روبرت بلاي الشاعر الأميركي الذي انتقد حروب بلاده

رحل عن 94 عاماً

روبرت بلاي
روبرت بلاي
TT

روبرت بلاي الشاعر الأميركي الذي انتقد حروب بلاده

روبرت بلاي
روبرت بلاي

توفي روبرت بلاي، شاعر ولاية مينيسوتا، المؤلف والمترجم الذي منح العزلة والمشاهد الطبيعية لغة، حشد الاحتجاجات ضد حرب فيتنام وبدأ حركة رجالية مثيرة للجدل بكتاب شديد الرواج دعا إلى استعادة القوة الذكورية الأولى. توفي بلاي في بيته بمينيابوليس وهو في الرابعة والتسعين.
قد يظن المرء بتأمل حجم أعماله - أكثر من 50 مجموعة شعرية وترجمات لكتاب أوروبيين وأميركيين لاتينيين، وتعليقات نثرية على الأدب، والأدوار الجنوسية والأمراض الاجتماعية، بالإضافة إلى مجلات الشعر التي حررها على مدى عقود - أنه إزاء رجل منعزل في كوخ بأحراش شمالية. كان بلاي لسنوات عديدة في بلدة صغيرة في مينيسوتا يغمر نفسه في شعر الحقول الصامتة ومساحات الأحراش المغطاة بالثلوج.
لكنه في ستينات القرن العشرين خرج يزأر في الوعي القومي بشعر حر مناهض للحرب ومهاجم للرئيس ليندون ب. جونسون ووزير الدفاع روبرت ماكنمارا والجنرال وليم س. ويستمورلاند، القائد في فيتنام. ولم ينثنِ قلمه عن مهاجمة آلة الحرب الأميركية:
تقلع المحركات الهائلة على نحو جميل من منصة الإقلاع،
تبدو الأجنحة فوق الأشجار، أجنحة بثمانمائة برشام، محركات تحرق آلاف الجالونات من البنزين في الدقيقة وهي تمر فوق أكواخ بأرضيات متسخة.
في عام 1966، شارك بلاي في تأسيس جمعية «كتاب أميركيون ضد حرب فيتنام» وتجول في البلاد يحرض على المعارضة بقراءات شعرية في حرم الجامعات وفي القاعات البلدية بالمدن. نال جائزة الكتاب الوطني للشعر لمجموعته «الضوء المحيط بالجسد» (1967)، وتبرع بجائزته البالغة 1000 دولار لمقاومة التجنيد.
في خطوة مفاجئة أخرى عام 1990، نشر بلاي ما أصبح أشهر أعماله، «جون الحديدي: كتاب عن الرجال»، الذي استقى مادته من الأساطير والحكايات المتوارثة والشعر والعلم وعلى نحو يدفع بقضية أن الرجال الأميركيين صاروا رخوين وأنثويين وبحاجة من ثم إلى أن يعيدوا اكتشاف فضائلهم البدائية من الصرامة والقوة، وبذا يستعيدون ثقتهم بأنفسهم، الثقة التي تغذي الآباء والرعاة.
لمس الكتاب وتراً حساساً فصار على قائمة «نيويورك تايمز» لأفضل الكتب مبيعاً لـ62 أسبوعاً منها 10 أسابيع وهو رقم 1، كما ترجم إلى عدة لغات.
ظهر بلاي في كثير من الصحف والمجلات وخصص له لقاء خاص مدته 90 على قناة «بي بي إس» PBS (العامة) مع بل مويرز (Moyers) الذي أطلق عليه صفة «الشاعر الأكثر تأثيراً في عصرنا». صار ظاهرة ثقافية، شخصية أبوية للملايين. وعقد ندوات بحثية ومعتزلات في نهاية الأسبوع للرجال فقط، حيث كان يجتمع غالباً مع الرجال حول نيران المخيمات في الأحراش ينقرون على الطبول، ويلبسون الأقنعة، يتعانقون، ويرقصون، ويقرأون الشعر بصوت عالٍ.
قال إن «حركة الرجال الأسطوشعرية (mythopoetic)» التي قادها لم يقصد بها تحريض الرجال على النساء. لكن كثيراً من النساء وصفوها بالمحبطة، وبأنها ارتداد لعادة الأسلاف في مقابل الحركة النسوية. سخر منها رسامو الكاريكاتير وضيوف برامج الحوار، واصفينها بمجرد عناق للأشجار تلهو به الطبقة الوسطى من مواليد ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكان من السهل السخرية من بلاي، «الغورو» بشعره الأبيض ومشيته المتثاقلة، بعزفه على البزق وارتدائه سترات ملونة، فوصفوه بأنه هو جون الحديدي، الرجل ذو الشعر الطويل الذي يظهر في الأساطير الألمانية معيناً للأمراء الضائعين في مهامهم.
