جاك دريدا محور العدد الجديد من «الثقافة الأجنبية»

جاك دريدا محور العدد الجديد من «الثقافة الأجنبية»
TT

جاك دريدا محور العدد الجديد من «الثقافة الأجنبية»

جاك دريدا محور العدد الجديد من «الثقافة الأجنبية»

صدر في بغداد عدد جديد من مجلة «الثقافة الأجنبية»، وهي المجلة التي تعنى بشؤون الثقافة والأدب والفنون في العالم. ويأتي العدد الثالث لهذا العام «ليواصل عملية الربط الجدلي بين ما هو أفقي ومتعدد ثقافياً من جهة، وما هو عمقي ويهدف إلى التركيز على قضايا ثقافية رصينة بغية جعلها بؤراً معرفية مشعة في الواقع الثقافي العراقي والعربي من جهة أخرى»، كما جاء في افتتاحية، رئيس التحرير الناقد والمترجم باقر جاسم التي قال فيها «إن من المرتكزات الأساسية في رؤية مجلة (الثقافة الأجنبية) لدورها الحضاري ما يتمظهر في التوكيد على أهمية الحفريات المعرفية والثقافية في جعل التفاعل بين ثقافتنا وثقافة الآخر أكثر إسهاماً في تطور وعينا ووعي الآخر بنا في الوقت نفسه وانطلاقاً من هذا الإدراك الواضح لهوية المجلة».
وتضمن العدد محوراً عن الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا حمل عنوان «جاك دريدا: الفيلسوف الأكثر جدلاً» من تحرير الدكتور رمضان مهلهل سدخان، وجاء الملف «ليلقي الضوء على ما أحدثه فيلسوف التفكيك من حراك عقلي ومعرفي في كثير من القضايا الخلافية في مجالات الفلسفة واللغة والأدب ونظرية المعرفة تمثل سمة أساسية في أعمال دريدا».
ونشرت المجلة أيضاً ملفاً عن القصة القصيرة، تم فيه البحث في السرد القصصي، ونظرية القصة القصيرة، والنق القصصي تطبيقاً على قصص ليف تولستوي القصيرة، فضلاً عن إلقاء الضوء على سيرة الكاتب «الصوت المنفرد» للناقد الآيرلندي فرانك أوكونور؛ وقد صدر الكتاب في العام 1962، فكان من أوائل ما كتب في حقل النقد القصصي.
وهذا المقال يتجاوز حدود عنوانه ليكون إشارة لما هو جديد في عالم الكتابة النقدية. ونشرت كذلك قصصاً قصيرة ثلاثاً، هي: «القنطور» لخوسيه ساراماغو، و«الموت والسيدة» للكاتب بن لوري، و«كلب بني غامق» لتكون المتن النصي للملف، وهي تظهر شيئاً من طاقات هذا الفن السردي العظيم.
وفي باب «دراسات»، نقرأ دراستين يجمع بينهما البحث في «الما بعديات»؛ الأولى «نظرية ما بعد الإنسان النقدية» من اختيار وترجمة الدكتور أماني أبو رحمة، والأخرى «مسألة ما بعد الاستعمار» من اختيار وترجمة الدكتور سامية عليوي. وتكشف هاتان الدراستان عن ذلك الارتباط الوثيق بين الثقافي بالسياسي، سواء أكان ذلك ضمناً أو صراحة.
وفي باب «حوارات»، نشرت المجلة مقابلة مع أوليفرا كلويك، تحدث فيها عن «ألبير كامو والتخيلات الإمبراطورية». وفي باب «المتابعات والعروض»، يناقش ألفريد بستر فكرة أن الفيلسوف الفرنسي ساتر لم يكن ماركسياً كما قد يعتقد البعض، كما نقرأ وصية نيكولاي فلسيليفيتش غوفغول التي تنطوي على إبعاد فكرية وفنية وإنسانية نبيلة، ونطلع على شيء من أسرار حياة تِ. إس. إليوت في علاقته بالمرأة التي كانت ملهمة له، وذلك من خلال مقالة مهمة نشرت بالإنجليزية قبل بضعة أشهر.
واحتفاء بمرور أربعين عاماً على صدور مجلة الثقافة الأجنبية، وتحت عنوان «من ذاكرة الثقافة الأجنبية»، أعيد نشر دراستين منشورتين في العدد الأول للمجلة الذي صدر في نهاية العام 1980؛ الأولى تحت عنوان «الكاتب والناقد» للمفكر المجري الشهير جورج لوكاتش، ترجمة الدكتور صالح جواد كاظم، والثانية تحت عنوان «كيف نقرأ الصخب والعنف» للكاتب ليون إيدل.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