أسلحة غربية، وحصلت على طائرات مسيّرة تركية استخدمتها في حربها مع الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق البلاد حيث أُعلنت قبل سنوات جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك، بالإضافة إلى رغبتها في اكتساب «الجنسية الأطلسية».

*التاريخ والقلق
لفهم الوضع بين روسيا وأوكرانيا يجب النظر إلى الماضي القريب على الأقلّ، وتحديداً عندما انهار الاتحاد السوفياتي وفقد السيطرة على الأراضي الحدودية الغربية التي كانت حجر الزاوية لأمنه على مدى مئات السنوات. وبالطبع لا بد لدولة بحجم روسيا أن يكون لها مدى حيوي، لكن هذا المجال ما انفكّ يتقلص من أكثر من جهة، خصوصاً غرباً على حدود أوروبا وجنوباً في القوقاز، بحيث صارت يد الغرب، وتحديداً اليد الأميركية، قادرة على الوصول إلى العمق الروسي بسهولة.
بالتالي، ترى روسيا هشاشة في أمنها على الحدود الغربية بعدما فقدت أوكرانيا، فيما أحاطت الأخطار بخاصرتها البيلاروسية مع تعرض حكم الرئيس ألكسندر لوكاشنكو لاهتزاز دفع فلاديمير بوتين إلى دعمه لئلا تؤول السلطة إلى قوى المعارضة الغربية الهوى. وعملياً، أحكم بوتين قبضته على بيلاروسيا التي تشكل جغرافياً المسلك الأسهل والأمثل لأي هجوم بري من أوروبا على روسيا. ثم كان على «القيصر» أن يركز جهوده على أوكرانيا التي لا تبعد حدودها سوى بضع مئات الكيلومترات عن موسكو، وهذا بالمعنى الاستراتيجي – العسكري يشكل نقطة ضعف ومسألة وجودية بالنسبة إلى روسيا، وورقة قوة بالغة الأهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وترى موسكو أن عدم اعتراف واشنطن بمخاوفها في هذا الإطار يشي بأن الثانية تبيّت نيّات عدوانية خطيرة. لذا طالب بوتين بكل وضوح بـ«ضمانات جادة وطويلة الأجل تحفظ أمن روسيا في هذه المنطقة (حدودها الغربية)، لأن روسيا لا يمكنها أن تفكر باستمرار في ما يمكن أن يحدث هناك غدًا».
كان هذا الكلام قبل لقاء بايدن وبوتين الأخير عبر الفيديو، وفيه حذّر ساكن البيت الأبيض ساكن الكرملين من «عواقب اقتصادية وخيمة» إذا غزت القوات الروسية أوكرانيا، ويقال إنه قدم لمحدّثه ضمانات بعدم القيام بعمل عسكري في حال حصول غزو مكتفيا بالرد الاقتصادي الموجع. فهل يَقنع بوتين بذلك أم يريد المزيد؟
هنا يمكن أن نستشف جزءاً من الجواب من طلب وزارة الخارجية الروسية رسمياً بعد اللقاء المذكور بثلاثة أيام من «الناتو» أن يلغي رسميا قراره الصادر عام 2008 بفتح الباب أمام انضمام جورجيا وأوكرانيا، وكذلك وقف مناوراته العسكرية قرب حدود روسيا.
غير أن الأمين العام لـ«الناتو» ينز ستولتنبرغ سارع إلى رفض ذلك مؤكداً أن روسيا لا تستطيع أن تملي على الحلف ما تريده وما لا تريده...