لم يخفف ذلك من حماسة بلاي واستمر في إقامة وُرَشهِ لعدة سنوات بتركيز أكثر تواضعاً. تخلى عن الطبول، لكنه واصل استعمال الأساطير والشعر ودعا النساء والرجال لمناقشة جملة من القضايا منها الأبوة والعنصرية.
واستمر كذلك في كتابة أنهار من الشعر، وتحرير المجلات وترجمة الأعمال من السويدية والنرويجية والألمانية والإسبانية، وفي تسطير المناحات.
في «مجتمع الأخوة» (1996)، دعا بلاي إلى الإشراف على جيل من الأطفال الذين يكبرون بلا آباء، أطفال تشكلهم بدلاً من الآباء موسيقى الروك، وأفلام العنف، والتلفزيون والكومبيوترات، ليستمروا فيما وصفه بحالة مراهقة دائمة.
لكنه رأى الأمل.
قال لـ«نيويورك تايمز» عام 1996: «إن أعظم تأثير رأيناه هو في الشباب الأصغر سناً المصممين على أن يكونوا آباءً أفضل من آبائهم».
ولد روبرت إلوود بلاي في مقاطعة «لاك كي بارلي» غرب مينيسوتا في 23 ديسمبر (كانون الأول) عام 1926 لفلاحَين نرويجيين، يعقوب وأليس (أوس) بلاي. تخرج في مدرسة ماديسون الثانوية في مينيسوتا (سكانها 600 شخص) عام 1944. خدم في البحرية سنتين ثم درس لسنة واحدة في كلية سانت أولاف في نورث فيلد بمينيوستا. انتقل بعد ذلك إلى هارفارد.
في مقالة نشرت بـ«نيويورك تايمز» عام 1984 قال مستذكراً: «ذات يوم بينما كنت أدرس قصيدة لييتس قررت أن أكتب الشعر بقية حياتي». «أدركت أن قصيدة واحدة قصيرة تتسع للتاريخ والموسيقى وعلم النفس والفكر الديني والتأمل في عوالم السحر وشخصية الإنسان وما في حياته من أحداث».
بعد تخرجه عام 1950، أمضى عدة أعوام في نيويورك يغمر نفسه بالشعر.
في عام 1955 تزوج الكاتبة كارول ماكلين. أنجبا أربعة أطفال، بريجيت، وماري، وميكاه، ونوح، وتطلقا عام 1979. في عام 1980 تزوج روث ري، وهي محللة نفسية تتبع مدرسة يونغ. الأحياء من أسرته الآن هم زوجته روث وأبناؤه، إلى جانب ابنة متبناة هي ويزلي دوتا وتسعة أحفاد. في عام 1984 توفي ابن له بالتبني هو ساميول ري.
حصل بلاي على درجة الماجستير في ورشة للكتابة تتبع جامعة آيوا عام 1956. وفي عام 1958 أسس مجلة للشعر، هي «الخمسينات»، التي استمرت لتصير «الستينات» ثم «السبعينات» ثم «الثمانينات». نشرت المجلة أعمالاً لفيديريكو غارسيا لوركا وبابلو نيرودا وآخرين كثيرين.
في سبعينات القرن الماضي، كتب 11 كتاباً تضم الشعر والمقالات والترجمات، مبحراً في الأساطير والتأملات والشعر الهندي الإشراقي. في ثمانينات وتسعينات القرن أنجز 27 كتاباً من بينها «الرجل الذي يرتدي المعطف الأسود يستدير» (1981)، و«الوقوع في حب امرأة في عالمين» (1985)، و«قصائد مختارة» (1986).
حصل بلاي، الذي امتلك منازل في مينيابوليس وعلى بحيرة موس، في مينيسوتا، على عدة جوائز وكان موضوعاً لكثير من الكتب والمقالات.
سافر في السنوات الأخيرة للعديد من الأماكن محاضراً وقارئاً للقصائد ومشاركاً في حوارات، وفي عام 2008 سماه حاكم مينيسوتا تم بولينتي أول شاعر بلاط للولاية. في 2004 نشر «جنون الإمبراطورية: كتاب قصائد ضد الحرب في العراق»، مشيراً في المقدمة باشمئزاز إلى أن القليل قد تغير منذ فيتنام.
كتب: «ما زلنا معصوبي الأعين، ما زال حكماء هذا العالم يقودوننا».
* عن «نيويورك تايمز»



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.