*أكثر من سيناريو
يرى محللون أن تمنّع «الناتو» عن التجاوب مع مطلبَي موسكو لن ينعكس رداً في الأراضي الأوكرانية نفسها لأن بوتين ليس من المغامرين المتهورين بل يحسب خطواته جيداً، لذلك قد يكتفي بمواصلة عرض العضلات العسكرية على حدود أوكرانيا – وإن في عزّ الشتاء القاسي - إنما في موازاة التصعيد في منطقة دونباس، اي دونيتسك ولوغانسك. وهو لا يتأخر في استعمال القوة عندما يضمن أن ذلك لن يعود عليه بضرر كبير، وهذا ما فعله عندما أرسل جيشه عام 2014 إلى شبه جزيرة القرم وأخذ «مفاتيح» المنطقة ليسلخها عن أوكرانيا ويضمها – أو «يستعيدها» كما يقول – إلى روسيا.
في المقابل، ثمة من يرى أن أوكرانيا تستعد عسكريا لاستعادة دونيتسك ولوغانسك، ولن يعتبرها أحد معتدية إذا فعلت ذلك لأن العالم يعترف بأن المنطقتين أوكرانيتان، وذلك على عكس أي تدخل روسي مباشر هناك ستعتبره الأسرة الدولية عملاً عسكرياً في أراضي دولة أخرى، كما حصل عندما تدخلت روسيا في جورجيا عام 2008 لنصرة أوسيتيا الجنوبية.
هناك أيضاً احتمال آخر مؤداه أن القوات الروسية المحتشدة على الحدود الأوكرانية قد تحتل مناطق معينة من دون القيام بغزو شامل. ويستدل أصحاب هذه الفرضية على ذلك بالقول إن حجم القوة المحشودة لا يسمح بقهر الجيش الأوكراني كله، لكنه كفيل بضمان احتلال الروس مناطق أوكرانية بهدف كسب أوراق تجعلهم يفاوضون المعسكر الغربي من موقع «هجومي» متقدم لا من موقع «دفاعي» هشّ.
لا شك في أن هذا الصراع سيستمر فصولاً في المدى المنظور مع تحرك الصفائح الجيوسياسية في منطقة لطالما كانت في قلب الحروب وتَغَيّر السيطرة. والمؤكد في الصراع الروسي – الأوكراني وما بعده ووراءه أن الوضع لن يكون كما كان عليه سابقاً. وهنا يبرز المخرج الآتي: تقترح روسيا الفدرلة بحيث تنال كل من لوغانسك ودونيتسك قسطاً جيداً من الإدارة الذاتية مقابل تحييد أوكرانيا عن النزال الغربي – الروسي وضمان أمنها الضروري من أجل حل مشاكلها الاقتصادية الضاغطة.
الأسابيع والأشهر المقبلة كفيلة بالإجابة وبرسم ملامح مستقبل منطقة إذا اندلعت فيها نيران حرب فإنه لمن المؤكد أن ألسنة اللهب ستتمدد منها في كل الاتجاهات.



موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
TT

موسكو تلعب على التصعيد النووي في انتظار عودة ترمب إلى البيت الأبيض

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال اجتماع في موسكو 21 نوفمبر 2024 (رويترز)

يشكّل تحديث العقيدة النووية لروسيا الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخراً، تحذيراً للغرب، وفتحاً ﻟ«نافذة استراتيجية» قبل دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب البيت الأبيض، وفق تحليل لصحيفة «لوفيغارو» الفرنسية.

«إن تحديث العقيدة النووية الروسية يستبعد احتمال تعرّض الجيش الروسي للهزيمة في ساحة المعركة»، بيان صادر عن رئيس الاستخبارات الخارجية الروسية، سيرغي ناريتشكين، لا يمكن أن يكون بياناً عادياً، حسب «لوفيغارو». فمن الواضح، حسب هذا التصريح الموجه إلى الغربيين، أنه من غير المجدي محاولة هزيمة الجيش الروسي على الأرض، لأن الخيار النووي واقعي. هذه هي الرسالة الرئيسة التي بعث بها فلاديمير بوتين، الثلاثاء، عندما وقّع مرسوم تحديث العقيدة النووية الروسية المعتمد في عام 2020.

ويدرك الاستراتيجيون الجيوسياسيون الحقيقة الآتية جيداً: الردع هو مسألة غموض (فيما يتعلّق باندلاع حريق نووي) ومسألة تواصل. «وفي موسكو، يمكننا أن نرى بوضوح الذعر العالمي الذي يحدث في كل مرة يتم فيها نطق كلمة نووي. ولا يتردد فلاديمير بوتين في ذكر ذلك بانتظام، وفي كل مرة بالنتيجة المتوقعة»، حسب الصحيفة. ومرة أخرى يوم الثلاثاء، وبعد توقيع المرسوم الرئاسي، انتشرت موجة الصدمة من قمة مجموعة العشرين في كييف إلى بكين؛ حيث حثّت الحكومة الصينية التي كانت دائماً شديدة الحساسية تجاه مبادرات جيرانها في ما يتصل بالمسائل النووية، على «الهدوء» وضبط النفس. فالتأثير الخارق الذي تسعى روسيا إلى تحقيقه لا يرتبط بالجوهر، إذ إن العقيدة النووية الروسية الجديدة ليست ثورية مقارنة بالمبدأ السابق، بقدر ارتباطها بالتوقيت الذي اختارته موسكو لهذا الإعلان.

صورة نشرتها وزارة الدفاع الروسية في الأول من مارس 2024 اختبار إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات تابع لقوات الردع النووي في البلاد (أ.ف.ب)

العقيدة النووية الروسية

في سبتمبر (أيلول) الماضي، وفي حين شنّت قوات كييف في أغسطس (آب) توغلاً غير مسبوق في منطقة كورسك في الأراضي الروسية، رد فلاديمير بوتين بتحديد أنه يمكن استخدام الأسلحة النووية ضد دولة غير نووية تتلقى دعماً من دولة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة. لكن في نسخة 2020 من الميثاق النووي الروسي، احتفظت موسكو بإمكانية استخدام الأسلحة الذرية أولاً، لا سيما في حالة «العدوان الذي تم تنفيذه ضد روسيا بأسلحة تقليدية ذات طبيعة تهدّد وجود الدولة ذاته».

وجاء التعديل الثاني في العقيدة النووية الروسية، الثلاثاء الماضي، عندما سمحت واشنطن لكييف باستخدام الصواريخ بعيدة المدى: رئيس الكرملين يضع ختمه على العقيدة النووية الجديدة التي تنص على أن روسيا ستكون الآن قادرة على استخدام الأسلحة النووية «إذا تلقت معلومات موثوقة عن بدء هجوم جوي واسع النطاق عبر الحدود، عن طريق الطيران الاستراتيجي والتكتيكي وصواريخ كروز والطائرات من دون طيار والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت». وحسب المتخصصة في قضايا الردع في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (إيفري)، هيلواز فايت، فإن هذا يعني توسيع شروط استخدام السلاح النووي الروسي.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب خلال اجتماع على هامش قمة مجموعة العشرين في أوساكا باليابان 28 يونيو 2019 (رويترز)

انتظار عودة ترمب

لفترة طويلة، لاحظ صقور الاستراتيجية الجيوستراتيجية الروسية أن الردع الروسي تلاشى. وبالنسبة إليهم، فقد حان الوقت لموسكو لإعادة تأكيد خطوطها الحمراء من خلال «إعادة ترسيخ الخوف» من الأسلحة النووية، على حد تعبير سيرغي كاراجانوف، الخبير الذي يحظى باهتمام فلاديمير بوتين. ةمن هذا المنظار أيضاً، يرى هؤلاء المختصون اندلاع الحرب في أوكرانيا، في 24 فبراير (شباط) 2022، متحدثين عن «عدوان» من الغرب لم تكن الترسانة النووية الروسية قادرة على ردعه. بالنسبة إلى هؤلاء المتعصبين النوويين، ينبغي عدم حظر التصعيد، بل على العكس تماماً. ومن الناحية الرسمية، فإن العقيدة الروسية ليست واضحة في هذا الصدد. لا تزال نسخة 2020 من العقيدة النووية الروسية تستحضر «تصعيداً لخفض التصعيد» غامضاً، بما في ذلك استخدام الوسائل غير النووية.

وحسب قناة «رايبار» المقربة من الجيش الروسي على «تلغرام»، فإنه كان من الضروري إجراء تحديث لهذه العقيدة؛ لأن «التحذيرات الروسية الأخيرة لم تُؤخذ على محمل الجد».

ومن خلال محاولته إعادة ترسيخ الغموض في الردع، فإن فلاديمير بوتين سيسعى بالتالي إلى تثبيط الجهود الغربية لدعم أوكرانيا. وفي ظل حملة عسكرية مكلفة للغاية على الأرض، يرغب رئيس «الكرملين» في الاستفادة من الفترة الاستراتيجية الفاصلة بين نهاية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووصول الرئيس المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، الذي يتوقع منه بوتين مبادرات سلام محتملة لإنهاء الحرب.

يسعى بوتين، وفق الباحثة في مؤسسة «كارنيغي»، تاتيانا ستانوفايا، لوضع الغرب أمام خيارين جذريين: «إذا كنت تريد حرباً نووية، فستحصل عليها»، أو «دعونا ننهي هذه الحرب بشروط روسيا».